نقاشات النظام الداخلي لمجلس النوّاب في السبعينيات


2023-12-18    |   

نقاشات النظام الداخلي لمجلس النوّاب في السبعينيات

تهدف هذه الدراسة إلى استكمال العرض التاريخي الذي قدّمَتْه الورقة البحثية عبر استعراض أبرز المُناقشات التي جرت في لجنة النظام الداخلي بين عامَي 1972 و1973 حول تبنّي نظام داخلي جديد لمجلس النوّاب. ولا شكّ في أنّ توافُر محاضر[1] اجتماعات لجنة النظام الداخلي هو استثناء طالما أنّ اجتماعات اللجان سرِّية، وما كان لهذه المحاضر أن تُنشَر لولا قرار من رئيس المجلس آنذاك كامل الأسعد. وهذا ما يظهر جليًّا في الكلمة الافتتاحية للمُستشار القانوني في مجلس النوّاب ومدير مجلّة الحياة النيابية بشارة منسّى إذ قال “لقد شاء دولة الرئيس أن نورد في “الحياة النيابية” جميع مضامين هذه الجلسات للجان المجلس، لا سيّما وأنّها قد تُمسي مرجعًا لا يُستهان به لدراسة مُقوِّمات الحياة السياسية اللبنانية وأهداف المُشترِع الأساسية عندما وضع لنفسه نظامًا هو للمجلس بمثابة دستوره الداخلي”[2]. إنّ تحليل محتوى هذه المحاضر يعكس صورة عن حياة المجلس النيابي في خضمّ مُمارسته مهامَّه، وهي تُلقي الضوء على الإشكاليات الكبرى التي انقسم حولها النوّاب، وتعكس ما كانت عليه الهواجس السياسية والدستورية التي كانوا يعبِّرون عنها خلال تباحثهم في النظام الداخلي.

وفي التفاصيل، فقد اجتمعت لجنة النظام الداخلي (التي أُلغيَت في تعديل للنظام الداخلي تمّ في 31 تشرين الأوّل 2000) في جلسات مُتعدِّدة بين 27 تشرين الأوّل 1972 و6 نيسان 1973 ناقشت فيها مشروع نظام داخلي جديد قدّمه وزير العدل آنذاك النائب بشير الأعور، وقارنته مع النظام الذي كان يُعمَل به العائد إلى العام 1953 ومع مشروع النائب الراحل أنور الخطيب. وبحسب محضر هذه الجلسات، كان أبرز المشاركين في النقاشات الوزير الأعور، كذلك رئيس المجلس كامل الأسعد الذي ترأس هذه الجلسات، والنائب مخايل الضاهر الذي كانت له مداخلات بارزة عاكس فيها مشروع الأعور، والنائب حسن الرفاعي، وهو رئيس لجنة النظام الداخلي، الذي كان يُبدي آراءه أيضًا بصفته خبيرًا قانونيًّا، والنائب طارق حبشي، والنائب أحمد إسبر، والنائب عبده عويدات رئيس لجنة الإدارة والعدل، بالإضافة إلى الخبير القانوني المُعتمَد من قِبَل المجلس جوي تابت الذي كلّفَته اللجنة إعادة صياغة العديد من النصوص وطرحها مُجدَّدًا على بساط البحث.

وبقيت هذه النقاشات من دون نتيجة عمليّة مباشرة، كون المجلس النيابي استمرّ بالعمل بنظامه العائد إلى العام 1953 حتّى العام 1982 حين أقرّ النظام الداخلي الجديد، لأنّ المُقرَّرات التي تصدر عن اللجان غير مُلزِمة إن لم تخضع لتصديق الهيئة العامة للمجلس. أمّا وبعد انتهاء النقاشات في اللجنة عام 1973، فلم يُعرَض المشروع على الهيئة العامة إلّا في تاريخ 9 كانون الثاني 1975، حين بدأ التصويت على الموادّ. إلّا أنّ الجلسات التالية لم تلتئم بسبب عدم اكتمال النصاب بالرغم من النداءات المُتكرِّرة لرئيس المجلس. ومن ثمّ اشتعلت حرب 1975-1990 في نيسان من العام نفسه وانتشر العنف المُسلَّح، ما منع مجلس النوّاب من إكمال البحث في نظامه الداخلي الجديد. 

وبالعودة إلى محضر مجلس النوّاب في جلسته المُنعقِدة في تاريخ 22 نيسان 1982، يتبيّن أنّ اللجان المُشترَكة (المُتشكّلة من هيئة مكتب المجلس ولجنة النظام الداخلي ولجنة الإدارة والعدل) اجتمعت بين الثامن عشر من آذار والأوّل من نيسان 1982 برئاسة رئيس مجلس النوّاب كامل الأسعد “لمناقشة مشروع النظام الداخلي الذي كانت قد أقرّته اللجان المُشترَكة، في تاريخ 22 حزيران 1973. وبعد الدرس والتدقيق وسماع رأي السادة النوّاب، أقرّت اللجان مشروع النظام بعد أن أدخلت عليه التعديلات اللازمة”. وبعد نقاش مُقتضَب، تمّ التصويت على منح المشروع صفة الاستعجال المُكرَّر، ومن ثمّ جرى التصديق على النظام الداخلي بمادّة وحيدة.

وإذ عكست هذه النقاشات الإشكاليات الكبرى التي كانت سائدة في مطلع السبعينيّات، فإنّه لا يمكن فصل وجود مشروع نظام داخلي جديد عن تولّي كامل الأسعد رئاسة مجلس النوّاب في العام 1970 وإعلانه، في أكثر من خطاب له، ضرورة إدخال إصلاحات في طريقة عمل المجلس وإدارته من أجل مأسسته وتمكينه من القيام بدوره الدستوري بشكل فعّال. وكان الرئيس كامل الأسعد قد شكّل، بُعَيد انتخابه رئيًسا للمجلس في تشرين الأوّل 1970، بموجب القرار رقم 16 تاريخ 3 كانون الأوّل 1970، لجنة نيابية “منوط بها دراسة مشروع جديد للنظام الداخلي”. وقد شرح رئيس المجلس في جلسة 8 كانون الأوّل 1970 الهدف من هذه اللجنة قائلًا إنّه “أُنيطَ بها النظر في النظام الداخلي من أساسه (…) وطلب إليها أن تضع مشروعًا جديدًا للنظام الداخلي في ضوء التجربة التي مرّ بها هذا المجلس، سواء أكان في هذه الولاية أم في الولايات السابقة. ولكن بما أنّ هذه اللجنة يُطلب إليها حتّى تتمكّن من أن تأتي بعمل مدروس بعمق وعلى المدى البعيد، يجب أن تُعطى الوقت الكافي، هذا الوقت قد يمتدّ إلى الدورة المُقبِلة لهذا المجلس”. غير أنّ محاضر لجنة النظام الداخلي التي بحوزتنا لا توضح ما أسفر عنه عمل هذه اللجنة بالتحديد، بل تكتفي بنقل مُداوَلات النوّاب المُجتمِعين عند البدء بنقاش مشروع وزير العدل بشير الأعور.

جرّاء ما تقدّم، كان من الضروري عرض أبرز محاور النقاش في لجنة النظام الداخلي، مع التذكير بأنّ ذلك تمّ مباشرة بعد انتخابات نيابية عامة جرت في نيسان 1972، وهي آخر انتخابات قبل اندلاع الحرب وتمديد ولاية مجلس النوّاب التي استمرّت حتّى العام 1992. 

  • حضور الجلسات والتغيُّب عنها والعقوبة المفروضة

شكّل موضوع حضور النوّاب جلسات الهيئة العامة مسألة خلافية بين النوّاب. فحضور النائبِ الجلسات، والتغيُّب عنها، والعقوبات التي يمكن فرضها عليه، هي من الأمور التي كان يلحظها النظام الداخلي، وقد تناولها مشروع النظام الجديد.

فهل يكون النائب مُلزَمًا بحضور جلسات الهيئة العامة؟ وهل يُعاقَب على تخلُّفه عن ذلك؟ رأى رئيس المجلس كامل الأسعد أنّه يجب اعتماد مبادئ أساسية في النظام الداخلي أهمّها إلزامية الحضور والمشاركة في النقاش والتصويت، ووجوب الاعتذار عن عدم الحضور بطريقة خطِّية مُرفَقًا بأسباب مشروعة، وفرض عقوبة حسم لا تقلّ عن 5% من قيمة راتب النائب في حال التخلُّف عن ذلك من دون عذر (من دون تحديد عدد الجلسات التي تستوجب إنزال العقوبة في حال عدم الحضور).

وكان من اللافت مُجابَهة طروحات رئيس المجلس بإثارة موضوع رواتب النوّاب والاقتطاع منها كعقوبة تأديبية، إذ قال النائب مخايل الضاهر إنّه يجب النظر في وضع النائب الاجتماعي وزيادة راتبه وتعويضاته في حال أراد المجلس فرض عقوبة الاقتطاع من راتبه، على أساس أنّ الوضع الاجتماعي للنائب اللبناني يختلف عن وضع أمثاله في دول العالم، وقد أيّده في الطرح النائب عبده عويدات.

ولا شكّ في أنّ هذا الموقف يعكس النظرة إلى دور النائب في النظام السياسي اللبناني الذي يقوم بدور خدماتي يفرض عليه تخصيص القسم الأكبر من وقته لمنطقته الانتخابية ومعالجة مشاكلها وتلبية طلبات ناخبيه. كذلك يطرح هذا النقاش مسألة التركيبة السوسيولوجية لمجلس النوّاب من حيث وجود نوّاب مُحترِفين ينحصر دخلهم بمُخصَّصاتهم المالية ونوّاب لا يحتاجون إلى هذا الدخل كونهم ينتمون إلى طبقة أصحاب الأعمال وملّاك الأراضي وأصحاب المداخيل الكبيرة حيث تُعَدّ الوظيفة النيابية تعبيرًا عن الوجاهة وعن نفوذهم السياسي.   

فقد اعتبر مثلًا النائب فؤاد الطحيني أنّ الواجبات الاجتماعية المفروضة على النائب قد تمنعه من حضور بعض جلسات التشريع. وقد قوبل ذلك بردّ من الرئيس كامل الأسعد الذي رأى أنّه يجب على النائب القيام بدوره التشريعي قبل قيامه بواجباته الاجتماعية: فإذا أراد أن يجعل الواجبات الاجتماعية تتقدّم على دوره الأساسي في التشريع وجب عليه تحمُّل تَبِعة ذلك. ولا تزال هذه المُعضِلة قائمة لا بل جوهرية بالنظر إلى أداء بعض النوّاب في موضوع حضور جلسات اللجان وجلسات الهيئة العامة[3]، إذ يظهر أنّ أعضاء الكتل النيابية في المجلس الحالي يتقاسمون الأدوار بين نوّاب مُشرِّعين يقدّمون الاقتراحات ويحضرون اللجان وينخرطون في العمل التشريعي، ونوّاب “خدماتيين” يرعون العلاقات الزبائنية مع ناخبيهم.

ومن المُلاحَظ تركيز النقاش على التغيُّب عن الجلسات التشريعية التي تشكّل، وللمفارقة، جوهر العمل النيابي؛ إذ إنّ جلسات النقاش العام وتوجيه الأسئلة إلى الحكومة تمتاز بتغطيتها عبر وسائل الإعلام وإمكانية إلقاء الخطب السياسية وانتقاد الوزراء، في حين أنّ العمل التشريعي لا يحظى بالمقدار نفسه من الحضور الإعلامي ويتطلّب جدِّية في النقاش ومعرفة في المواضيع المطروحة، ما قد يفسّر عدم حماستهم في حضور الجلسات التشريعية.

وفي ختام التباحث حول هذا الموضوع، صدّقت اللجنة على موادّ تُعاقِب النائب المُتغيِّب لأكثر من جلستَين في الدورة من دون عذر باقتطاع نسبة خمسة في المئة من راتبه عن كلّ جلسة، وهذا ما تكرّس في المادّة 70 من النظام الداخلي الذي أُقِرَّ لاحقًا في العام 1982 كما رأينا. يُشار إلى أنّه تمّ إلغاء عقوبة الحسم من الراتب عند تعديل النظام الداخلي في تاريخ 6 حزيران 1991.

في إطار مُشابِه، ألغت اللجنة المادّة 221 من المشروع، والتي كانت تحرم النائب من جزء من راتبه عند تعرُّضه لعقوبة الإخراج أو المنع من حضور الجلسات، وذلك بحجّة أنّها “تمسّ النائب”.

  •          في الحصانة النيابية ورفعها

تطرّقت لجنة النظام الداخلي في معرض مُناقشَتها مشروع الوزير بشير الأعور إلى حصانة النوّاب، بحيث صدّقت على مادّة تنصّ على استمرار مُلاحَقة النائب إذا ما تمّت مُلاحَقته بالجرم المشهود أو خارج دورات انعقاد المجلس أو قبل انتخابه نائبًا. بيد أنّ للمجلس الحقّ في إقرار وقف مُلاحَقة النائب وإخلاء سبيله إذا كان موقوفًا، وذلك طيلة مدّة دورة انعقاد المجلس حتّى نهايتها.

وقد أثار موضوع الحصانة جدلًا بين النوّاب عندما جرى النقاش في مادّة تنصّ على أنّ مبدأ الحصانة النيابية مُتعلِّق بالانتظام العام، وأنّ للمجلس أن يرفض رفعها حتّى ولو وافق النائب المعني على الطلب. عندها أعاد النائب طارق الحبشي التذكير بنقاش حصل في الماضي بشأن حصانة النائب رفعت قزعون، مُعتبِرًا أنّ رفض طلب النائب في هذه الحالة قد يحرمه من حقّه في الدفاع عن نفسه وفي إظهار براءته، ما يعود بالظلم عليه. غير أنّ الوزير الأعور أصرّ على أنّ موضوع الحصانة مُتعلِّق بالانتظام العام، وهو الموقف المعمول به فقهًا واجتهادًا. فحصانة النائب النيابية ليست حقًّا شخصيًّا بإمكانه التنازل عنها، بل هي من الأمور المُتعلِّقة بالوظيفة النيابية، أي بطبيعة عمله كنائب، ما يعني أنّها تخصّ المجلس النيابي ككلّ، والذي يعود إليه حصرًا رفعها عن أحد أعضائه لارتباطها بحرِّيّة النائب وقدرته على ممارسة دوره النيابي. لذلك، لا تستقيم نظرية تحكُّم النائب في حصانته ومنع مجلس النوّاب من رفض رفعها في حال جاء الطلب من النائب نفسه، بل تبقى الحصانة بيد المجلس الذي يُتوجَّب عليه مُناقشَتها وله كامل الحرِّية في اتّخاذ القرار المُناسِب برفعها أو بالامتناع عن ذلك. وفي النهاية، أقرّت اللجنة المادّة مُعدّلةً، فنصّت على أنّ “مبدأ الحصانة النيابية مُتعلِّق بالانتظام العام”.

ومن النقاط البارزة بخصوص موضوع الحصانة في اقتراح النظام الداخلي إعطاءُ الحقّ لأيّ كان في أن يتقدّم بطلب رفع الحصانة عن النائب شرط أن يُثبت أنّه مُتضرِّر، وأنّه أقام الدعوى الجزائية أمام السلطات القضائية، وأنّها اصطدمت بالحصانة النيابية، وأنّ الأمر يستوجب اجراءً عاجلًا. وقد كان الهدف من هذه المادّة الانتقال من وضع قانوني يحصر الحقّ في طلب رفع الحصانة بوزير العدل الذي يُحيل الملفّ إلى مجلس النوّاب إلى وضع يُمكِن فيه للمُواطِنين والأفراد العاديين التقدُّم مباشرة بهذا الطلب من دون المرور بالنيابة العامة التمييزية ووزارة العدل كما هي الحال اليوم. لكنّ أعضاء اللجنة اعتبروا أنّ هذا الأمر يفتح المجال لـ”شرشحة” النائب وإهانته، لأنّه بمستطاع أيّ فرد أن يُقيم دعوى اعتباطية بوجه النائب من أجل تحقيق غايات خاصة لا علاقة لها بالعدالة، ما دفعهم إلى إلغائها.

  •          الاستقلالية المالية لمجلس النوّاب

نصّ مشروع النظام الداخلي، بشأن موازنة المجلس النيابي وكيفيّة إعدادها، على أن “تُعِدّ عمدة المجلس[4]، بالاشتراك مع المُفوَّضين، مشروع موازنة المجلس ضمن حدود الاعتمادات التي تتّفق عليها مع الحكومة”. وقد اعترض الرئيس كامل الأسعد على ذلك مُعتبِرًا أنّ السلطة التشريعية تتمتّع بالاستقلال التامّ عن السلطة التنفيذية، وذلك بموجب القانون[5] الصادر في 14 تشرين الأوّل 1943 والذي يُثبِت هذا الاستقلال بخصوص الملاك الإداري للسلطة التشريعية. وقد عُدِّلت المادّة في المشروع بطلب من الأسعد فباتت تنصّ على أن “تُعِدّ هيئة مكتب المجلس مشروع موازنته”.

ولا شكّ في أنّ النقاش حول الاستقلالية المالية لمجلس النوّاب تمّ بشكل لا يعطي القارئ التفاصيل المطلوبة. فانفراد مجلس النوّاب بوضع موازنته لا يعني أنّ لدى هذا الأخير موازنة مُستقِلّة عن موازنة الدولة؛ إذ يُفترَض أن تلتزم وزارة المالية بتضمين مشروع قانون الموازنة العامة الأرقام التي تَرِدُها من مجلس النوّاب بخصوص موازنته من دون التدخُّل بها أو طلب مراجعتها[6]. فمن الناحية الشكلية، تشارك الحكومة في وضع موازنة المجلس كونها الجهة التي منحها الدستور صلاحية تقديم مشروع قانون موازنة كلّ نفقات ومداخيل الدولة إلى مجلس النوّاب، أمّا من الناحية الفعلية فتكتفي وزارة المالية بتبنّي الموازنة التي يضعها مكتب مجلس النوّاب.

  •     جدل عقيم في صلاحية السلطة التنفيذية تقديمَ مشاريع القوانين

لم يقتصر النقاش في اللجنة على المواضيع التي تخصّ النظام الداخلي حصرًا، بل انسحب إلى المواضيع الدستورية التي كانت تثير حينها إشكاليات تتعلّق بالتوازن السياسي القائم في لبنان. ومن أبرز تلك المواضيع الجدل الذي دار بين النوّاب حول الجهة التي تتمتّع بصلاحية تقديم مشاريع القوانين. فبينما نصّ مشروع النظام الداخلي في مادّته 81 على أنّها تعود إلى الحكومة، تمسّك النائب مخايل الضاهر بقراءة حرفية للمادّة 18 من الدستور[7]، معتبرًا أنّها تولي هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية فقط. أمام هذه المُعضِلة، ظهرت تساؤلات مُختلِفة حول كيفيّة ممارسة رئيس الجمهورية صلاحياته الدستورية، فهل له يمارسها بمفرده من دون أن يحتاج إلى موافقة وتوقيع أيّ من أعضاء السلطة التنفيذية الآخرين أم أنّه مُلزَمٌ بالتعاون مع رئيس مجلس الوزراء والوزراء المعنيين بممارستها؟

برزت في هذا النقاش حجج مُتعدِّدة هدفت إلى ترجيح رأي على آخر. ومن تلك الحجج ما أدلى به النائب مخايل الضاهر الذي تمسّك بحرفية نصّ الدستور، مشيرًا إلى أنّ الدستور يميّز الصلاحيات التي تُمارَس جماعيًّا من تلك الخاصة برئيس الجمهورية التي يمارسها مُنفرِدًا. وقد رفض النائب حسن الرفاعي هذه الحجّة إذ قال بوجود تفسير وعُرف أقوى من الدستور يعتبر أنّ الحكومة هي التي ترسل مشاريع القوانين. بينما اعتبر وزير العدل بشير الأعور أنّ “رئيس الجمهورية لا يحكم مباشرة، بل يحكم بواسطة الحكومة”، وهو الموقف السليم عملًا بقواعد النظام البرلماني. وأضاف رئيس المجلس كامل الأسعد أنّ النظام البرلماني المعمول به في لبنان يعتبر أنّ “رئيس الجمهورية غير مسؤول عن العمل التنفيذي، فالحكومة مسؤولة أمام مجلس النوّاب، فهذه القواعد هي أقوى من أيّ نصّ”.

والحقيقة أنّ مشاريع القوانين التي تتقدّم بها السلطة التنفيذية تُحال إلى مجلس النوّاب بمرسوم، ما يعني أنّ العمل يصدر عن رئيس الجمهورية لكنّه لا ينفرد به، إذ ينبغي أن تقترن كلّ أعمال رئيس الجمهورية بتوقيع الوزير المُختَصّ عملًا بالمادّة 54 من الدستور. لذا لا يمكن فهم موقف النائب مخايل الضاهر إلّا إذا اعتبرنا أنّه عنى بذلك أنّ مشاريع القوانين يقدّمها رئيس الجمهورية مُنفرِدًا من دون أيّ توقيع وزاري، وهذا ما يخالف في الوقت نفسه الأسس التي يقوم عليها النظام البرلماني والتجربة الدستورية في الجمهورية الثالثة الفرنسية حيث كانت كلّ مشاريع القوانين تُقدَّم باسم رئيس الجمهورية لكن بعد توقيعها من الوزير المُختَصّ. 

ولا شكّ في أنّ هذا الانقسام في لجنة النظام الداخلي كان يعكس الجدل السياسي حينها حول التوازن الطائفي بين صلاحيات رئيس الجمهورية الذي ينتمي إلى طائفة مُعيَّنة وصلاحيات الحكومة، لا سيّما رئيس مجلس الوزراء، وضرورة تأمين مشاركة هذا الأخير في الحكم بوصفه مُمثِّلًا لطائفته.

ومن جهة ثانية، نلاحظ استخدام مفهوم العُرف بشكل لافت لتفسير دور الحكومة إلى جانب رئيس الجمهورية. وقد تطوّر هذا النقاش ليشمل موضوع الأعراف الدستورية وماهيّتها وما إذا كانت تغلب على النصوص الدستورية، بحيث اعتبر النائب حسن الرفاعي أنّ العُرف والتفسير أقوى من الدستور. وقد شاطره الرأي رئيس المجلس الذي رأى أنّه، في حال مُعارَضة العُرف للدستور، يؤخذ بالعُرف ولو كان النصّ يشمل صلاحية دستورية لرئيس الجمهورية. وقد أعطى في هذا الشأن مثلًا حول تسمية الوزراء من قبل رئيس الجمهورية بالاستناد إلى اقتراح رئيس مجلس الوزراء المُكلَّف. وقد اعتبر رئيس المجلس في السياق عينه أنّ موضوع عدم مسؤولية رئيس الجمهورية أمام المجلس في النظام البرلماني هي “قاعدة أقوى من النصّ”.

والحقيقة أنّ هذا الجدل يخلق إشكاليات دستورية لا أساس لها على الرغم من أبعادها السياسية التي يمكن فهمها في السياق الذي قيلت فيه. فمن المعلوم أنّ رئيس الجمهورية يمارس سلطته من خلال الحكومة، وأنّ توقيع الوزراء على مشاريع القوانين ليس عُرفًا كونه يستند إلى المادّة 54 من الدستور نفسه. لذلك يمكن توصيف نقاش النوّاب بأنّه يتّسم بانعدام الدقّة ويؤدّي إلى إيجاد مُعضِلات دستورية وهمية. علاوة على ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأعراف الدستورية قد تكون مُكمِّلَةً للدستور ولكن لا يمكن لها أن تخالف الأحكام الدستورية بشكل مباشر.

ومن الأفكار الخاطئة التي طُرحت أيضًا ممارسة رئيس الجمهورية صلاحية العفو الخاص بمفرده، حيث اعتبر مخايل الضاهر أنّ توقيع وزير العدل على مرسوم العفو لزوم ما لا يلزم لأنّه يمكن لرئيس الجمهورية استصدار العفو بمفرده انطلاقًا من نصّ الدستور؛ ويُعَدُّ هذا الرأي أيضًا من التفسيرات الخاطئة لأنّ العفو يتمّ بمرسوم، ما يُدخله في عداد المُقرَّرات التي تحتاج إلى التوقيع الوزاري. على إثر هذا النقاش، تقرّر الاكتفاء بالإشارة إلى أنّ المشاريع والاقتراحات تُقدَّم بواسطة رئيس المجلس من دون تحديد ما إذا كانت المشاريع تصدر عن الحكومة والاقتراحات عن النوّاب كما ورد في النصّ الأصلي[8].

  •          النوّاب يفسّرون الدستور من خلال النظام الداخلي

تناقش النوّاب في تَبِعات المادّة 58 من الدستور التي تجيز للحكومة إعطاء صفة الاستعجال لمشروع قانون، ما يسمح لها، بعدَ مضيّ 40 يومًا من طرحه على المجلس النوّاب من دون أن يبتّ به، بأن تنشره، ما يجعله نافذًا حتّى لو لم يقرّه هذا الأخير. وقد استفاض النوّاب في هذا النقاش كون المادّة 58 باتت ظاهرة دستورية فريدة نظرًا إلى تداعياتها على العلاقة بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية. ولمّا كانت بداية سَرَيان مهلة الأربعين يومًا غير واضحة في النصّ الدستوري، لجأت الحكومات إلى إرسال عشرات مشاريع القوانين المُعجَّلة غير آبِهة بقدرة المجلس على دراستها ضمن المهلة الدستورية، ومن ثمّ وضعها موضع التنفيذ عبر إصدارها بمرسوم، ممّا أدّى، وفق بعض النوّاب، إلى تهميش المجلس النيابي.

ومن دون الدخول في التفاصيل الدستورية لهذه المسألة، من اللافت أنّ هذا الواقع دفع بالنوّاب إلى مُحاوَلة استخدام النظام الداخلي الجديد للحدّ من التفسير الواسع الذي تعتمده الحكومة بالنسبة إلى سَرَيان مهلة الأربعين يومًا، فقرّرت اللجنة تضمين النظام مادّة تنصّ[9] على أن “لا تبدأ مهلة الأربعين يومًا إلّا من تاريخ طرح المشروع على المجلس في أوّل جلسة تُعقَد بعد وروده”؛ ما يعني أنّ المشروع يجب أن يمرّ باللجان النيابية، ومن ثمّ يضعه مكتب المجلس على جدول الأعمال فيُطرَح على الجلسة، حينها فقط تبدأ المهلة الدستورية بالسَرَيان.

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المثال يطرح إشكالية علاقة الدستور بالنظام الداخلي، وجواز استخدام هذا الأخير من أجل حسم نقاط دستورية هي موضع خلاف بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية. فبغضّ النظر عن ممارسة الحكومة التي جنحت إلى إغراق المجلس بقوانين مُعجَّلة، يُظهر الجدل الذي دار بين النوّاب حول المادّة 58 ضرورة وجود جهة مُحايِدة تتولّى حسم الخلافات التي قد تنشب بين مجلس النوّاب والحكومة بخصوص تفسير الدستور، لا سيّما في المواضيع المُتعلِّقة بآليّات التشريع.

بالإضافة إلى مسألة تفسير المادّة 58 من الدستور من خلال النظام الداخلي، تطرّق النوّاب أيضًا في معرض نقاشهم حول نصاب جلسات الهيئة العامة إلى المادّة 24 من الدستور التي تنصّ على الآتي: “لا يكون اجتماع المجلس قانونيًّا ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلّفونه”؛ ذلك أنّ الحياة النيابية حينها كانت تعاني من ظاهرة عُرِفت بسياسة “تطيير” الجلسات بإفقادها النصاب القانوني كسلاح يستخدمه المُتضرِّرون من التصويت على الاقتراحات أو المشاريع، وقد اتّخذ ذلك بعدًا أكثر خطورة مع حادثة مُقاطَعة جلسة الثقة بحكومة الرئيس أمين الحافظ التي تشكّلت في 25 نيسان 1973 والتي لم تتمكّن من المثول أمام المجلس النيابي لنيل الثقة بسبب مُقاطَعة النوّاب الذين ينتمون إلى الطائفة السنِّية المحتجّين على شخصية رئيسها.

انطلاقًا من هذه التجربة المُعقَّدة، أراد النوّاب في العام 1972 تفسير مسألة النصاب القانوني الموجودة في الدستور بطريقة تحدّ من استخدامها كسلاح لإفشال عمل المجلس، فظهرت فكرة اعتبار النصاب واجبًا في افتتاح الجلسة وفي أثناء التصويت، وغير ضروري خلال المُناقَشات، واعتبار أنّ الجلسات المُتتالِية تُعَدّ امتدادًا للجلسة الأولى، ما يعني أنّ النصاب في الجلسات اللاحقة غير ضروري إلّا لحظة التصويت.

وقد عبّر عن هذه النظرية الرئيس كامل الأسعد ودعّمها بتجربة المجلس في التصويت على الموازنة، إذ قال إنّ “الجلسة كانت تُرفَع وتُعقَد بعدها جلسة ولو كان النصاب غير متوفّر، على اعتبار أنّ الجلسة تكون امتدادًا للجلسة الأولى التي تمّت فيها مناقشة الموازنة، لأنّني اعتبرت أنّ الجلسة التالية تكملة للجلسة الأولى التي بقيت مفتوحة.” وأضاف الأسعد أنّه عند الوصول إلى التصويت لا بدّ من اكتمال النصاب. وبالفعل أقرّت اللجنة حينها هذا المبدأ الذي أصبح المادّة[10] 63 من النظام الداخلي في العام 1982.

هذا ويشرح بشارة منسّى المُستشار القانوني في المجلس حينها أبعاد مسألة النصاب وعلاقته الإشكالية بالنظام، إذ يقارن بين التغيُّب عن الجلسات والمُقاطَعة فيقول: “لا ريب أنّه من اليسير نظريًّا اعتبار هذه المُقاطَعة بمثابة التغيُّب العادي الذي نصّ عليه النظام الداخلي لمجلس النوّاب، لكنّه من العسير في كلّ الأحوال مُعامَلة الكتل النيابية التي تلجأ إليها طبقًا للنصوص القانونية للنظام الداخلي للمجلس، من دون الأخذ بعين الاعتبار الجوانب الأخرى المُتعدِّدة للموضوع وملابساته على الصعيدَين الوطني والطائفي على السواء”. ويضيف الكاتب صراحة أنّه يتعذّر على مكتب المجلس اتّخاذ “تدابير إدارية بحقّ الكتل النيابية التي تلِجُ طريق المُقاطَعة سبيلًا للتعبير عن استيائها واستياء من تمثّل من وضع الأحكام في البلاد، خاصة إن كان هؤلاء النوّاب يُعرِبون عن رغبة فئة مهمّة في المجلس وعن تيّار شعبي كبير”[11].

إنّ هذا المثل يطرح مُجدَّدًا قضية جواز تفسير الدستور من خلال النظام الداخلي لمجلس النوّاب، كما أنّه يُعَدّ إقرارًا بعدم القدرة على مُعالَجة مُعضِلة سياسية تتمثّل في المقاطعة حتّى لو تمّ تعديل النظام الداخلي كي يعالج مسألة “تطيير” النصاب”، لا سيّما عندما تتّخذ هذه المُقاطَعة شكلًا طائفيًّا.

خاتمة

في الخلاصة، يتبيّن أنّ النقاشات التي دارت في لجنة النظام الداخلي عكست الهموم التي يحملها النوّاب في مُمارستهم العملَ النيابي، لا سيّما في علاقتهم مع السلطة التنفيذية. وفي نهاية المطاف، تبيّن بعد مراجعة النظام الداخلي الجديد، كما صُوِّتَ عليه في العام 1982، أنّ العدد الأكبر من التعديلات التي صدّقتها اللجنة في العام 1973 قد أُخِذَ بها، نذكر منها تلك التي كانت موضع بحثنا، وهي حسم نسبة من راتب النائب عند تغيُّبه عن أكثر من جلستَين من دون عذر؛ أمّا في ما خصّ موضوع النصاب، فقد أُخِذَ أيضًا بقرار اللجنة لجهة الحاجة إلى النصاب في بداية الجلسات والتصويت وليس في المُناقشات، واعتبار الجلسات التي تلي الجلسة الأولى استكمالًا لها. بالإضافة إلى ذلك، ثُبِّتَ في النظام الداخلي عام 1982 موضوع عدم سَرَيان مهلة الأربعين يومًا إلّا بعد طرح المشروع المُستعجَل على الهيئة العامة، علمًا أنّ هذه المسألة كانت من الإشكاليات الكبرى التي شغلت النوّاب الذين عقدوا ثلاث جلسات مُشترَكة برئاسة الرئيس كامل الأسعد بين مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل ولجنة النظام الداخلي بين 25 آب و23 كانون الأوّل 1971. كما أنّه تمّ تثبيت سلطة مجلس النوّاب في إعداد موازنته مُنفرِدًا، كذلك مبدأ تعلُّق الحصانة النيابية بالانتظام العام.

وقد رافق كلّ ذلك النقاش جدل دستوري مُتشعِّب يتعلّق بطبيعة النظام السياسي اللبناني وبكيفيّة تنظيم العلاقة بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية، ما يُثبت مُجدَّدًا عدم القدرة على حسم هكذا إشكاليات في النظام الداخلي، إذ قد يؤدّي ذلك إلى الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات؛ من هنا وجوب إخضاع النظام الداخلي لرقابة المجلس الدستوري الذي لم يكن موجودًا في العام 1973، والذي قضت تعديلات العام 1990 بإنشائه لكن من دون منحه هذه الصلاحية الجوهرية في النظم القانونية الحديثة.

للاطلاع على الورقة البحثية هكذا تُصنع “الإرادة العامّة” في لبنان: إشكاليات النظام الداخلي للمجلس النيابي كاملة اضغط/ي هنا


[1] وقد نُشر مشروع النظام الداخلي مع محاضر لجنة النظام الداخلي في مجلّة الحياة النيابية، المُجلَّد الثالث، تشرين الأوّل 1973، ص. 43-90.

[2] المرجع نفسه، ص.7.

[3] راجِعْ: تقرير نشاط المجلس النيابي لولاية 2018-2022 الصادر عن المرصد البرلماني في المُفكّرة القانونية.

[4] المقصود بعمدة المجلس هيئة مكتب مجلس النوّاب.

[5] المقصود المادّة الرابعة من القانون التي لا تزال نافذة والتي تنصّ على الآتي: “يُفوَّض رئيس مجلس النوّاب بتنظيم ملاك مُوظَّفي ديوان المجلس وتحديد عددهم ورتبهم ورواتبهم وتعيينهم وترقيتهم بقرارات يُصدرها، وتصبح قرارات رئيس مجلس النوّاب المُنوَّه عنها نافذة بمُجرَّد صدورها عنه”.

[6] راجِعْ: وسام اللحّام، هكذا تُصنَع الإرادة العامة في لبنان، المفكّرة القانونية (أوراق بحثية)، 2023.

[7] التي كانت تنصّ قبل تعديلها في العام 1990 على الآتي: “لرئيس الجمهورية ومجلس النوّاب حقّ اقتراح القوانين […]”.

[8] أصبحت هذه المادّة تحمل الرقم 111 في النظام الداخلي للعام 1982.

[9] وهي المادّة 115 من النظام الداخلي للمجلس الذي صُدّق في العام 1982.

[10] “لا تفتح جلسة المجلس إلّا بحضور الأغلبية من عدد أعضائه ولا يجوز التصويت إلّا عند توفُّر النصاب في قاعة الاجتماع. أمّا المناقشات فلا تستوجب استمرار توفُّر النصاب. إذا رُفعت الجلسة قبل الانتهاء من مُناقَشة موضوع ما، حقّ لرئيس المجلس إعلان الجلسة مفتوحة، والجلسات التي تُعقد فيما بعد لاستكمال البحث تُعتبر استمرارًا للجلسة الأولى”.  

[11] مجلّة الحياة النيابية، المُجلَّد الثالث، تشرين الأوّل 1973، ص. 6-7. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني