مذكّرة توقيف “الحاكم” أو الأسئلة المسكوت عنها


2023-05-23    |   

مذكّرة توقيف “الحاكم” أو الأسئلة المسكوت عنها

أصدرت قاضية التحقيق الفرنسية أود بوريزي في تاريخ 16 أيار 2023 مذكرة بتوقيف رياض سلامة. ولم تنقضِ أيام حتى بات اسمه مدرجا على لائحة الإنتربول للمطلوبين دوليا. بمعنى أن حاكم مصرف لبنان والمؤتمن على ما يملكه من سبائك ذهب وعلى ما تبقّى من ثرواته المالية بات مطلوبا دوليا بجرم تبييض أموال وتكوين عصابة أشرار واختلاس وجملة من الجرائم التي تنمّ عن استغلال للسلطة. وقد صدرتْ مذكرة التوقيف تبعا لرفض سلامة تبلغ جلسة التحقيق وتاليا تغيبه عنها. وفيما انبرتْ قوى عدّة للمطالبة بإقالة الحاكم أو برسم مواصفات الحاكم البديل الذي يجدر تعيينه محلّه، فإن ثمة أسئلة لا تقلّ أهمية تبقى مسكوتًا عنها أو على الأقل خافتة في النقاش العامّ. فأن ينحّى أو يتنحّى سلامة أمر ملحّ منذ سنواتٍ عدّة، لكن نفقد فرصة ثمينة في حال حصرنا نظرنا في هذا الجانب الأكثر بروزا وإلحاحًا (وجود شبهات تبييض أموال على الحاكم) من دون التدقيق في سائر الجوانب التي تطرحها هذه القضية.   

وهذا ما سنحاول مناقشته في هذا المقال. 

أولا، “العدل” الذي بتْنا ننتظره من الخارج أو من قوّض السيادة الوطنيّة؟ 

أول الأسئلة المُقلقة تتمحور حول الدّور الذي أدّاه القضاة الأوروبيّون في إسقاط أقنعة سلامة وصولا إلى إدراج اسمه على لائحة المطلوبين دوليا. هذا لا يعني أن هؤلاء هم وحدهم الذين تحرّكوا ضدّه. لكن يعني أنّ فقط هؤلاء تمكّنوا من خرق الموانع اللبنانية أمام المحاسبة والتي أخذت أشكالا مختلفة على مدار السنوات السابقة. 

فإذ ادّعت النائبة العامّة في جبل لبنان غادة عون عليه 3 مرّات، فإنّها شهدتْ إسقاط إثنين منها من قبل محكمة التمييز لأسباب واهية منها أنه لا يجوز الادعاء عليه في مخالفات لقانون النقد والتسليف من دون موافقة المكتب المركزي الذي يرأسه أو أن وحدها النيابة العامة المالية مخولة تحريك الادعاء العام ضده (دعوى الدولار المدعوم). أما الادعاء الثالث فما يزال عالقا لدى قاضي التحقيق في جبل لبنان نقولا منصور، بعدما مارس سلامة ضده نهج استعداء القاضي أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز. وهي إذ أصدرت مذكّرة بحث وتحرّ عنه، فإن وزير الداخلية بسام المولوي قابلها بقهقهتِه الشهيرة، وسط تسفيه عامّ لعملها، ضمن حملات إعلامية منسقة ومنتظمة.

وإلى جانب عون، وجب أن نذكر القاضي جان طنوس الذي تمكّن بعد جهد طويل من إكمال التحقيق في المعلومات المصرفية التي أرسلتْها النيابة العامة السويسرية إلى وزارة العدل، بما يتّصل بالعمولات التي تقاضتْها شركة فوري المملوكة من شقيق الحاكم رجا والتي تجاوزت قيمتها 300 مليون د.أ. وقد كلفه الأمر أن يتحمّل الكثير من التنمّر الإعلامي وأن يكون محلّ دعوى مُخاصمة من أحد المصارف وتهجُّم من قبل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي لم يجدْ حرجًا في توصيف مداهمته لأحد المصارف على أنها أخطر مما فعلته إسرائيل أثناء غزوها للبنان، والأهمّ أن ينتظر أشهرًا مديدة للحصول على معلومات مصرفية من هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان. والأخطر هو أنه تعيّن انتظار أكثر من 4 أشهر بعد انتهاء التحقيق ليجد الملف من يقبل الادّعاء فيه بعدما عمد النائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر والنائب العام المالي علي إبراهيم إلى تراشقه، الأول يحجة أنه ليس صالحا للنظر فيه والثاني بحجة أن ثمة تضارب مصالح في حالته، طالما أنه عضو في هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها سلامة نفسه. وما كان للادعاء أن يحصل لولا قدوم وفد التحقيق الأوروبي في منتصف شهر كانون الثاني إلى لبنان. ومنذ ذلك الحين، ما يزال قاضي التحقيق في بيروت شربل أبو سمرا في إطار النظر في الدفوع الشكليّة التي قدّمها سلامة. 

مجرّد استعادة هذه الوقائع إنما يذكّر بالقيود التي تكبّل القضاء اللبناني وجعلتْه عاجزًا عن المضيّ قدمًا رغم حسن نيّة عدد من القضاة ومثابرتهم. وعليه، فإنّ الملاحظة الأولي التي يجدر أن نتوقّف عندها تبعا لتمايز القاضية الفرنسية هو أن لبنان ما كان ليفقد سيادته القضائية لو لم تتواطأ عشرات الشخصيات السياسية والقضائية والإعلامية لوضع العراقيل أمام مسار محاسبته في لبنان. وهذا الأمر إنما يجعل كل هؤلاء الآن وعلى رأسهم ميقاتي والمولوي في عداد المتواطئين على ضرب السيادة اللبنانية. 

ثانيّا، السريّة المصرفيّة التي كادتْ تقتل العدالة 

الأمر الثاني الذي يجدر التوقّف مليّا عنده هي أنّ الأدلة على هذه المخالفات ما كانتْ لتنكشف لولا إرسال المعلومات المصرفية من النائب العام السويسري في نهاية 2020 والحصول لاحقا على كشوفات عن القيود المصرفية في لبنان بعد أشهر من الانتظار. وهذا الأمر إنّما يؤكّد أهميّة إسقاط السريّة المصرفيّة كمدخل لمحاسبة جرائم الفساد. وإذ سهّل قانون رفع السرية المصرفية جزئيا إمكانية وصول الهيئات القضائية للسرية المصرفية من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة، فإن المحاولات الأولى لتطبيق هذا القانون اصطدمتْ بجدران سميكة جدا، أخطرها إطلاقًا مبادرة عدد من المصارف إلى استعداء القاضية (غادة عون) الساعية إلى ذلك، على نحو أدّى إلى كفّ يدها سندا للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية. وإذ سعت القاضية إلى التهرّب من إبلاغها الدعوى المقامة ضدها في مسعى منها لوضع حدّ للوضع العبثي المتمثل في قدرة أي مدعى عليه على توقيف أي تحقيق مهما بلغت أهميته الاجتماعية، فإنّ ميقاتي والمولوي ومن ثمّ عويدات وضعوا ثقلهم لإرغام القاضية عون على رفع يدها عن المطالبات المذكورة إلى أجل غير مسمّى بالنظر إلى تعطيل المحكمة الناظرة في هذه الدعاوى. ويذكر أن هذه القضية قد اتّصلت بقروض تجاوزت قيمتها 8.3 مليار د.أ منحها مصرف لبنان لعدد من المصارف التي سارعت إلى تحويلها إلى الخارج، كلّ ذلك تبعا ل 17 تشرين الأول 2019. 

ومن هنا، فإنّ الملاحظة الثانيّة التي يجدر التوقّف عندها هي وجوب القيام بما يلزم لضمان الالتزام بتطبيق قانون رفع السرية والعمل على توسيع إطاره بالنظر إلى أهمية الكشف عن السرية المصرفية، كل ذلك في موازاة تأمين بيئة سليمة لإجراء التحقيقات القضائية بمنأى عن أدوات التعطيل المعمول بها ومن أولها المادة 751 التي تحولت إلى الخطر الأكبر.     

ثالثا، استقلالية الحاكم التي تحوّلت إلى كارثة 

الملاحظة الثالثة التي تستوجبُها مذكّرة توقيف سلامة تتّصل باستقلالية حاكم مصرف لبنان، والتي برزتْ ويتم إبرازها الآن وزورا مجدّدا كحائل دون عزله. ومن البيّن أنّ هذه الاستقلالية أسيئ استخدامها طوال السنوات السابقة، بحيث تمّ تحويلها من ضمانة في وجه تعسّف الحسابات السياسية (وهي ضمانة تنازل عنها سلامة مرارا في سياق إقراض الدولة خلافا للمادة 91 من قانون النقد والتسليف) إلى ستار تتخفى وراءه كل الصفقات والمخالفات بمنأى عن أيّ شفافية أو مساءلة. ويرجح أن تطرح قضية سلامة أسئلة بليغة تتجاوز حدود لبنان حول مدى ملاءمة هذه الاستقلالية وحدودها والضوابط التي يجدر أن تحاط بها.  

رابعا، كيف نستردّ المال المنهوب؟ 

أخيرا، قد تشكل قضية سلامة أول قضية يؤمل منها أن يستردّ لبنان بعضا من الأموال المنهوبة. ويتأتّى ذلك من الشوط الذي قطعتْه هذه القضية وأيضا من حجم الأموال العائدة لسلامة والتي تمّ حجزها في دول أوروبية عدّة والأهمّ من تدخّل هيئة القضايا كممثلة عن الدولة اللبنانية في القضايا المقامة ضده في لبنان وأوروبا للمطالبة بردّ الأموال العامّة التي قد يثبت نهبها. وإذ سجّلنا باهتمام شديد إعلان هيئة القضايا استقلاليتها في الدفاع عن مصالح الدولة من دون انتظار أوامر أو توجيهات من وزارة المالية أو من أي مرجع حكومي، فإن تمكين محامين فرنسيين من تمثيل الدولة اللبنانية أمام القضاء الفرنسي لا يصح من دون صدور مرسوم يجيز تعيينهم. وهو المرسوم الذي ما يزال ينتظر أيضا من يوقعه.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، أحزاب سياسية ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني