خلال الأسبوع الماضي، استهلّ رياض سلامة دفاعه في القضايا المرفوعة ضده في لبنان وفرنسا بالطعن في صحة تمثيل الدولة فيها. وقد انبنى هذا الدفاع على واقعة مفادها أنّ هيئة القضايا بادرتْ لتقديم الدعوى باسم الدولة ضده ورفاقه من تلقاء نفسها، من دون أن يردها طلبٌ صريحٌ من وزير المالية وهو وزير الوصاية على مصرف لبنان. وقد عاد سلامة ليثير بواسطة محاميه الفرنسيّ الدفع نفسه في الملاحقات القائمة ضده في فرنسا معتبرًا أن تمثيل الدولة بواسطة محامييْن فرنسييْن معيّنين من هيئة القضايا ووزير العدل يشكّل اغتصابا للسلطة.
وللتذكير، كانت هيئة القضايا تدخّلت في تاريخ 15/3/2023 في الدعوى العامّة التي باشرتْها النيابة العامّة ضدّ سلامة ورفاقه أمام قاضي التحقيق في بيروت شربل أبو سمرا بتهمة ارتكاب جرائم اختلاس مال عامّ وإثراء غير مشروع وتزوير وتهرّب ضريبي وتبييض أموال، طالبة توقيف المدعى عليهم والحجز على أموالهم لمصلحة الدولة. كما عادت وكلفت محامييْن فرنسييْن تطوّعا لتمثيل الدولة اللبنانية بموجب عقد وقّعه وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري. وكانت المفكرة قد أوضحت أنّ الهيئة اتّخذت قرارها بالتحرّك من تلقاء نفسها بعد ورود طلبات عدّة إلى الهيئة من مراجع قضائيّة أوروبيّة عدّة، ولزوم وزارة المالية الصمت في شأن الموقف الواجب اتّخاذه في هذا المضمار رغم مراجعتها مرات عدة من قبلها. وفيما كانت الهيئة تنتظر عادةً موافقة الوزارة المعنيّة لمباشرة الدعوى، فإنها نحتْ هذه المرة منحًى مختلفا قوامه وضع وزارة المالية أمام مسؤوليتها في إبداء الرأي على أن تعتبر لزومها الصّمت بمثابة موافقة ضمنية على ضرورة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية مصالح الدولة. كما بيّنت المفكّرة أن الهيئة عزّزت بفعل هذا النهج الجديد في وضع المراجع الحكوميّة المعنية أمام مسؤولياتها في الدفاع عن الصالح العام على أن تتولّى هي القيام بذلك في حال أيّ تقاعس منها في هذا المضمار. ومؤدّى هذا النهج الجديد هو تحرير الهيئة من هيمنة القوى السياسية الحاكمة إلى حدّ كبير وتعزيز قدرتها في الدفاع عن الدولة ومصالحها وتاليا في حماية الشرعية والمال العامّ، وهو بالطبع نهج يخشى أن يصطدم بممانعة القوى السياسية التي ما لبثت تجهد لإحكام سطوتها الكاملة على القضاء والإدارة العامة في اتجاه تكريس ما جاز تسميته “الشمولية السياسية”.
واللافت هنا هو أنه بدل أن تبادر الدولة بجميع أجهزتها تبعا للادّعاء العام ضد سلامة في لبنان وفرنسا لعزله عن أيّ مسؤولية عامة حماية المال العام والمطالبة باسترداد المال الذي قد يكون اختلسه أقلّه من باب التحيّط، ها هو سلامة يبادر إلى الطعن في الإجراء الوحيد الذي اتّخذه أحد أجهزة الدولة ضده بحجة أن هذا هذا الجهاز لم يستحصل على الموافقات الإدارية اللازمة، وتحديدا من وزارة المالية. فكأنه يحاول الاستفادة من عدم وجود توافق على محاسبته والادّعاء عليه كما استفاد طويلا من عدم وجود توافق على عزله أو استبداله.
ومن البيّن أن دفوع سلامة ستطرح أسئلة عدة، أهمها الآتية:
السؤال الأول: ما هي مدى استقلالية هيئة القضايا في تمثيل الدولة وبخاصّة في إطار حماية مصالحها واسترداد أموالها المنهوبة؟
السؤال الأول والأهم يتّصل بصلاحيّة هيئة القضايا (التي هي جزءٌ من المؤسّسات العامّة المنشأة ضمن هيكلية وزارة العدل ويرأسها قاضٍ) في تولّي حماية مصالح الدولة وبخاصّة في ظلّ تقاعس السّلطة التنفيذية عن القيام بما يلزم في هذا الخصوص كما حصل تمامًا في هذه القضية.
بمراجعة قانون تنظيم وزارة العدل المنشئ لها، يتبيّن أن هيئة القضايا تتولّى إقامة الدعاوى باسم الدولة والدفاع عنها في الدعاوى المُقامة عليها وإعداد الاستحضارات واللوائح والمذكّرات وتوقيعها … والمثول أمام جميع المحاكم العدليّة والإداريّة والأهمّ القيام بجميع الأعمال التي يتطلّبها الدّفاع عن مصالح الدولة أمام المحاكم سواء أكانت مدّعية أو مدّعى عليها. ويُلحظ تاليّا أمران بالغا الأهميّة: (1) أنّ القانون حدّد صلاحيّات ومسؤوليّات هيئة القضايا من دون أن يلزمَها بحالٍ من الأحوال أن تعلّق إجراءاتها على الحصول على موافقة مسبقة من الإدارات المعنية، و(2) أن القانون فرض على الهيئة القيام بما يتطلبه الدفاع عن مصالح الدولة. وعليه، وفيما يفترض بالهيئة التنسيق مع الإدارات العامّة من أجل تكوين ملفاتها وتحديد خياراتها وتمكين هذه الإدارات العامّة من الإدلاء بجميع المعلومات والحجج لديها، فإنّ الهيئة تبقى مسؤولة عن اتّخاذ الموقف المناسب لحماية مصالح الدولة، تحت طائلة تحميلها مسؤوليّة الإهمال الوظيفيّ. وهذا الأمر يصحّ من باب أوْلى في حال تقاعست إدارة (مثل وزارة الماليّة) عن إجابة طلباتِها أو التنسيق معها، أو أيضا في حال طلبتْ هذه الإدارة من الهيئة اتّخاذ مواقف مُخالفة للقانون. أيّ قول مخالف لذلك كأن يتم إلزام الهيئة بالانكفاء عن أي إجراء تبعا لانكفاء الإدارة المعنية أو بالالتزام بمواقفها بمعزل عن مدى توافقها مع القانون إنما يؤدّي إلى نتائج عبثيّة قوامها امتناع الهيئة عن القيام بأي إجراء لحماية مصالح الدولة فقط لأن الإدارة المعنية قرّرت أن تسكت أو أن تنساق في إبداء مواقف غير قانونية أو مجافية للمصلحة العامة وصولا إلى تغليب مصالح خاصة أو فئوية. بمعنى أنّه في هذه الحالة، تكون الهيئة تخلّت عن مسؤوليّة نصّ عليها القانون صراحةً (وهي القيام بجميع الأعمال التي يتطلّبها الدّفاع عن مصالح الدولة أمام المحاكم) من أجل الرّضوخ لمطالب الإدارات العامّة بمعزلٍ عن مدى سدادتِها، على أساس قواعد عمل لا أساس قانوني لها. وعليه، تفقد الهيئة في هذه الحالة استقلاليّتها ودورها في ضمان حماية الدولة، لتتحوّل إلى جزء من النظام السياسيّ الحاكم. وتكاد هذه القضية تشكّل موضوعيّا صورةً مضخّمةً لمخاطر التسليم بتبعيّة الهيئة على نحو قد يفقد لبنان إمكانية الأموال المنهوبة وهو في أسوأ أوضاعه المالية. وهذا ما كانت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح شجبتْه في حكمها الصادر في تاريخ 28/10/2020 في قضية تاتش حيث جاء حرفيا “أن هيئة القضايا هي من يمثّل الصالح العام وتقوم بجميع الأعمال التي يتطلبها الدفاع عنه وليس وزير الاتصالات”.
وما يؤكّد أكثر فأكثر إرادة المشرع في منح الهيئة استقلاليّة ذاتيّة لتقدير المصلحة العامة هو تحديدا ما ورد في المادة 20 من قانون تنظيم وزارة العدل لجهة أنه “لا يجوز للإدارات العامة التابعة للدولة إجراء المصالحات في الدعاوى العالقة أمام المحاكم والتي يكون للدولة علاقة بها إلا بعد موافقة رئيس هيئة القضايا ومدير عام وزارة العدل. وتعتبر باطلة كل مصالحة تعقد خلافا لهذا النص”. ويستشفّ من ذلك بوضوح أن المشرع أناط بالهيئة مهمة الرقيب والضامن على أداء الإدارات العامة، الأمر الذي يتنافى تماما مع التسليم بتبعيتها لهذه الإدارات. الأمر نفسه نستقرؤه من المادة 21 التي تمنح رئيس هذه الهيئة صلاحية التواصل بالإدارات المختصة مباشرة في كل ما يتعلق بأعمال هيئته وأن يطلب منها كلّ ما من شأنه تمكينه من أداء عملها. ويفهم من هذا النص بوضوح أن الهيئة تستعين بالإدارات لتكوين ملفاتها وقناعاتها تمهيدا لاتخاذها الخطوات التي تراها مناسبة لحماية مصالح الدولة من دون أي حاجة لانتظار تعليمات أو توجيهات مسبقة من هذه الإدارات.
بقي أن نذكر أن إقرار استقلاليّة هيئة القضايا في هذه المرحلة بالذات يرشح عن أهميّة فائقة على صعيد ملاحقة جرائم الإثراء غير المشروع أو المطالبة باسترداد الأموال المنهوبة، وهو أمر ضروري لإعادة بعض التوازن المالي في ظلّ ضخامة الخسائر المالية المسجلة والانهيار الناجم عنها. ويؤمل تاليا أن ينتهي القضاء اللبناني كما الفرنسي إلى تأكيد استقلالية الهيئة بما يتيح مجال التدخّل في مزيد من هذه القضايا.
السؤال الثاني: ما هي الإدارة المعنية في دعاوى الفساد واسترداد المال المنهوب؟
السؤال الثاني الذي تطرحه هذه القضية: ما هي الإدارة المعنية في دعاوى الفساد واسترداد المال المنهوب؟ هذا السؤال يتأتى من كون وزارة العدل أيّدت هيئة القضايا في الخطوات المتّخذة منها، بخلاف وزارة المالية. فعلى فرض أنه لا يجوز لهيئة القضايا التحرّك عفوًا، هل يكون تأييد وزارة العدل لخطواتِها كافيّا أم يفترض حكما الحصول على موافقة وزارة المالية بحجة أنها صاحبة الوصاية على مصرف لبنان؟ الجواب الأصحّ على هذا السؤال يرتبط بمدى اتّصال القضية القائمة أمام المحاكم بصلب مهام سلامة كحاكم لمصرف لبنان. فهل هي تتصل بإخلال وظيفي الأمر الذي يستدعي التنسيق مع سلطة الوصاية للإحاطة به، أم أنها تتصل باستغلال فاضح لهذه الوظيفة وتحوير لها على نحو يجعلُها قضيّة فساد فاضح لا تمتّ بصلة إلى صلب الوظيفة، الأمر الذي يبرر مراجعة الإدارة الأكثر ارتباطا بعمل المحاكم وتطبيق القوانين أي وزارة العدل؟ وما يؤكد ذلك هي مهام وزارة العدل وهكليّتها، حيث تشمل مهامها “السهر على حسن تطبيق القوانين” وتضمّ ضمن هيكليتها هيئة القضايا وهيئة الاستشارات والتشريع (وكلتاهما ضالعتان في النظر في قانونية الصفقات التي قد ينتج عنها نزاع قضائي أو غير قضائي) فضلا عن أن لمديرها العامّ (إلى جانب رئيس هيئة القضايا) كلمة حاسمة في أي مصالحة تعقدها أي من إدارات الدولة مع أي كان.
ومن البدهي أن قضية سلامة تشكل في هذا المضمار مثالا واضحًا على تحوير السلطة واستغلالها بما يفكّ عنها أيّ ارتباط بسلطة الوصاية ليجْعلها قضية فساد عامّة لوزارة العدل أحقية تامة للمطالبة بمباشرة الادعاء فيها.
السؤال الثالث: كيف سيتعامل وزير المالية أو الحكومة مع التشكيك بصحة تمثيل الدولة في ظلّ عدم موافقته صراحة على الملاحقة ضدّ سلامة؟
ثالث الأسئلة الذي تطرحه دفوع سلامة: كيف سيتعامل وزير الماليّة يوسف خليل معها، طالما أنّ سلامة بات يتذرّع بصمته للتشكيك في صحة تمثيل الدولة في الدعاوى المقامة ضدّه؟ فبمعزل عما سيقرّره القضاء اللبناني أو الفرنسي لجهة قبول أو ردّ دفوع سلامة، يبقى أن بإمكان خليل أن يحسم المسألة من خلال تأكيد موافقته التامة على مبادرة هيئة القضايا.
فهل سيبادر إلى تأييد موقف هيئة القضايا مما يحصن موقفها وادعاءها ويسقط تماما الحجج التي ساقها سلامة في فرنسا ولبنان للمنازعة في هذا الشأن؟ أم أنه سيستمرّ في صمته كما فعل منذ بدء مراجعته في هذا الشأن، بما يهدّد حظوظ الدولة اللبنانية في استرداد مئات ملايين الدولارات وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى موازنتها الحالية لخطر الضياع؟ وفي حال الذهاب في هذا المنحى، سنكون طبعا أمام إهمال فادح يُخفي على الأرجح تواطؤا وهو تواطؤ يلامس الخيانة العظمى في ظل حاجة الدولة الماسة إلى استرداد هذه المبالغ.
ويتفرّع عن السؤالين الأخيرين سؤال رابع لا يقلّ أهمية وهو كيفية تعامل الحكومة ككل مع هذا الاستحقاق، بحيث أنه يكون لها طبعا بصفتها ممثلة عن السلطة التنفيذية أن تتخذ قرارا بتأييد وتحصين مطلب هيئة القضايا. أما أن يعرض رئيسها عن دعوة الحكومة لاتّخاذ قرار مماثل، فمن شأنه أن يعرض مسؤولية رئيسها الشخصية عن ضياع حظوظ الدولة للخطر.
خلاصة:
تشكل قضيّتا سلامة اليوم في لبنان وفرنسا فرصة هامّة لتكريس استقلاليّة هيئة القضايا من دون لبس وأيضا لوضع الإدارات العامّة أمام مسؤولياتها. فواجب تنسيق الهيئة مع هذه الإدارات لا يستتبع قط أن تكون تابعةً لها أو أن ترضخ لمطالبها أو تنتظر توجيهاتها التي تأتي أو لا تأتي أو أن تتخلى عن أي من مسؤولياتها في حماية مصالح الدولة.