ينتظر أن يزور لبنان في مطلع الأسبوع المقبل فريقٌ من المحقّقين من دول أوروبية ثلاث: فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ. وفي حين لم ينشر طلب التعاون الصادر عن هذه الدول في هذا الشأن وسرتْ أنباء متضاربة عن مدى استجابة النائب العام التمييزي غسان عويدات له وحتى عن ماهية القضايا التي يراد التحقيق فيها، رجح أنها تنحصر في التحقيقات في جرائم مالية وتبييض أموال يشتبه في تورط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا فيها، وأنها تتم في إطار اتفاقية مكافحة الفساد. ومن المؤكّد أن هذه الزيارة لا تلقى ترحيبا واسعا بل ما زالت منذ الإعلان عنها تثير ردود أفعال شاجبة على خلفيّة أنها تمسّ بالسيادة الوطنية وأنه يخشى أن تتوسع في اتجاه تدويل القضاء ليس فقط في قضايا الفساد إنما في العديد من القضايا التي تهمّ لبنان، وفي مقدمتها قضية تفجير المرفأ. بانتظار جلاء الجوانب المختلفة من هذه الزيارة، أكتفي هنا بإبداء ثلاث تساؤلات أو ملاحظات بهدف تطوير النقاش حول مفهوميْ السيادة والعدالة.
السيادة أم استمرار نظام الإفلات من العقاب؟
بالطبع، إن ما يقصده المدافعون عن السيادة لتبرير رفضهم لهذه الزيارة هي السيادة القضائية أي وجوب حصر السلطة القضائية في التحقيق في الجرائم التي تدخل في اختصاص بلد معيّن بالهيئات القضائية التابعة لهذا البلد. وقد تطوّر القانون الدوليّ في هذا المجال في اتّجاهين: الأوّل، إرساء آليّات لتعزيز التعاون الدولي في مكافحة الجرائم العابرة للدول ومن أبرزها الآليات الواردة في اتفاقية مكافحة الفساد والتي أقرها لبنان في 2008 وهي الآليات التي تندرج الزيارة من ضمنها. والثاني، وهو الأهم، ونستشفّه من الاتفاقية الدولية لإنشاء محكمة روما الجزائية، وهو يقوم على التعامل مع السيادة القضائية لبلد ما ليس بصورة مطلقة، إنما بصورة نسبية على ضوء مدى التزامه بمكافحة الجريمة أو قدرته على ذلك. بمعنى أن السيادة القضائية تنتج كل مفاعيلها في حال توفر التزام الدولة المعنية وإرادتها في محاسبة الجرائم المشمولة بهذه الاتفاقية، في حين يتم تجاوز الإجراءات أو القرارات الصادرة عن محاكمها في حال ثبت أن البلد المعني لا يريد التحقيق فيها أو غير قادر على ذلك. وتضيف الاتفاقية أن انعدام الإرادة في محاسبة الجريمة في دولة معينة يعدّ متحقّقا في حال ثبت أن الملاحقة في جرم معين تمت بهدف تبرئة الشخص المعني بها من المسؤولية الجرمية، أو أن الملاحقة تشهد تأخيرا يتعارض مع نية محاكمته أو أن المحاكمة لم تتم بصورة محايدة ومستقلة (أي لا تراعي ضمانات المحاكمة العادلة) بل تمت في ظروف وبصورة تتعارض تماما مع نية محاكمة الشخص المعني (المادة 17 من الاتفاقية). كما تضيف هذه الاتفاقية أن عدم قدرة دولة معينة على إجراء التحقيق تكون ثابتة في حال انهيار الجهاز القضائي كليا أو جزئيا أو في حال عدم جهوزيته لوضع اليد على المتهم أو جمع الأدلة والشهادات الضرورية أو إنجاز الإجراءات اللازمة حتى منتهاها.
وإذ ينحصر تطبيق اتفاقية روما بالطبع على الجرائم الأكثر خطورة ومنها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلا أنه يستشفّ من أحكامها توجّه واضح بربط مفهوم السيادة القضائية بمدى توفر الإرادة والقدرة على المحاسبة والمحاكمة بالنسبة إلى كل الجرائم التي تلتزم الدول بمكافحتها انطلاقا من كونها عابرة للحدود، ومنها جرائم الفساد وتبييض الأموال. وما يؤكّد ذلك هو أنّ أيّ تذرّع بالسيادة القضائية من قبل دولة تمتنع عن أو ترفض سلطاتها عنوة محاسبة إحدى هذه الجرائم العابرة للحدود إنما يشكل في الواقع إخلالا بالتزاماتها الدولية المكرّسة صراحة في الاتفاقيات الموقعة منها ومن ضمنها اتفاقية مكافحة الفساد. بمعنى أن تذرّعها بالسيادة يكون في هذه الحالة مجرد ذريعة لعرقلة محاسبة الجرائم العابرة للحدود من الدول الأخرى بعدما امتنعت هي عن ملاحقتها، وبكلمة أخرى مجرد ذريعة لاستكمال مخططها بضمان اللامحاسبة والإفلات من العقاب.
وللأسف، عند التدقيق في ظروف ملاحقة الشقيقين سلامة، نجد أنفسنا أمام سيناريو مشابه. وهذا ما يتحصل من المعطيات الآتية:
- أن السلطات اللبنانية تعمّدت عرقلة التحقيق في الشبهات الجرميّة وصولا إلى تعطيل الملاحقة إلى أجل غير مسمّى. وإثباتا لذلك، يجدر التذكير بأن التحقيقات التي باشرتها النيابة العامة التمييزية تبعا لاستلامها طلب تعاون من النيابة العامة في سويسرا في 27 تشرين الثاني 2020 قد شهدت طوال سنتين عرقلة وتأخيرا في مراحل عدة. ومن دون الدخول في التفاصيل، نذكر بأن رأس السلطة التنفيذية (الحكومة) نجيب ميقاتي تدخل بإقراره بالذات للإيعاز للنائب العام التمييزي بمنع المحقق فيها القاضي جان طنوس من الاستحصال على معلومات مصرفية في هذا الشأن. وقد اعتبر ميقاتي آنذاك أن مداهمة المصارف من النيابة العامة أسوأ مما فعلته إسرائيل في احتلال بيروت. وبعد أيام، وتبعا لتوقيف رجا شقيق الحاكم، دعا ميقاتي كبار القضاة الثلاثة إلى جلسة للحكومة (هي الأولى من نوعها) لاتخاذ تدابير لوضع حدّ لما أسماه الفوضى القضائية التي تهدد وفقا له إنجاح خطط التعافي التي زعم أن حكومته تعمل عليها. كما نذكّر بمماطلة هيئة التحقيق الخاصة (التي يرأسها سلامة نفسه) في تسليم المعلومات المصرفية المطلوبة في هذا الملف، حيث لم تتمكن النيابة العامة من الاستحصال عليها إلا بعد مراجعات عدّة وانتظار أشهر كان يمكن أن تطول لولا ضغط مباشر من المحقّقة الفرنسية.
وعليه، وإذ اكتملت التحقيقات بعد قرابة سنتين من بدئها، طلب النائب العام التمييزي عويدات من النائب العام في بيروت زياد أبو حيدر الادعاء ضد سلامة وشقيقه بجرائم فساد وتبييض أموال. لم يفعل هذا الأخير متذرعا بأن النائب العام المالي علي إبراهيم هو النائب المختص طالما أن الجرم المزمع الادعاء به هو جرم استيلاء على مال عام. إلا أن ابراهيم بدوره رفض الادعاء بحجة تضارب المصالح، على خلفية أنه عضو في لجنة التحقيق الخاصة التي يرأسها سلامة، فكيف للمرؤوس أن يدعي على رئيسه؟ هذا مع العلم أنه كان لكلا من النائبين العامين أن يطلب من أحد المحامين العامين العاملين في دائرته الادعاء في حال ثبوت تضارب المصالح لديه، إلا أن أيا منهما لم يفعل.
وإذ انتهت أوديسا تراشق المسؤوليات ومعه الملف إلى قذفه لدى بو حيدر بأمر من النائب العام التمييزي، فإن الأخويْن سلامة سارعا إلى تقديم دعوى مخاصمة ضد الدولة بصورة استباقية على خلفية ما قام أو بالأحرى ما لم يقم به النائب العام الاستئنافي، وصولا إلى كفّ يده فورا عن اتخاذ أي إجراء في الملفّ. وقد تم ذلك عملا بقانون أصول المحاكمات المدنية الذي يوجب كفّ يد القاضي المعني بالطلب بصورة حكمية وبمعزل عن مدى جديّة الدعوى. وفي حالتنا هذه، تمّ التعطيل إلى أجل غير مسمّى، طالما أن الهيئة الناظرة في دعاوى المخاصمة فاقدة لنصابها بفعل تقاعد العديد من أعضائها السابقين ورفض السلطة السياسية التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية بتعيين بدائل عنهم. وبذلك، انضمّت هذه الدعوى المقامة ضد سلامة إلى مجموعة من الدعاوى المعطلة بفعل تقديم دعاوى مخاصمة ضد الدولة، وهي دعوى تنتج مفاعيلها التعطيلية حتى ولو كانت تعسفيّة بالكامل.
وعليه، من البيّن تاليا أنّ عرقلة التحقيق والمحاكمة في قضية الشقيقين سلامة حصلت وتحصل بإرادة السلطات الرسمية (التدخل في القضاء من قبل ميقاتي وحكومته ورفض توقيع مرسوم التشكيلات القضائية وعدم تدخل السلطة التشريعية لتعديل قانون أصول المحاكمات المدنية أو الجزائية)، مما يؤكد وجود إرادة منها في عدم محاسبتهما. وما يؤكد أيضا فأيضا غياب إرادة المحاسبة، هو استمرار حاكم مصرف لبنان في أداء مهامه والتصرف بما تبقى من موارد للشعب اللبناني، كل ذلك من دون أيّ ضوابط أو أفق. وقد صرح ميقاتي حرفيا أن الحكومات لا تغير ضباطها وهي في معركة، وذلك في معرض رده على إمكانية عزل سلامة. وهذا التصريح إنما يفيد بصورة واضحة نية الحكومة في إبقاء سلامة في منصبه وتاليا تأمين الغطاء والحماية له، أيا تكن خطورة الشبهات بحقه.
- ومن العوامل الأخرى الدالة التي يستشف منها انغلاق أفق المحاسبة وطنيا في هذه القضية، هو أن مصرف لبنان يتجه إلى تمويل صندوق تعاضد القضاة (الذي يرأس النائب العام المالي هيئته الإدارية) على نحو يسمح لهذا الأخير بتسديد علاوات على رواتب القضاة تبلغ على الأقل 4 أضعاف هذه الرواتب. ومؤدّى ذلك هو إخضاع الحقوق المالية لهؤلاء (ومن بينهم كل قضاة النيابة العامة) لرحمة وسطوة الحاكم الذي بإمكانه بجرّة قلم إنهاء العمل بهذا التدبير في حال عدم رضاه عن أداء القضاء تجاهه، طالما أن هذه العلاوات كلها مقررة بصورة غير قانونية ولا تعدو كونها منافع غير مشروعة. وقد بدا واضحا في الأشهر الماضية أنه في حال وقف هذه المنافع، فإن ثمة مخاوف أن يعاود القضاة الاعتكاف الشامل الذي أعلنوا التراجع عنه منذ أيام. فكأننا أمام سيناريو من إثنين: سيناريو يرضخ القضاء فيه لشروط سلامة أو سيناريو يعاود فيه القضاة اعتكافهم بفعل وقف هذا الأخير صرف العلاوات المذكورة. وفي كلا السيناريوين، قضاء غير جاهز أو مهيأ للقيام بالتحقيق بصورة مناسبة في الشبهات بحق سلامة وشقيقه .
وعليه، يتبدى بوضوح كلي أنّ السيادة القضائية التي يتم التذرع بها هي سيادة مختلّة بفعل غياب الإرادة لدى السلطات الرسمية بملاحقة سلامة وتدخلها السافر لعرقلة أي إجراء ضده وأيضا بفعل غياب الجهوزية لدى الجهاز القضائي على محاسبته بعد ربط العلاوات على رواتب القضاة بإرادته. ولا نبالغ إذا قلنا أننا أمام تخلّ سافر وجلي عن هذه السيادة وأن التذرع بها لا يعدو كونه مجرّد ذريعة يُبتغى منها ليس الدفاع عن سيادة تمّ التخلي عنها مسبقا بل الاستمرار في تعطيل المحاسبة والعدالة بشكل تام وشامل.
وما يؤكد ذلك هو أن هذا التذرع يأتي من دون اتخاذ أي تدبير لإعادة سير عجلة القضاء في قضية الشقيقين سلامة أو لمعالجة أي من عوامل الخلل المذكورة أعلاه. بل على العكس هو يأتي في موازاة الاستمرار في ظل السياسات النقدية والمالية التي يتفرد سلامة في وضعها وتنفيذها من دون أي ضابط. بمعنى أن التذرع بالسيادة القضائية يحصل ليس فقط رغم التخلي السابق عنها بل أيضا في موازاة التأكيد على استمرار نفس سياسة التخلي من دون أي تغيير. وليس أدلّ على ذلك من تبجّح سلامة أنه أجرى عمليات على منصة صيرفة في الأيام الأخيرة صرف بفعلها ما يقارب مليار د.أ.
السيادة ليست موقفا نتباهى به إنما إنجاز نحققه ببناء المؤسسات
أما الملاحظة الثانية والتي هي ملاحظة ما فتئنا نكرّرها في أكثر من مناسبة. وقوامها أن السيادة ليست موقفا نتمسك أو نتباهى به، إنما هي إنجاز نحققه بصورة تدريجية بالعمل والتخطيط والنجاح في تأمين مقوماتها. وهذا الإنجاز بما يخصّنا يتحقق من خلال بناء مؤسسات قضائية فعالة ومستقلة تضمن الثقة العامة بها وتمنح الدولة ومواطنيها منعة تجاه أيّ مسعى لتدخّل دوليّ من خلال تدويل القضايا أو التحقيقات القضائية.
هذا هو الموقف الذي سجّلته المفكّرة القانونية بشكل خاصّ في بيانها الصادر غداة تفجير 4 آب. وقد سجلت “المفكرة” في مستهلّ هذا البيان أنّ اللبنانيين اكتشفوا تبعا لهذا التفجير تماما كما حصل في مراحل عدة من تاريخهم “أنهم يواجهون مرة أخرى جريمة هائلة من دون أن تتوفر لديهم مؤسسات قضائية وأمنية محصنة وقادرة على التحقيق فيها وتحديد المسؤوليات بتجرّد وبصورة مستقلة” و”أن المطالبات باللجوء إلى تحقيقات أو محاكم دولية، انطلقت كما حصل (في 2005 تبعا لاغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري) كتعبير عن عدم الثقة بالمؤسسات والخبرات الوطنية في هذا المجال”. وإذ حمّلت “المفكرة” القوى السياسية بشقيها 14 و8 آذار مسؤولية التقاعس عن بناء مؤسسات العدالة في لبنان، رأتْ أن كلاهما أخلّت بذلك بأولوياتها المعلنة. فكما خالفت 14 آذار خطابها الذي يغلب العدالة على أي اعتبار آخر حين لم تفعل شيئا لتعزيز العدالة الوطنية، خالفت 8 آذار خطابها السيادي من خلال تقاعسها عن بناء مؤسسات قضائية قادرة على ضمان السيادة القضائية وتحصين لبنان ضد أي تدويل لقضاياه في أي منعطف مستقبلي. وعليه، أملتْ المفكرة أن يتمّ استخلاص الدروس من الماضي والتعامل مع جريمة 4 آب بصورة مختلفة وتحديدا على أنها فرصة لتطوير المؤسسات القضائية، ف “لا نجد أنفسنا مجددا أمام معضلة الاختيار بين السيادة والعدالة بفعل قصور مؤسسات القضاء”. إلا أن هذا الأمل لم يتحقق أقله حتى الآن، حيث تم هنا أيضا تعطيل التحقيق في قضية المرفأ إلى أجل غير مسمى تماما كما حصل بشأن التحقيق في قضية حاكم مصرف لبنان وشقيقه. وبنتيجة ذلك، ها الزيارة المرتقبة للوفد الأوروبي تضعنا مجددا وبصورة محزنة ومخزية أمام نفس المعضلة: عدالة أم سيادة.
استرداد المال المنهوب ضرورة لتكريس السيادة الوطنية
أخيرا، يجدر التنبيه والتذكير بأن العمل الجادّ لاسترداد المال المنهوب هو تعبير بليغ عن السيادة الوطنية. فعدا عن أنه أمر ضروري لإعادة الثقة بالدولة والخير المشترك ولردع أيّ مسّ بالمال العام، فإنه يشكّل اليوم وفي ظلّ الأزمة والإفلاس المعمّم، أحد أهمّ مقوّمات التعافي وإعادة بناء الدولة التي لا سيادة من دونها. من هذا المنطلق، يفترض بالدولة اللبنانية أن تبادر فورا إلى التدخل في مجمل الدعاوى المقامة في أوروبا بشأن شبهات الفساد وتبييض الأموال وعرض أيّ مساعدة ممكنة لتثبيت هذه الشبهات وصولا إلى استرداد المبالغ التي يثبت أنها سُرقت من مخازن الشعب. فلنتابع.