وجّه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ظهر اليوم كتابا إلى هيئات عدة طلب بموجبه اتّخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات بحقّ النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون على خلفية استمرارها في التحقيق في قضية تهريب 9 مليار دولار إلى الخارج عقب 17 تشرين. واللافت أن هذا الموقف صدر بناء على كتب وردتْ إلى رئاسة الوزراء من وكيليْ مصرفيْن مُدّعى عليهما أعْلماه فيه أنّ القاضية عون تستمرّ في ملاحقتِهما رغم التقدّم بدعوى مخاصمة ضدّ الدولة على خلفية أعمالها خلافا لقانون أصول المحاكمات المدنية. وإذ كرّر ميقاتي حرفية ما جاء في هذيْن الكتابيْن محوّلا نفسه إلى منبر لهما، فإنه انتهى إلى ما يشبه الحكم بأن القاضية عون تجاوزت حدّ السلطة في مواصلة عملها، طالما أنه “لا يُمكن للقاضي المنسوب له دعوى المسؤولية أن يقوم بأي عمل يتعلّق بمقدّم الدعوى، بصرف النظر عن تبلّغ القاضي أو عدم تبلّغه تلك الدعوى، كما وبصرف النظر عن مدى جدية تلك الدعوى والتي يعود حصرا للمرجع القضائي صاحب الصلاحية البتّ بها”.
وبناء على كتاب ميقاتي، وجّه وزير الداخلية بسام المولوي كتابا إلى المديريتيْن العامتيْن للأمن العام والأمن الداخلي، طالبا منهما الامتناع عن تأمين المؤازرة أو تنفيذ أي إشارة أو قرار يصدر عن عون في أي ملف يثبت أنّه قد جرى فيه تقديم طلب مداعاة الدولة بشأن أعمالها لحين بتّ المرجع القضائي بهذا الطلب.
وبذلك، بدا بوضوح أن كلا المرجعين ارتضيا أن يتحوّلا إلى ذراع سياسي لمؤازرة المصارف المدعى عليها في مسعاها لكفّ يد غادة عون، وطبعا إلى أجل غير مسمّى طالما أن المرجع القضائي الصالح لبتّ دعاوى المخاصمة والذي لم يتجرأ ميقاتي على تسميته (وهي الهيئة العامة لمحكمة التمييز) هي بحكم غير الموجودة تبعا لتقاعد غالبية أعضائها وتعطيل بدائل عنهم بفعل قرار سياسي تبناّه رئيس مجلس النواب نبيه بري.
وعليه، يهم الائتلاف إبداء المواقف الآتية:
أولا، تغوّل جرميّ على مبدأ الفصل بين السلطات
إنّ ما قام به رئيس الحكومة ووزير الداخلية يُشكّل تغولاً قد يكون الأخطر للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية في اتجاه إلغاء مبدأ الفصل بين السلطات والتعامل مع القضاء على أنه جزء من الإدارة العامة. ويشار هنا إلى أن فعل التغول هذا يكوّن بحد ذاته جرائم عدة تبدأ من التدخل بالقضاء (419) وعرقلة تنفيذ قرارات قضائية (371) لتصل إلى اغتصاب السلطة القضائية (306) مرورا بجرائم استغلال النفوذ والسلطة على اختلافها. ولا بد هنا من التوقف بذهول أمام لجوء محاميّ المصارف إليه لكفّ بيد القاضية عون وكأنه تحوّل إلى مرجع قضائي أعلى بإمكان أي متقاضٍ اللجوء إليه.
ثانيا، إماطة اللثام بصورة رسمية عن أداة النظام الحاكم لتعميم الإفلات من العقاب
من البين من كتابي ميقاتي والمولوي أنهما يبديان حرصا بليغا على تفسير المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية الخاصة بدعاوى مخاصمة الدولة على النحو الذي يضمن توقيف التحقيقات بحق المصارف فور تقديم أي منها دعوى مخاصمة، إلى أجل غير مسمّى. فكأنما هذه المادة التي استخدمت من قبل لتجميد تحقيق المرفأ لأكثر من سنة، تحوّلت اليوم إلى أداة سياسية لتعطيل التحقيق في قضايا المصارف، وصولا إلى ترسيخ نظام معمم للإفلات من العقاب. ومن هذه الزاوية، بدا الكتابان وكأنهما يميطان اللثام عن السلاح المفضل للنظام السياسي لتعطيل أعمال العدالة بالكامل. وليس أدلّ من ذلك كتاب المولوي بتعطيل مجمل المذكّرات القضائية الصادرة عن القاضية عون في أي ملف جرى فيه تقديم طلب مخاصمة ضدّها، وهي سابقة لا تتوقّف على المصارف إنّما بإمكانها أن تنسحب على كل دعاوى الفساد وتفجير المرفأ. ومن هنا، القضاة مدعوون للاجتهاد، تماما كما فعل القاضي بيطار في 23 كانون الثاني، لتعطيل هذا السلاح الذي بات يتهدّد نظام العدالة بأكمله ويحوّل الشعب اللبناني برمته إلى شعب من الضحايا.
ثالثا، المسألة ليست غادة عون، المسألة هي اللاعدالة
إنّ ما نشهده اليوم يشبه تماما بما شاهدناه منذ قرابة الشهر في قضيّة المرفأ وهو مؤشر إلى مدى جهوزية نظام الحكم للانقضاض والانقلاب على أيّ قاض قد يتجرّأ على أيّ من خطوطه الحمراء. ما حصل مع طارق بيطار لا يُمكن أن يُقرأ من منطلق اعتبارات خاصة به أو بالقضية التي نظر بها أو بأي عمل قام أو لم يقم به، وكذلك ما يحصل اليوم مع غادة عون. إنّنا أمام رفض تامّ من نظام الحكم لأي مسعى قضائي لتحقيق الحدّ الأدنى من المحاسبة والعدالة. وهو بذلك يتخلّى تماما عن السيادة القضائية مُرغما الضحايا على الإلتجاء إلى عدالة دول أُخرى أو القضاء الدولي كملاذ أخير للحصول على حقوقهم.
وعليه، يُبدي الائتلاف المطالب الآتية:
أولا، نطالب القوى الديمقراطية والاجتماعية وبخاصة المحامين والقضاة الدفاع عمّا تبقّى من نظام العدالة في وجه هذا الاعتداء الذي يأتي استكمالا للانقلاب الحاصل في قضية المرفأ، والعمل على تحصين القضاة في إجراء التحقيقات وبخاصة الذين يتولون قضايا اجتماعية بالغة الأهمية كقضيتيْ المرفأ وتهريب 9 مليارات د.أ إلى الخارج. كما نطالب بأوسع التفاف اجتماعي لمباشرة دعاوى ضد ميقاتي ومولوي على خلفية جرائم التدخّل في القضاء واغتصاب السلطة القضائية المرتكبة منهما اليوم.
ثانيا، ندعو القضاة إلى اجتهاد الضرورة لتعطيل التعسف في استخدام أصول المحاكمات لتحقيق نتائج عبثية قوامها نسف العمل القضائي برمته ومعه حق التقاضي ومبادئ المحاسبة في ظل تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز. كما نضع نقابتيْ المحامين في بيروت وطرابلس أمام مسؤوليتهما في ضمان الالتزام بأداب المهنة وملاحقة المحامين المتورطين في تعطيل القضاء تعسّفا. فالحق بالدفاع انوجد للدفاع عن مشتبه بهم أمام القضاء وليس لتقويض القضاء برمّته.
ثالثا، ندعو النواب الديمقراطيين إلى إعلان التعبئة العامة لإجراء تعديل تشريعي يجرّد المدّعى عليهم من إمكانية تعطيل التحقيقات الحاصلة بمجرد تقديم دعاوى لكفّ يد القاضي بمعزل عن جديتها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.