التمييز تمنح متراساً جديداً لسلامة

،
2021-12-17    |   

التمييز تمنح متراساً جديداً لسلامة
المصور: Mohamad Azakir| المصدر: رويترز

أصدرت الغرفة الثالثة الجزائية لدى محكمة التمييز قراراً في 15/9/2021، قضى بعدم سماع الدعوى المُثارة بحقّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في قضية شراء الدولار المدعوم. وكانت المحكمة أصدرت في اليوم نفسه قراراً ثانياً يرمي إلى منح سلامة حصانة شبه مطلقة تُعلّق جواز ملاحقته على طلب من المصرف المركزي في ما يتعلّق بأي مخالفة لقانون النقد والتسليف. وفي حين تبنّتْ محكمة التمييز لهذه الغاية تفسيراً مشوّهاً للمادة 206 من قانون النقد والتسليف في قرارها الأوّل، فإنّها أبرزتْ في القرار الذي نتناوله هنا تفسيراً مُشوّهاً آخر لموادّ في قانونيْ أصول المحاكمات الجزائيّة والعقوبات. ومن شأن تراكم هذه القرارات أن يثير تساؤلات عدّة حول أداء هذه الغرفة التي ما فتئتْ تسهّل لسلامة إمكانية الإفلات من العقاب وصولاً إلى منحه حصانة مزدوجة خلال يوم واحد.

وقبل المضيّ في عرض ملاحظاتِنا على هذا القرار، يجدر التذكير أنّ قضية الدّولار المدعوم تتّصل بالدولار الذي تمّ تسليمُه من مصرف لبنان إلى الصرّافين في 2020 لغاية تمكين مواطنِين تتوفّر فيهم شروط معيّنة من شرائه بسعر حدّده هذا الأخير وهو أدنى من سعر ما سمي آنذاك “السوق السوداء”. وقد نشأت هذه القضية بعد بروز شبهات باحتفاظ عدد من الصرّافين بهذه الدولارات المدعومة أو بيعهم هذه الدولارات بأسعار السوق السوداء. وبرز من بين هؤلاء ميشال مكتّف وعبد الرحمن الفايد اللذيْن ادّعت النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون عليهما وعلى رياض سلامة ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميّة دبّاغ في هذه القضية.  

بقي أن نذكّر أنّ هذا القرار كسابقه، صدر عن هيئة مكوّنة من القضاة سهير الحركة (رئيسة) والياس عيد ورلى أبو خاطر (مستشاريْن). 

احتكار النيابة المالية لملاحقة جرائم الفساد والمصارف  

اعتبرتْ محكمة التمييز أنّ ادّعاء النيابة العامّة الاستئنافية في قضية الدولار المدعوم باطل بحيث أنّ هذا الادّعاء يدخل ضمن صلاحية النيابة العامّة المالية حصراً. وللوصول إلى ذلك، استندت المحكمة إلى المادة 21 من أصول المحاكمات الجزائية التي تنصّ على أنّه للنائب العام المالي “أن يطلب، بواسطة النائب العام التمييزي، من النائب العام الاستئنافي في كل المحافظات تحريك دعوى الحق العام…” وذلك بما يتعلّق بصلاحياته. وفي حين أنّ هذا النصّ يحدّد ما بإمكان النيابة العامّة المالية أن تفعله، استخلصتْ محكمة التمييز منه أنّه “لا يسع النيابة العامّة الاستئنافية الادّعاء بأيّ من جرائم اختلاس الأموال العمومية…. ما لم يكن بناء على طلب النيابة العامّة المالية”. وقد أعلنت المحكمة تفسيرها للمادة على هذا الوجه من دون أن تبيّن قاعدة التفسير المعتمدة منها، كأنّما المادة تفسّر هكذا لأنّها كذلك.  

وبذلك، تكون محكمة التمييز منحتْ النائب العامّ المالي صلاحية حصرية في الادّعاء في الجرائم التي تدخل ضمن صلاحيّته، مانحةً إيّاه سلطة أحاديّة في ملاحقة هذه الجرائم أو عدم ملاحقتها، من دون أن يكون هناك أيّ سبيل لتجاوز رفضه، إلّا ما قد يصدره النّائب العام التمييزي من أوامر بالملاحقة وفق سلطته الهرميّة على كلّ النيابات العامّة. وندرك أهمية هذا القرار حين نعرف أنّ قائمة هذه الجرائم الداخلة في اختصاص النائب العام المالي تضمّ الجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية لا سيّما تلك المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف وجرائِم الإفلاس والجرائم التي تنال من مكانة الدولة المالية وجرائم اختلاس الأموال العمومية وجرائم الشركات المساهمة والشركات متعدّدة الجنسيّات. وهي قائمة تضمّ عملياً مجمل جرائم الفساد وبخاصّة في القطاعين العامّ والمصرفيّ.

وهذا الأمر إنّما يقبل الانتقاد من زوايا عدّة، أبرزها الآتية: 

  • أنّه يعرّض مصالح المجتمع لمزيد من الضياع، من خلال ربط ملاحقة جرائم بهذه الخطورة، بإرادة شخص واحد. وهو خطر يبلغ مداه في حال وجود شبهات جدّية على ارتباط هذا الشخص بجهات سياسيّة أو شبكات مصالح بعينها، وهي شبهة يعزّزها تقاعسه عن ملاحقة كمّ كبير من الجرائم شديدة الخطورة، نعدّد منها على سبيل المثال وليس الحصر قضية سوناطراك أو أيضاً قضية شركة سوليدير التي أثيرت إعلامياً مؤخراً. كما يعززها تناقض المصالح لديه بين كونه نائباً عامّاً مالياً وعضواً في هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان التي تتولّى النظر في رفع السرّية المصرفية عند توفّر شبهات تبييض أموال والتي يرأسها حاكم مصرف لبنان نفسه، 
  • أنّه يؤدّي إلى تضييق مجالات ملاحقة هذه الجرائم. ما من شأنه أن يشكّل مخالفة واضحة وجليّة للاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادق لبنان عليها بموجب القانون 33/2008 وتحديداً الفقرة الثالثة من المادة 30 منها. للتذكير، تلزم هذه الفقرة كلّ دولة بـ “ضمان ممارسة أي صلاحيات قانونية تقديرية يتيحها قانونها.. فيما يتعلّق بملاحقة الأشخاص لارتكابهم أفعالاً مجرمة وفقاً لهذه الاتفاقية، من أجل تحقيق الفعالية القصوى لتدابير إنفاذ القانون التي تتخذ بشأن تلك الجرائم، ومع إيلاء الاعتبار الواجب لضرورة الردع عن ارتكابها”.
  • أنه يجرّد النوّاب العامّين الاستئنافيّين من صلاحياتهم المكرّسة قانوناً وهي تحريك الدعاوى العامّة وفق المادة 24 من قانون أصول المحاكمات الجزائية من دون أن يكون هنالك أيّ نصّ صريح يجرّدهم منها أو أيّ نصّ يعلن حصرية النيابة العامّة المالية في الادّعاء في هذه الدعاوى. وكان أجدى بالمحكمة لو استشعرتْ أيّ غموض في النصوص المتّصلة باختصاص النيابات العامّة، أن تفسّرها على النحو الذي يجعلها منسجمة مع الاتفاقيات الدولية وأهمها اتفاقية مكافحة الفساد والمصلحة الاجتماعية. أما وأنّها فعلت خلاف ذلك، فإنّها تكون وصلتْ إلى نتيجة عبثية أفقدت المحكمة العليا من دورها في حماية هذه المصالح. وما يعزّز هذه القراءة للنص هو مبدأ وحدة النيابات العامّة، حيث تُعتبر كلّ نيابة عامّة وحدة لا تتجزّأ يمثّل كلّ عضو فيها النيابة العامّة ككلّ. 
  • أخيراً، أنّ هذا القرار يناقض اجتهاداً سابقاً لمحكمة التمييز يحمل رقم 23 صادر في تاريخ 19/1/2005. ففي هذا القرار، رأت المحكمة أنّ ادّعاء النيابة العامّة الاستئنافية بشأن جريمة تدخل ضمن صلاحيات النيابة العامّة المالية (بيع أسهم مصرفية في البورصة) صحيح ولا يتعارض مع أحكام النظام العام. ومؤدّى هذا القرار هو أنّ النيابة العامّة الاستئنافية والنيابة العامّة المالية تتشاركان في اختصاص ملاحقة هذه الجرائم، ممّا ينفي ما ذهبت إليه في قرارها موضوع هذا التعليق بتمتّع هذه الأخيرة بصلاحية حصرية. 

توسيع اختصاص النيابة العامّة المالية

لم تكتفِ محكمة التمييز بتكريس حصرية اختصاص النيابة العامّة المالية، إنّما عمدتْ أيضاً إلى توسيع هذا الاختصاص خلافاً لما ذهبتْ الهيئة الاتهاميّة إليه، لتشمل، إلى جانب جرائم “اختلاس المال العام” جرائم “سوء إدارة المال العامّ”. وقد أمكنَها ذلك من خلال الخلط بين هذين المفهوميْن أي مفهوميْ “سوء إدارة المال العامّ” و”اختلاس المال العام” تبعاً لورودِهما ضمن النّبذات نفسها في قانون العقوبات، وتحديداً من خلال تفسير مشوّه للمادتين المدّعى بهما وهما المادتان 363 (فقرة أولى) و672 (فقرة سابعة) من قانون العقوبات. وعليه، اعتبرت المحكمة أنّ الادّعاء على سلامة على خلفية “إقدامه عن طريق إساءة الأمانة بالأموال المسلّمة إليه من الدولة، وعلى تبديد الدولار المدعوم إضراراً بالمصلحة العامّة، نتيجة قيامه كحاكم مصرف لبنان بضخ كميات كبيرة من الدولار المدعوم للصرّافين من الفئة “ذ” دون تحديد سقف لهذه الكميات، ووجهة استعمال الدولار المدعوم المعدّ لاستيراد المواد الغذائية وبعض الحاجيات الأساسية الأخرى، ما تسبّب في استنزاف احتياطي الدولار في المصرف المركزي وكسب غير مشروع لبعض الشركات والمؤسسات، وحرمان الفئات المعوزة من الاستفادة منه” هو بمثابة ادعاء باختلاس مال عامّ يدخل في الاختصاص الحصري للنيابة العامة المالية.  

وهذا ما نقرأه تفصيلياً في تفسيرها للمادة 363 (المتصلة بسوء إدارة المال العام)، حيث رأتْ المحكمة أنّها تندرج ضمن النبذة المتعلّقة “في الاختلاس واستثمار الوظيفة”، بما يعني أنّها تندرج ضمن ما يُمكن اعتباره اختلاساً لأموالٍ عموميّة. الاتجاه نفسه نستشفه في تفسيرها للمادة 672 (فقرة سابعة). ففي حين تنصّ هذه المادة على إساءة استعمال الأموال المسلّمة من قبل الدولة، اعتبرت المحكمة أنّ مجرّد ورودها تحت النّبذة المتعلّقة بـ “إساءة الأمانة والاختلاس”، فإنّ ذلك يعني حُكماً أنّها تقع ضمن اختصاص النيابة العامّة المالية. 

هذا التعليل يقبل الانتقادات نفسها التي أوردْناها أعلاه وبخاصّة لجهة تضييق مجال الملاحقة في جرائم الفساد خلافاً للاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد. يُضاف إلى ذلك انتقاد آخر على خلفية قواعد التفسير المُستخدمة، حيث تمّ تفسير هاتيْن المادّتين على أساس محل ورودهما في قانون العقوبات وتحديداً على أساس عنوانيْ النبذتيْن اللتين وردتا ضمنهما، من دون إيلاء أي اعتبار لمضمونِهما حتى ولو كان مناقضاً تماماً لهذيْن العنوانيْن.     

لا ملاحقة لمخالفات قانون النقد والتسليف من دون موافقة الحاكم 

فضلاً عن ذلك، عادتْ المحكمة لتَتناول المادة 206 من قانون النقد والتسليف بشكل ملتبس، بعدما كانت أبرأت سلامة من كمّ كبير من الادّعاءات ضدّه في قرارها الآخر الصادر في اليوم نفسه والمشار إليه أعلاه. وكانت المحكمة خلصتْ آنذاك إلى أنّ الملاحقات المتّصلة بمخالفات قانون النقد والتسليف والمعزُوّة للحاكم لا تُلاحق إلّا بناء على طلبه، وهو الأمر الذي انتقدته “المفكرة القانونية” معتبرة أنّ هذا التفسير الخاطئ يؤدّي إلى نتيجة عبثية قوامها منح سلامة حصانة مطلقة لا تسقط عنه إلّا بطلب منه، فضلاً عن أنّه يتعارض مع القرارات السابقة الصادرة عن محكمة التمييز وتحديداً القرار الصادر في تاريخ 24/11/2009 الذي أكّد أنّ هذه المادة محصورة بإطار المصارف والمؤسّسات المالية التي تمتهن أعمال الصرافة أو التسليف. وقد جاء حرفياً فيه أنّه “يتبيّن من المادة 206 من قانون النقد والتسليف معطوفة على المادة 20 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أنّها منطوية على قاعدة استثنائية للمبدأ العام المقرّر لمباشرة الملاحقة الجزائية استناداً إلى ادّعاء عام أو شخصي، وبدون أيّ قيد يحول دون تحريك الدعوى العامّة استناداً لمقتضى المواد 5 وما يليها من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ممّا يستدعي تطبيقها حصراً من دون أيّ توسّع كونها تمثّل خروجاً على مبدأ عام”.

وقد عاد ميشال مكتّف (أحد المدّعى عليهم) وحاكم مصرف لبنان ليُطالبا في هذه القضية بإبطال التعقّبات ضدّهما على أساس أنّ الأفعال المدّعى بها تشكّل مخالفات لقانون النقد والتسليف وأنّ الادّعاء عليهما تمّ من دون الاستحصال مسبقاً على طلب من المصرف المركزي بخلاف ما تفرضه المادة 206. ويلحظ أنّ كلاهما أدلى بهذا الطلب رغم أنّ الادّعاء عليه لم يشمل أيّاً من الجرائم الواردة ضمن قانون النقد والتسليف إنّما جرائم وردت في قانون العقوبات وهي تحديداً المادة 770 منه (مخالفة الأنظمة الإدارية) بالنسبة لمكتّف والمادتين 363 و672 بالنسبة لسلامة. 

وهنا أيضاً أتى قرار محكمة التمييز مفاجِئاً. ففي حين أنّها ردّت مطلب سلامة على خلفيّة أنّ الادّعاء ضدّه لا يتّصل بأيّ من الجرائم المعدّدة في قانون النقد والتسليف، فإنّها أرجأت عمليّاً البتّ في طلب مكتّف إلى مرحلة أخرى من مراحل التحقيق، بحجّة أنّ معرفة “ماهية النظام الذي جرت مخالفته” تمهيداً لإعطائه وصفه القانوني يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأساس النزاع وما سيظهره التحقيق. ويُفهم من ذلك أنّه إذا تبيّن لاحقاً أنّ الأفعال الجرميّة المُدّعى بها ناجمة عن مخالفة قانون النقد والتسليف، فإنّه يجدر إذ ذاك وفق المحكمة إبطال التعقبات بشأنها. فكأنما المحكمة تؤكّد مجدّداً أنّ المادة 206 لا تنطبق فقط على الجرائم المذكورة في قانون النقد والتسليف بل تشمل أيّ جريمة تتصل بأيّ مخالفة لهذا القانون. 

وعند قراءة هذا القرار، يتبدّى تناقض واضح لجهة ماهية الجرائم التي تخضع للمادة 206 ليس فقط في متنه ولكن أيضاً عند مقارنته بالقرار الصادر في اليوم نفسه حيث اعتبرت أنّ ملاحقة سلامة بأيّ من مخالفات قانون النقد والتسليف تخضع لهذه المادة حتى ولو يكن الجرم المدّعى به من الجرائم الواردة فيه.   

قرار آخر لضمان إفلات سلامة من العقاب

انطلاقاً ممّا تقدّم، يظهر أنّ قرار محكمة التمييز اختلف في وقائعه وحججه عن القرار الصادر عنها في اليوم نفسه في قضية أخرى ادّعي فيها على سلامة. لكن رغم ذلك، التقى القراران على إبطال التّعقبات بحقّ سلامة كليّاً أو جزئياً بل على إحاطته بمزيد من الحصانات القانونية والواقعية. ففي حين أدّى القرار السابق إلى ربط ملاحقة سلامة في أي من مخالفات قانون النقد والتسليف بطلب يصدر منه، أتى هذا القرار ليضيف إلى الحصانة السابقة حصانة ثانية تتمثل في حصر الادّعاء عليه في كمّ كبير من الجرائم المالية والمصرفية بالنائب العام المالي دون سواه. وما يعزز من هذه الحصانة هو أنّ هذا الأخير هو في الآن نفسه عضو في الهيئة المصرفية العليا وفي هيئة التحقيق الخاصّة ضمن مصرف لبنان، وكلاهما هيئتان يرأسُهما الحاكم نفسه.     

بقي أن نشير إلى أنّ هذين القرارين صدار غداة إعادة إحياء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان تبعاً لتوقيع العقد الجديد مع شركة Alvarez & Marsal. فلنتابِع.

للاطلاع على قرار محكمة التمييز اضغطوا هنا

نُشرت هذه المقالة في العدد 2 من “ملف” المفكرة القانونية | جرائم نظام من دون عقاب (المحور الأوّل – ممارسات الإفلات من العقاب(

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم جزائية ، مصارف ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني