بعد الصمت والموالاة، المحاماة الرسمية تعلي الصوت


2024-03-22    |   

بعد الصمت والموالاة، المحاماة الرسمية تعلي الصوت

في تاريخ 21-03-2024، أصدرت الهيئة الوطنية للمحامين بيانا أكّدت صلبه “التزامها بالدور الوطني للمحاماة التونسية وبرسالة الدفاع عن الحق والعدل والحرية وعلوية القانون” وتمسكها بحقّ الشعب التونسي “في نظام سياسي ديموقراطي ومتطور وتشاركي”. كما ندّدت “بتردّي واقع الحريّات.. واستفحال الإيقافات للمحامين والناشطين السياسيين” وأدانتْ “سوء إدارة المرفق القضائي في ظلّ تفشّي مناخ التخويف والترهيب”. وانتهت بعد إشارة إلى مطالب قطاعية إلى القول أن “المحاماة التونسية التي ساهمتْ في دحر الاستعمار ومقاومة الدكتاتورية لن تتوانى عن الدفاع عن مكتسبات شعبنا وتطلّعاته بمختلف الوسائل النضالية بدءا بالمقاطعات والاحتجاجات ووصولا للدعوة للجلسة العامة لعموم المحامين للتداول في الوضع وإقرار التحركات النضالية القصوى”.

ويبدو هذا البيان الذي يقطع مع ما عرف قبله من موالاة من المحاماة الرسمية لنظام 25 جويلية 2021 هاما في مضمونه السياسي كما أنه لا يقل أهمية بنظر توقيته الذي يتزامن مع بداية حراك سياسي موضوعه استحقاق الانتخابات الرئاسية. وهما معطيان يتجه الوقوف عندهما في قراءته.

بعد طول صمت وموالاة هيئة المحامين تتكلم: أي دلالات؟

في فترة الجمهورية الأولى، لعبتْ الهيئة الوطنية للمحامين دورا بارزا في الدفاع عن الحقوق والحريات وذلك بفضل تركيبة مجالسها التي كانت لا تخلو من محاميّ الرأي ممن يعتبرون أن المحاماة مطالبة بلعب دور سياسي في مقاومة الاستبداد. كما أنها أثناء الثورة، قادتْ التحرّكات الاحتجاجية وساهمتْ مع الاتحاد العام التونسي للشغل في صياغة الوعي السياسي الذي صاغ شعاراتها. تاليا وطيلة فترة الانتقال الديموقراطي كان لها حضور كبير في المشهد السياسي خصوصا بمناسبة مشاركتها في إدارة الحوار الوطني سنة 2013.وقد شكّل هذا الرصيد النضالي ما بات يصطلح على تسميته وسط المحامين بالدور الوطني للمحاماة التونسية. هذا الدور منح مؤسّسات المحاماة الرسمية مكانةً مميّزة في الساحة الوطنية تجاوزتْ معه وصفها المهني لتتحوّل إلى فاعل أساسيّ في الساحة السياسية والحقوقية، الأمر الذي لم يرضِ جانبا هامّا من المحامين الذين عزوا لهذا التحوّل، تردّي ظروف عملهم وإهمال تحقيق مكاسب قطاعية لهم.

وفي سياق هذا التجاذب وسط المحاماة حول دور المحاماة، استعملتْ عمادة المحامين بعد 25 جويلية 2024 هواجس المحاماة المهنيّة لترفض مساندة من تعرّض من المحامين لتتبعات جزائية وتعلن مساندة كاملة للسلطة روّجت لكونها السبيل لتحقيق مكاسب غير مسبوقة تتمثل أساسا في قانون جديد للمهنة يوسّع مجال تدخّل المحامي ويحدّ من ظاهرة التحاق القضاة بالمحاماة ويصلح نظام التقاعد في اتجاه إزالة خطر إفلاس صندوق تقاعدهم.

وفي سبيلها هذا، تبرّأت الهيئة في مرحلة أولى من المحامين الذين تمّ تتبّعهم جزائيا على خلفية مواقف سياسيّة أبدوها بتعلة أنهم اختاروا العمل في السياسة وعليهم تحمّل وزرها[1]. وفي مرحلة ثانية، ومع التطور الكبير وغير المسبوق في تاريخ تونس لعددهم، أبدتْ الهيئة مساندة محدودة لهم وللمحامين الذين تم تتبعهم على خلفية مواقف رأي على علاقة بنشاطهم المهني من خلال تقديم إعلامات نيابة أو إدارة لهيئات دفاع عنهم. وفي ذات السياق، أيّدت الهيئة حلّ المجلس الأعلى للقضاء ولازمتْ الصمت حيال إعفاء القضاء وكلّ الخطابات السياسية التي كشفت عن ضغوط تتسلّط عليهم. كما لم تعارضْ فقدان المحاماة بفعل السلطة وتشريعاتها لمكاسب كانت تعدّها مهمّة ومنها “دسترتها” أي التّنصيص على كونها شريكا في إقامة العدل في دستور 2014 والذي غاب في دستور الرئيس. وحرصتْ الهيئة في كل بياناتها وخطابات عميدها -ومنها بيانها الذي سبق هذا البيان وصدر بتاريخ 11 جانفي 2024 – على تأكيد مساندتها لمسار السلطة وانخراطها الكامل فيه ورفض  الانخراط فيما تسمّيه “التوظيف الحزبي أو السياسي لها”. ويبدو أن تبدد وهم تحقيق مكاسب قطاعية بفضل المساندة، وتصاعد الأصوات داخل المحاماة وخارجها بإدانة ما تسميه التذيّل للسلطة كانا الدافع على الموقف الجديد والذي يمكن اعتباره انقلابا مهمّا في توقيته عن شعار المهنية الذي رفع سابقا وكان مبررا لموالاة سياسية لم تثمر.

توقيت البيان: هل هو انقلاب الساعة الحاسمة؟

يرد الموقف الجديد للمحاماة الرسمية قبل نصف سنة فقط من محطة الانتخابات الرئاسية المنتظر أن تجري في شهر أكتوبر 2024. أي مع قرب نهاية الولاية الأولى للرئيس قيس سعيد وفي ظلّ بروز مؤشرات متعددة عن صعوبات قد تواجهه في المنازلة إن رام تجديدها بفعل تعدّد الترشحات التي يعدّ بعضها وازنا. كما أنه يتزامن مع خروج الحديث عن توتر علاقة الرئيس برئيس برلمانه عميد المحامين السابق إبراهيم بودربالة للعلن. وقد يكون للمعطيات المذكورة دور أساسيّ في التغيير لبوصلة المحاماة الذي يوحي به بيانها. اعتبارا لكون ضعف رئيس البرلمان يمنع فعليا أيّ مراهنة على تحقيق مكاسب تشريعية بفضل موقعه في النظام خلافا لما كان ينتظره عميد المحامين حاتم مزيو سابقا، فيما آل تطوّر المشهد السياسي إلى إضعاف الشقّ الموالي سياسيا للرئيس داخل الهيئة وخلق أغلبية جديدة تنادي باستعادة الدور الوطني للمحاماة وهو أمر قد لا يكون يسيرا.

استعادة الدور الوطني: المهمّة الصعبة

استند جانب من  المتابعين لما ورد في البيان من مطالب قطاعية ليعتبروا أن مضمونه التصعيدي الرامي إلى الضغط على السلطة سيرفع متى استجابتْ لجانب منها. وكشف هذا الموقف الذي يحاسب على النوايا على عمق أزمة الثقة في المحاماة الرسمية اليوم داخل المحاماة وخارجها والتي باتتْ تتهم علنا بالإغراق في القطاعية. وربما كان من المهم الاستماع لهذه الأصوات في سياق المحاولة لاستعادة ما يسمى ب “الدور الوطني للمحاماة” لكونه يؤشّر إلى أن ما يطلب من المحاماة ليس مجرد معارضة إنشائية للمسّ بالحريات والتعدي على استقلالية القضاء وإنما مواقف عملية تبرز التزامها الحقيقي بتلك القيم.

وفي هذا الإطار، يكون  ملف  القضاة المعفيين ممن تسلمت هيئة المحامين منذ ما يزيد عن عام ونصف ملفاتهم وتحصلت منهم على رسوم ترسيم هامة تولت صرفها لتغطية عجز موازنتها وماطلت بعد ذلك في ترسيمهم بالمحاماة محطة منتظرة سيكون موقفها فيها مما يثبت التزامها بما ورد من شعارات في بيانها او ينفيه. فلنراقب.


[1]  في تصريح ادلى به لإذاعة جوهرة آف أم . بتاريخ 04-03-2022 وجوابا عن سؤال حول محاكمة عميد المحامين الأسبق  عبد الرزاق الكيلاني قال عميد المحامين حينها إبراهيم بودربالة انه كان دوما في الصف الأول في الدفاع عن المحامين الذين يتعرضون لاي اشكال اثناء ممارستهم لمهنتهم لكن كل من يريد العمل في السياسة وهذا حقه فليتحمل مسؤوليته ولن يكون ذلك على حساب المحاماة

انشر المقال

متوفر من خلال:

نقابات ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني