لامــــــركـــــزية اللــــــــغة


2013-08-26    |   

لامــــــركـــــزية اللــــــــغة

تهدف هذه الأسطر تحديدا الى تسليط الضوء باتجاه التجاذبات السياسية والثقافية ذات الصلة بالقضية الأمازيغية في ليبيا، وتحديدا الشق اللغوي منها، وذلك بعد الأحداث التي شهدتها قاعة المؤتمر الوطني العام في الأيام القليلة الماضية. وبادئ ذي بدء يمكن القول: إن الواقع الدستوري المؤقت المتعلق بلغة الدولة والقاضي بأن: اللغة الرسمية هي اللغة العربية مع ضمان الحقوق اللغوية والثقافية للأمازيغ والتبو والطوارق وكل مكونات المجتمع الليبي(المادة 1 من الإعلان الدستوري) – يعتبر من وجهة نظر أمازيغية غير كافٍ لإنعاش هذه اللغة وضمان حقوق أبنائهم في التعلم بها في المؤسسات التعليمية العامة أو الخاصة، وبالنتيجة لا يكفل حقهم في إصدار الوثائق الرسمية الخاصة بهم بذات اللغة، فضلا عن أنه لا يضمن حق التكلم والمخاطبة والتعبير بها في دوائر الإدارة المحلية الخاصة بالأمازيغ.
 ما تقدم ذكره يشكل حقوقا تكفلها العهود والمواثيق الدولية المنظمة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية فالمادة 27 من العهد الدولي الأول للحقوق المدنية والسياسية تقضي بأنه: لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات اثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائرهم أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين من جماعتهم.
وعليه، لا شك أن النص السابق يحمي حقوق المكونات التفافية باستخدام لغتهم الأصلية حالة وجود تعددية لغوية في الدولة الواحدة، إلا أنه لم يشترط أن تكون لغة (أو لغات) المكونات لغة رسمية في الدولة. وعليه -فإن المهم الآن -كيف يمكن إقرار توافق (أو موازنة) بين المطالب الأمازيغية، وبين الواقع الدستوري المعاش اليوم الذي يعتبر لغة الأمازيغ لغة وطنية أو قومية لا ترقى إلى مستوى اللغة الرسمية؟
إن إيجاد نوع من التوافقية بين الأمرين السابقين يتوقف على إجابة التساؤل التالي: هل هدف المطالبة بالأمازيغية لغة رسمية ضمان حق كل أمازيغي في استخدام لغته مع الأعضاء الآخرين من جماعة الأمازيغ؟ أم نشر الأمازيغية في كافة أنحاء الدولة؟
في حالة اختيار الشق الأول من السؤال يمكن القول: إذا كان الواقع الدستوري الحالي -بالنسبة للأمازيغ -لا يفي بتحقيق الغرض المنصوص عليه في العهد الدولي المشار إليه أعلاه، فإن تحقق مطالبهم لا يستلزم بالضرورة أن تكون الأمازيغية لغة رسمية لكل سكان الدولة، وإنما يكفي لذلك اعتبارها لغة رسمية ثانية في الوحدات الإدارية التي يشكل الأمازيغ غالبية سكانها (لامركزية اللغة). وقد سار على هذا الاتجاه عدد من دساتير الدول في العالم ككندا والعراق؛ ففي دستوره الأخير (المادة الثالثة، فقرة رابعا) جاء ما يلي: اللغة التركمانية واللغة السريانية لغتان رسميتان أخريان في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية. وذلك بعد أن قضت الفقرة أولا، بحق العراقيين بتعليم أبنائهم باللغة الأم كالتركمانية والسريانية والأرمينية في المؤسسات التعليمية الحكومية وفقا للضوابط التربوية أو بأي لغة أخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة. أما الفقرة الخامسة فقد أقفلت المادة الثالثة بالقول: لكل اقليم أو محافظة اتخاذ أية لغة محلية أخرى، لغة رسمية اضافية إذا أقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام. وعليه، فإن لامركزية اللغة تحقق الموازنة (أو التوافق) بين مطالب الأمازيغ وبين ما هو موجود من واقع دستوري في ليبيا.
أما في حالة اختيار الشق الثاني من التساؤل المطروح أعلاه، فإن من أهم النتائج المترتبة على ذلك هي: الأعباء المالية التي سترهق كاهل الدولة الليبية؛ فالتخاطب والتكلم بلغتين رسميتين أو أكثر في البرلمان (السلطة التشريعية) ومجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) والمحاكم (السلطة القضائية) وفي المؤتمرات الرسمية، وفي إصدار الوثائق الرسمية والمراسلات وفي فتح مدارس حكومية وغيرها بلغتين رسميتين على مستوى الدولة سيكلف نفقات مالية بالإمكان توظيفها في شأن آخر، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التوزيع الجغرافي للأمازيغ محصور وغير منتشر في ربوع الدولة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، سيتطلب الأمر من الدولة أن توفر موظفين رسميين يجيدون الأمازيغية قراءة وكتابة في كل مكاتب البريد المنتشرة في كافة أرجاء الدولة. هذا فضلا عن أن الغالبية العظمى من الناطقين بالأمازيغية في ليبيا -وفق ما ذكره بعض الأمازيغ -لا يجيدون الأمازيغية قراءة وكتابة ولا معرفة لهم بقواعد وأصول اللغة (بسبب التهميش الذي طال ثقافتهم زمن النظام السابق)، وهو ما سيدفع نحو استجلاب متخصصين بالأمازيغية من دول الجوار, والنتيجة فرض أعباء مالية اضافية بالإمكان تجاوزها لو أخذنا بمفهوم لامركزية اللغة على النحو المطروح أعلاه.
الخلاصة: إذا كانت اللامركزية الإدارية تقوم على منح الدولة إقليم – أو أقاليم معينة – مهام إدارية بصفة مستقلة عن السلطة المركزية؛ فإن لامركزية اللغة تعني منح إقليم أو أقاليم معينة لغة رسمية خاصة بهم إلى جانب اللغة الرسمية المعمول بها على كامل تراب الدولة لضمان الحفاظ على الهوية الثقافية لسكان ذلك الإقليم أو تلك الأقاليم، ولتجنيب الدولة مبالغ طائلة ترهق ميزانيتها السنوية حال فرضها لغة رسمية على كامل ترابها وذلك اقتداء بالأسلوب الذي تنتهجه المنظمات الدولية (التي تحتوي في عضويتها دول متعددة اللغات) باختيار لغة محددة كلغة رسمية للمنظمة مع امكانية فتح الباب لإضافة لغات أخرى إذا تحملت الدول الناطقة بها تكاليف مصاريف الإضافة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، ليبيا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني