قضاة وإعلاميون وسياسيون يجهضون مساعي النهوض الاقتصادي: شطب الدولة أبدى من شطب الودائع


2024-03-27    |   

قضاة وإعلاميون وسياسيون يجهضون مساعي النهوض الاقتصادي: شطب الدولة أبدى من شطب الودائع
رسم رائد شرف

في 6 شباط، تم تسريب مسودّة “مشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها”، وهي تقوم على  حصر ضمان المودعين باستعادة ودائعهم بمبلغ مالي يصل بالحدّ الأقصى إلى 100 ألف د.أ ويسدد خلال سنوات، في موازاة شطب ديون المصارف على مصرف لبنان. وسرعان ما اتّضح أن هذه المسودة وضعتْها لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان بالشراكة مع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي. وقد طلب الشامي في 22 شباط رسميا إدراج هذه المسودة على جدول أعمال الحكومة.

وبالتزامن مع تسريب هذه المسودّة في 6 شباط، أصدر مجلس شورى الدولة قراره في قضيّة أقامتها جمعية المصارف ضدّ الدولة لإبطال “شطب ديون مصرف لبنان تجاه المصارف” (وفقاً لبند في استراتيجية الحكومة للتعافي المُقرّة عام 2022) بحجّة أنّ الودائع تتمتّع بحماية دستوريّة وأن الدولة مسؤولة عن ردّها. وقد استغلّت الجمعيّة القرار في حملة هدفتْ إلى تقويض مسوّدة مشروع القانون تحت شعار “قدسيّة الودائع” وعدم جواز المسّ بها. وبنتيجة الحملة الدعائية التي شنتها جمعية المصارف، تبرّأ حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري من مسودة مشروع القانون، وأعلن عددٌ من الوزراء والنواب والخبراء الاقتصاديين فضلا عن العديد من جمعيات المودعين رفضهم لها. (راجع ما نشرته المفكرة حول مشاريع القوانين السابق طرحها[1])

وفيما أسّس رافضو المشروع لسرديّة عمادها حجّتان: الأولى قانونيّة تعتبر أنّ الوديعة تعادل الملكيّة الخاصة وتتمتع بنفس الحماية الدستورية، والثانيّة سياسيّة أيديولوجيّة تبدّي إعادة ثقة الناس في النظام الائتماني على أي مصلحة عامة أخرى، فإنّ السرديّات المضادة اشتركت في تحميل المصارف المسؤوليّة القانونيّة، معتبرةً أنّ التلطّي وراء شعار “قدسبّة الودائع” هو بمثابة تضليل للمودع والمواطن. وقد استندت هذه السرديات المضادة على أنّ إيداع المصارف نحو 90 مليار دولار أو ما يوزاي ثلاث أرباع الودائع (وفق الإقتصادي توفيق كسبار) لدى مصرف لبنان وحده عرّضها إلى انكشاف مالي بالغ المخاطر، ما أدّى إلى توقفها عن الدفع وأصبحت مفلسة بالمعنى القانوني وعلى أنّ معارضي مسودة المشروع لا يهتمّون بالمُودع الذي سيخسر نحو 85% كفارق لسعر الصرف في الوضع القائم وفي غياب الحلول البديلة المطروحة الناجعة في ردم الفجوة الماليّة.

وقد تصاعدتْ الحملة المناوئة لمسودة المشروع في برنامج “صار الوقت” على قناة “ام تي في” في 22 شباط، واستمرت في خطابات الوزراء والنواب والخبراء الاقتصاديين على مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف وسائل الإعلام، وبقي مضمونها في حدود الشعارات والعموميات, وقد سجلت في الفترة نفسها نقاشات تلفزيونية بحضور رأي معارض للحملة في حلقة 22 شباط من برنامج “جدل” وحلقة 26 شباط من برنامج “20/30” على قناة “ال بي سي”، والتي يمكن من خلالها التمييز إلى حدّ ما في مواقف ثلاثة أطراف المصرف- المودع- المجتمع، والتنبيه ممّا يعنيه ضرب المشروع إجرائيّاً في غياب أيّ طروحات واقعيّة بديلة. 

معدّو المشروع طرفان: الأوّل يتملّص منه والثاني متمسّك فيه 

أول المواقف التي نلحظها على جهة معدي مسودة المشروع، موقف حاكم المصرف المركزي وسيم منصوري الذي ولئن شارك مع لجنة الرقابة على المصارف في صياغتها، فإنه سارع ليكون أوّل المتملصين منها مع انطلاق الحملة، مشيراً إلى أنّ دوره اقتصر على إبداء الرأي وإعطاء المشورة خلال صياغة المشروع. وهي نقطة استغلّها أغلب منتقدي المشروع، للقول أن المشروع “يتيم” أو “لقيط” ولا من يتبناه. علماً أنّه توجد تصريحات سابقة لمنصوري يؤكّد فيها على أن أحد مقومات المشروع “اللي حتزعل كتير ناس” وفق تعبيره، يتعلّق بضرورة تحديد مصادر الودائع ومدى أهليتها ومشروعيتها. وبدا وزير الماليّة يوسف الخليل وكأنّه ينأى بنفسه هو أيضاً، إذ اكتفى بالحديث عن ضرورة تحرير سعر الصرف، والإشارة إلى “أنّ تكبيل الودائع إلى حين إقرار القوانين المؤاتية، يرتّب كلفة على الاقتصاد وعلى المودع”. وهو موضوع تناوله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وبدا من خلال التعليقات الصحافيّة، كما من خلال تضعضع مواقف كلّ من المسؤولين الثلاثة، أنّ أيا منهم لا يريد أن يتحمّل مسؤوليّة أيّ قرار يتعلّق بسعر الصرف للسحوبات أو يرتبط بإعادة هيكلة المصارف. 

وإذ سأل المقدّم على “الجديد” جورج صليبي رئيس الحكومة في حلقة خاصة، بشأن “يتم” مشروع إعادة الهيكلة الذي اعترض عليه جميع الوزراء، صرّح هذا الأخير أنه كان ينتظر مثل ذلك فهو “كأس مرّ لا أحد يريد تجرّعه”. وأشار ميقاتي إلى واقع أنّ مجمل قيمة الودائع تصل إلى 85 مليار دولار، فيما لا يوجد مقابلها لدى مصرف لبنان أكثر من 9 مليار دولار. “فماذا أفعل؟” موضحاً ظروف إعداد المسودة بأنّ كانت الحكومة أرسلت إلى مجلس النوّاب خطّة كاملة للتعافي فلم ينظرْ فيها المجلس، ثمّ نقل عن رئيس المجلس أنه هو من طلب منه في كانون الأوّل تحويل الاقتراح إلى مشروع قانون على أن ينتهي إعداده في 15 شباط. وتابع: “حشرت في الوقت فطلبت من حاكم مصرف لبنان أن يعدّه”، وإذ قامت حاكميّة المصرف بهذا الأمر، فإن الحاكم أكّد أن المشروع ليس مشروعه على اعتبار أنّ إعداده ليس من اختصاص الحاكم، كي لا يكون من “تعارض” وفق تعبير ميقاتي (تضارب صلاحيات). ثمّ أردف ميقاتي أنه كان لديه ملاحظات على المشروع أكثر من الوزراء، “بخاصّة وأنّه يتعرّض لأمرين بالغي الخطورة، أوّلاً المودع، وثانياً الثقة بالاقتصاد اللبناني، التي ضربت تماماً في (مضمون) المشروع، بحيث لن يودع أحد أمواله في لبنان بعد ذلك”. وبهذا التصريح الأخير، تبنّى ميقاتي سرديّة ضرب المشروع.

بالمقابل انفرد نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي عن الوزراء في طرح موقف مغاير للسرديّة المهيمنة. فقد أوضح الشامي  في مقال نشرته جريدة “نداء الوطن” من جهته ظروف إعداد المشروع، بدءًا من تكليفه برئاسة التفاوض مع صندوق النقد إلى جانب وزيريْ المالية والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان حين أقرت مذكرة تفاهم ووضعوا من خلالها برنامجاً اصلاحياً. هذا البرنامج لم يحظَ بدعم الحكومة أو مجلس النواب، وأراد البعض “التنصّل من ذلك الاتفاق حتى ممن شارك في المفاوضات”. وبعيداً عن الاتّفاق، أشار الشامي إلى أنّ لجنة المال والموازنة سبق وعطّلت في أيلول 2022 القوانين المتعلقة بإعادة هيكلة المصارف والانتظام المالي التي كانت مطروحة في حينها. فيما كان الهدف من المشروع الجديد “تعزيز الاستقرار المالي وإعادة تفعيل القطاع المصرفي بعد إعادة هيكلته وتحسين حوكمته، آخذين بعين الاعتبار استدامة الدين العام دون إثقال كاهل المواطنين بأعباء ضريبية إضافية”. وفنّد الشامي التعديلات التي أضافها مصرف لبنان ومنها ما يتعلق بالتمييز وفق “الأهلية”، وفكرة تحويل الودائع إلى أسهم في المصارف (bail-in)، مستغرباً في هذا الصدد تسريب مسودة القانون للقضاء عليه قبل مناقشته بصورة علمية. واعتبر أنّ المشروع هو الطريق لمعالجة وضع أصحاب الودائع المشروعة، منتقدا سرديّة تحرير المصارف من المسؤوليّة ومؤكّداً أنّ تحميل الخسارة للدولة يعني عملياً تحميلها لكلّ مواطن عبر فرض ضرائب باهظة على المواطنين والأجيال القادمة.

بدوره، تساءل مستشار رئيس الحكومة الاقتصادي سمير ضاهر في حديث عبر إذاعة “صوت كل لبنان 93.3” عن البديل إذا لم يتمّ السير بهذه الخطة. وفنّد على برنامججدل – “ال بي سي” أموراً في السرديّة غير التي قاربها الشامي، منها ادعاء ممثّلي المصارف أنّ “المركزي” هو أأمن خيار لإيداع المال، مشيراً إلى معايير احترازيّة وفقاً ل”بازل” تقول أنه لا يجوز أن يكون هناك انكشاف لمقترضٍ واحد، بحيث يتعدّى الإيداع 20% من رأسمال المصرف. وأردف أنّ “المصارف كانت ملزمة بنحو 15 مليار دولار كاحتياطي إلزامي، فوضعوا 85 مليار دولار”. وكان يجب على لجنة الرقابة على المصارف أن تنظر في هذا الأمر، لكنها كانت تقول أنها تتبع تعليمات الهيئة الناظمة للمصرف المركزيّ، وأنها موّلت الدّولة من خلال هذه الأموال. كما أوضح ضاهر أن “المركزي” لا يطبع الدولار وهو بالتالي ليس مكاناً آمناً بالضرورة لوضع المال بالدولار. وفيما أكّد ممارسة الحكومة مسؤوليّتها من خلال هذا المشروع الذي يؤمّن الودائع التي لا تفوق قيمتها 100 ألف دولار، وهي تشكّل 89% من مجمل الحسابات، وهو القدر الممكن تأمينه اليوم للمودعين من الأموال. والمشروع برأيه يحسّن من وضع المودع بالمقارنة مع الوضع الحالي بحيث يصبح مقدار الشطب من الودائع بخسارة نحو 25% بدلاً من 85% في غياب المشروع، وإن كان رد الودائع سيتحقق على فترة 15 عاماً.

هيمنة سرديّة الودائع كملكيّة “مقدّسة” وإمكانيّة ترميم الثقة بالقطاع الائتماني

هي سرديّة جمعيّة المصارف في المقام الأوّل، وقد تبنّتها مختلف قوى النظام من داخل الحكومة وخارجها. وأبرز مضامينها رفض التمييز بين الودائع، بما فيها الودائع غير المشروعة أو المتأتيّة عن المضاربة بسعر الفائدة. فالتسلّح بنظريّة مفادها أن الودائع قد أدانتها المصارف للدولة وأنّ الأخيرة بددتها، بمعنى أنّ “المال الخاص” تحوّل إلى “نفقات عامّة”، ما يوحي أنّ الحل هو خنق هذه النفقات العامة لاستعادة “المال الخاص” أو تجيير استثمارات الأملاك العامة وأصول الدولة لهذه الغاية. 

وبدا أنّ مجلس شورى الدولة أوّل من تبنى السردية ضمناً دون التطرّق مباشرةً إلى الموضوع، بحيث أن قراره الصادر في 6 شباط، ورد فيه عناصر ثلاثة من السرديّة. فهو أوّلاً، عادل بين الودائع والملكية الخاصة لناحية الحماية التي يكفلها الدستور. وثانياً، اعتبر أن شطب الودائع يعني تخصيصها لتسديد الأعباء العامة (العجز في الموازنة العامة) فيتحمّل المودعون عبءًا لا يلحظ برأيه مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون. وثالثاً، استحضر المادة 113 من قانون النقد والتسليف بأنّه على الدولة أن تسدّ من حساب الخزينة العامة العجز الحاصل في حسابات مصرف لبنان، ورأى أنّ تخلّف الدولة و”المركزي” عن تسديد ودائع المصارف، يعني عجز الأخيرة عن تسديد حقوق المودعين. (فنّدت المفكرة القانونيّة عيوب هذا القرار).

وفي 22 شباط، يوم إرسال الشامي طلب مناقشة مسودة مشروع القانون في مجلس الوزراء، كانت حلقة برنامجصار الوقت على قناة “ام تي في”، بمثابة إطلاق الحملة لتقويضها. خلالها، أعلن المقدّم مارسيل غانم ب “سكوب إعلامي” أبرز المواقف التي ستصدر تباعاً من الوزراء في الحكومة، ومن القوى التي ستعارض مشروع القانون هذا. وبدأت الحلقة بأنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي نفسه غير راضٍ عن المشروع (قبل مقابلته على “الجديد”). وسأل غانم شقيقه جورج في مقدمّة الحلقة، إذا كان ميقاتي سيأخذ بملاحظات عدد من الوزراء ويؤجّل نقاش المشروع. فألمح جورج غانم إلى أنّ موقف ميقاتي انطلق من مراضاة صندوق النقد من جهة والأطراف الداخليّة من جهة أخرى، وتمثّلت خطّته برمي المسؤوليّة على مجلس النوّاب، حيث أنّ الكتل الأساسيّة غير موافقة على المشروع، وأردف أنّه “من الواضح أنّه نتيجة الاعتراضات الكبيرة للقوى والأحزاب والوزراء، يبدو أن الرئيس ميقاتي مضطراً كي يعرض ثم يؤجّل، ربما مرّة وإثنين وثلاث”. وللحديث عن “مخاطر المشروع” استشهد جورج غانم بمقال الوزير السابق غازي وزني (نُشر فيالنهار في اليوم نفسه). وعموماً كانت رسالة البرنامج في استضافة رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان، واضحة لكون معارضة المشروع ستكون أيضاُ من خارج الحكومة تبعاً لمواقف نواب كتلة “الجمهوريّة القويّة”، كما من داخلها تبعاً لمواقف وزراء محسوبين على رئيس المجلس النيابي نبيه بري أو مقربين من رئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون، فنعتْ بذلك حلقة غانم حظوظ إقرار المشروع.

وأكثر تفصيلاً، بدا المحسوبون على رئيس المجلس النيابي في طليعة القوى المعارضة لمسودة المشروع. وقد جاء في مقدمتهم المدعي العام المالي علي ابراهيم الذي أصدر بيانا جاء فيه أن “المطلوب الآن وضع رؤية اقتصادية مالية قانونية شاملة للإنقاذ والبدء بإعادة الودائع إلى أصحابها”. وفي إشارة إلى كيفيّة تحقيق ذلك، قال أن “لدى الدولة موجودات كالأملاك البحرية وسواها”. أمّا من داخل الحكومة، وإلى جانب موقف الوزير الخليل، فقد أكّد وزير الزراعة عباس الحاج حسن لـجريدة ”النهار” أنّ “مشروع القانون لن يمرّ”، طالباً إعادة النظر في بعض بنوده. وقد أردف أن “أموال المودعين خط أحمر وبمثابة أموال الأوقاف الإسلامية والمسيحية يُمنع المساس بها، وخارج هذه الرؤية يمكن النقاش طويلاً في كل البنود”. كذلّك شدّد وزير الثقافة محمّد مرتضى على أن مشروع القانون يجب أن ينصبّ على مسألتيْ حقوق المودعين و”بثّ الحياة بطريقة صحية بالقطاع المصرفي الذي هو عصب الاقتصاد في لبنان”، مهمّشاً الاعتبارات الأخرى. ثمّ بالعودة إلى مقال الوزير السابق غازي وزني فهو وصف المشروع بالمُجحِفٌ، مشيراً إلى أنه يقتطع 64% من الودائع عند تصنيفها “غير مؤهّلة”، أو ما بين 80 و90% عند تحويلها إلى أسهم مصرفية (Bail-In) أو ليْلرتها أو تحويلها إلى سندات مالية. وهو ما رفضه واعتبره قابلاً للطعن أمام مجلس شورى الدولة. كما أكّد وزير الماليّة الأسبق والنائب الحالي علي حسن خليل على “قدسيّة الودائع” مصرّحا خلال حلقة أخرى من برنامج “صار الوقت” في 29 شباط، أنّ مشروع القانون يحمّل المودعين الكلفة الأكبر ل”إعادة الهيكلة” و”التنظيم” للمصارف. ولخّص خليل في حسبته أنّه “سيشطب 77% من أموال المودع”. كما اعتبر “هيكلة المصارف” وهم، لأنّها تؤدي إلى إفلاس معظمها، ما يحيل المودعين على مؤسّسة ضمان الودائع، “التي لا يزال سقف التعويضات التي تمنحها 75 مليون ليرة، ولو كانت وديعته تساوي مليون دولار”. بل رأى أن الإفلاس يسعى إليه عدد من المصارف للتهرّب من الالتزامات تجاه المودعين. وأشار إلى أنّ فريقه عبّر عن رفض المشروع وبلّغ جميع المعنيين بهذا الشأن. ثمّ أردف أنّ “هذا المشروع لا يمكن ترميمه فالمسألة ليست أنّ هناك ثغرة فيه وتتوجب المعالجة”.

كذلك عبّر الوزيران المقرّبان من حزب الله (وهما وزير العمل مصطفى بيرم ووزير الأشغال العامة والنقل علي حمية) وأيضا وزير الإعلام زياد مكاري المقرّب من تيّار المردة، عن رفضهم “شطب” أموال المودعين. وكان تصريح لوزير التربية عباس الحلبي المقرب من الحزب الاشتراكي، في إطلالة في حلقة “صار الوقت” في 22 شباط، أعلن فيه رفض المشروع مستبقاً النقاش داخل الحكومة، على اعتبار أن ذلك سيقضي على القطاع المصرفي. وأردف أن على الدولة أن تقوم بإصلاح نفسها أولاً، وأنه يجب إعادة دراسة مشروع القانون المطروح، و”لا يجب أن تشطب أموال الناس بشطبة قلم تحت أي اعتبار”.

في الاتجاه نفسه، صدرت مواقف اعتراضية حاسمة على مسودة المشروع من كل من وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام ووزير المهجرين عصام شرف الدين. فسلام مثل زميله الحلبي لم ينتظر كي يجري نقاش المشروع داخل الجلسة، إنما وجّه في 21 شباط تحفظاً واعتراضاً إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء عليه، معتبراً أن “مخالفات دستورية وقانونية تعتريه، إضافة إلى خلوّه من أي ارتباط بخطّة اقتصادية كاملة”. ورفض إقراره بحجّة أنّه يضر بالاقتصاد الشرعي ككلّ، وأنّه أيضاً لا ينصف في توزيع الخسائر، فيما الحجّة الأبرز أنّه “يضرب الثقة بالقطاع المالي والاقتصادي والنموّ والقوّة الشرائية المطلوبة لإنعاش العجلة الاقتصادية”. كما اعتبر أنّ “الدولة يجب أن تتحمّل مسؤوليتها عن الـ50% بإعادة هيكلة ورسملة مصرفها المركزي”. وعاد ليؤكّد موقفه في حديثٍ على قناة “الجديد” فقال أـنّ “المصاري ما بتتبخر”، وألمح إلى أن الفساد هو سبب فقدان الأموال وأنها لن تعود إلا بمكافحة الفساد.

فيما أعلن وزير المهجرين عصام شرف الدين موقفه على نحو مغاير، إذ سجل ملاحظاته في أمانة مجلس الوزراء. وقد بناه على رأيين لخبيرين: الأوّل حقوقي والثاني اقتصادي، ليقول أنّ المشروع فيه مخالفات دستورية وقانونية أولاً، وثانياً أنّه غير موضوعي بسبب وضعه من قبل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وليقول ثالثاً أن “المصارف لن تكون قادرةً في حال إعادة الهيكلة على تثبيت ودائع هي غير قادرة على ردها بالكامل، وفي حالة التصفية لن تكون قادرةً بموجوداتها الباقية على إعادة الودائع”.

وفيما ثابر كل من وزير العدل هنري خوري ووزير الدفاع موريس سليم على موقف التغيّب عن الجلسات، وأعلن وزير الخارجية عبدالله بو حبيب أنّه لا يرغب في التعليق على السياسات الداخليّة، فإنّ وزير السياحة وليد نصار سجّل اعتراضه على المشروع، مقدّماً حلولا بديلة لتوزيع الخسائر. أمّا وزير الشباب والرياضة جورج كلّاس فسجّل ملاحظاته أيضاً، واصفاً ملاحظته بأنها تقييميّة.

من جهة أخرى، عبّر النائب فريد البستاني عن موقف فريقه السياسي (التيار الوطني الحر) بالقول: ” نحن السدّ المنيع في وجه مؤامرة التفريط بأموال المودعين”. وأضاف بعد اجتماع لجنة الاقتصاد أنّ “المطلوب خطة لإعادة هذه الأموال المقدّسة”. واعتبر البستاني ما سمّاه “تطيير الودائع” أنه عمل “غير شرعي وغير أخلاقي وغير إنساني”. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ موقف رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان تمايز لناحية اعتباره أنّه “على المصارف واجب أساس، إذ أنّها استمرّت في تديين الدولة رغم المعرفة بتعثّرها وهدرها وفسادها” ولناحية إشارته إلى أهميّة التسريع في التدقيق بالحسابات والموجودات. لكن يبقى أنه لم يشِر مثلاً إلى ضرورة إقرار قانون لهيكلة المصارف ولم يراجع مسألة إسهامه في تعطيل مشاريع سابقة لتوزيع الخسائر، بل تحدّث عن كون “الودائع هي الفيل في الغرفة الذي لا تريد الحكومة أن تراه”.

أمّا الوزير السابق رائد خوري فحمّل المسؤولية للمواطن. وإذ اعتبر أن مصرف لبنان كان يستخدم الودائع لأمرين هما سدّ عجز الخزينة ودعم استقرار سعر الصرف، رأى أنه بموجب التدبير الأخير “تكون تعطي المواطن قدرة شرائيّة للمال في حوزته تفوق القيمة الفعليّة لإنتاجه، وهذه القدرة متأتّية من وديعته”. وهي سرديّة تكررت حتّى على ألسنة بعض منتقدي الحملة. ويترتّب على هذه السرديّة منطقياً، الخوض في سيناريوهات افتراضيّة لحالة إدارة مالية مغايرة وما قد يكون عليه إذ ذاك الوضع الاقتصادي للمواطن، إلّا في حالة الاعتقاد أنّ الاقتصاد ودخل الفرد لا ينموان إلّا في حالة التلاعب بالحسابات المالية والتضخّم المصطنع. وكان لخوري وصف مهين للمواطنين في هذا الصدد حول ما جرى بعد عام 2019، إذ قال أن الدولة دأبت على صرف أموال الإحتياط على الدعم، ف”كأنما الدولة رأت متسولاً على الطريق وأرادت أن تساعده فأخذت أموالاً من جيبي لتساعده”. وأردف “أنّه لا يمكن أن يقوم دعم البنزين والخبز من “أموال الناس”. كما اعتبر خوري أنّ المصارف مسؤوليّاتها أخلاقيّة لكنها لم تخالف القانون.

ومن خارج القوى الممثّلة في الحكومة، لم يكن نوّاب “الجمهوريّة القويّة” أقلّ شراسة في انتقاد القانون. في 22 شباط، قال جورج عدوان في حلقة “صار الوقت” أنّ “الخطة التي قدمتها الحكومة تقوم على شطب الودائع وهي تدمّر على 30 عاماً أي إمكانية للقيام بأي شيء، أي تشطب الثقة بأن يضع أيّ مواطن أموالاً في المصارف”. وكرّر فكرة أن لا قيامة للاقتصاد دون القطاع المصرفي، وكرّر سرديّة أن الودائع استدانتْها الدولة من المصارف وصرفتها. واعتبر أنّه بعد قرار مجلس شورى الدولة فإنّ أي رئيس حكومة أو وزير يوافق على الخطّة فهو يخالف حكما قضائيا. كما رفض تصنيف الودائع، “فالوديعة تبقى وديعة سواء كانت كبيرة أم صغيرة”. وفيما قال المقدّم غانم أنّ الخطّة المطروحة هي نفسها خطّة حكومة حسّان دياب السابقة في الإبقاء على نحو 6 مصارف وإلغاء كل المصارف الأخرى. أمّا الحل بالنسبة لعدوان فيبدأ من “إدارة كل أصول الدولة من دون استثناء”، لاستثماره على نحو أجدى لا لبيعها.  وفي اليوم التالي، احتفى عضو كتلة الجمهورية القويّة، الوزير السابق غسّان حاصباني بقرار مجلس الشورى، وأردف في تغريدة على صفحته على منصّة إكس أنّه “لا قانون يمكن أن يمرّ من دون خطة يترجمها (القرار). وعلى أي حلّ أن ينطلق من الحفاظ على ودائع الناس المشروعة”. كما كان تعليق للنائب والإقتصادي رازي الحاج في جريدة “نداء الوطن” قال فيه أن مقاربة فريقه للنهوض والتعافي الاقتصادي تبدأ بتحديد المسؤوليات. ورأى أنه على الحكومة أن تبدأ فوراً بإعادة هيكلة دينها العام الخارجي، “وحينها يمكن القول إنّ الرقم المتبقّي يوجّه لإعادة هيكلة الدين الداخلي أو التزامات الدولة تجاه مصرف لبنان، أي الديون التي أخذتها من أموال المودعين”، وفق زعمه. وأشار إلى أنّ تكتلهم تقدّم بإقتراح قانون لإنشاء مؤسسة لإدارة أصول الدولة بأفضل الطرق الممكنة.

كما كانت مجموعة مواقف لخبراء واقتصاديّين وماليين تدور في فلك هذه القوى أو في فلك المصارف، صبّت في السرديّة ذاتها. الهيئات الاقتصادية اللبنانيّة أعلنت في بيان بعد تسريب المسودة، أنّها ستتصدى لأيّ مشروع يتمّ طرحه لا تكون أولويّته القصوى استعادة الودائع. وشدّد على قدسيّة الودائع التي يكفلها الدستور “ولا يمكن تجاوزه بأي شكل من الأشكال.” وأشارت الهيئات إلى مشروع كانت قدّمته للتعافي المالي و”تمّ الثناء عليه من دون الأخذ به”. ثمّ فنّدت مجموعة بنود “شوائب المشروع”، هي عبارة عن تكرار لذات ركائز السرديّة، مع تشديد على أهميّة قرار شورى الدولة. ويشار إلى أنّ عددا من جمعيّات حقوق المودعين، تبنّت سرديّة السلطة، فيما خالفها آخرون من المودعين. ومن ممثلي المصارف، برز رأي محاميّ جمعية المصارف أكرم عازوري الذي استغلّ عيوب التدقيق الجنائي الذي قامت به “ألفاريز & مارسال” بنتيجة منعها من التدقيق في حسابات المصارف، ليدّعي  خلال استضافته في 22 شباط على برنامج “جدل” على قناة “ال بي سي”، أن التدقيق حمّل الدولة مسؤوليّة الأزمة، وصرّح أنّ الدولة هي التي تحتاج إعادة هيكلة لا المصارف (بما يشبه طرح الحاج). وقال في تصريح آخر لجريدة “النهار”  أن “الشرط الأساسي لنجاح الخطة في المستقبل هو أن يكون عنوانها احترام الدولة للملكيّة الخاصّة وهو مبدأ منصوص عليه في الدستور”، مكرراً أنه بخلاف ذلك لن يثقْ أيّ مستثمر بالنظام المصرفي مستقبلاً. كما رأى أن الدولة خالفت القانون وسبّبت الأزمة باستدانتها ودائع الناس، ورفض ما سمّاه “التأميم المقنع للمصارف والودائع”. كما رفض في مقابلته على “ال بي سي”، فكرة خطورة إيداع المصارف أموالها لدى مصرف لبنان معتبراً أنه المكان الأأمن لإيداع الأموال.

وقد تكلل كل هذا الجهد ليس فقط في قتل مسودة المشروع في مهدها وفق ما فسرته “المفكرةفي مقال آخر، إنما أيضا في إبراز المشاريع المضادّة له والتي تقوم على تحميل الدولة مسؤولية ردّ الودائع وتسخير أصولها لهذه الغاية، من خلال وضع لجنة الإدارة والعدل على اقتراحيْن منها وهما: اقتراح قدمته كتلة الجمهورية القوية بتاريخ 13/2/2023، ويقوم على تسخير أصول الدولة عقارات ومرافق حيوية من أجل ردّ الودائع. واقتراح قدمه نواب كتلة التنمية والتحرير في تموز 2023، وهو اقتراح أعده رئيس مجلس شورى الدولة انطلاقا من نفس الأسباب التي انبنى عليها قرار مجلس شورى الدولة الصادر في 6 شباط 2024 والمشار إليه أعلاه. وقد تقرّر في تاريخ 5/3/2024 إنشاء لجنة فرعيّة لدرسهما. وقد استلحق نواب لبنان القوي الأمر بتقدمهم باقتراح قانون جديد في تاريخ 21/3/2024 ينطلق من الروحية نفسها وينتظر أن يحال إلى اللجنة الفرعية أيضا.

السرديّة المضادة: حرّاس الإدارة المالية الفاشلة في الأمس هم أنفسهم من يحاربون “إعادة هيكلة المصارف”

على رأس من قدّم طروحات وقراءات مغايرة لسرديّة جمعيّة المصارف التي هيمنت على الجدل، كان الشامي وضاهر السابق ذكرهما، علاوة على وزراء سابقين وعدد من الخبراء الماليين والاقتصاديين وعدد من الجمعيات الحقوقيّة. ويمكن تلخيص مواقفهم في أنّ إقرار المشروع رغم ما فيه من عيوب أجدى من بقاء الوضع القائم على ما هو عليه سواء بالنسبة للمودعين أو لغاية بدء التعافي الاقتصادي.

برز في هذا الصدد موقف للخبير الإقتصادي هنري شاوول. فقد كتب على منصةاكس” في 23 شباط،  “اليوم سوف نفصل بين الشعبويين والإصلاحيين؛ وبين كاذبين ورواة الحقيقة المزعجة؛ وبين مؤيّدي الحلّ الذي يقوده صندوق النقد الدولي ومنتقديه؛ وبين أصحاب الحلول الجذريّة وذوي المقاربات التقنيّة؛ بين بائعي الأحلام والأشخاص العملانيين؛ بين مرشدي أجيال الزومبي ومحاربي النيران؛ بين بناة الدولة ومغتصبي أصولها؛ وبين حماة الأجيال القادمة وناقلي الثروة من تلك الأجيال”. وأردف “نحن نعرف مقدما من سيفوز. فلديهم سجل حافل لا تشوبه شائبة منذ عام 2019”.

المحامي كريم ضاهر كتب مقالة نشرت في جريدةنداء الوطن“، قارب فيه مسألة “المادة 113 من قانون النقد والتسليف”، التي استحضرتْها الحملة لتحميل الدولة أعباء العجوزات المالية بمساعدة كبيرة من حاكم المركزي السابق “الذي سجّل بشخطة قلم وفي آخر مدة ولايته، عجزاً مستجدّاً للمصرف المركزي بشكل دين مترتب لصالحه بذمة الدولة” بدون أي تفسير أو تعليل، بهدف تحميل الدولة أعباء تسديد الودائع من خلال خصخصة وبيع أصولها، ما يترتّب عليه برأيه محاذير ومخالفات دستورية جسيمة وأخطار داهمة. وأشار إلى مبدأ سنوية الموازنة والذي ينطوي على اعتبارات ديموقراطية تتمثّل في موافقة ممثّلي الشعب على بنودها، وعليه فإنّ تسجيل خسائر ودين على الدولة بمفعول رجعي من قبل الحاكم السابق يخالف هذا المبدأ (علاوة على مخالفة القواعد الجوهرية الأخرى للموازنة). ولفت إلى أنّه “كلما جاء تخصيص النفقة دقيقاً ومفصلاً، كانت الرقابة فعلية. وأكّد أنّ المصارف تتذرّع ب”حق الملكية” لتحميل الدولة وزر ضياع الودائع رغم أنها أودعتها طوعاً في المصرف المركزي “طمعاً بأرباح سريعة”. واستغرب حجج مجلس شورى الدولة لتثبيت الادّعاء في “التعرض للملكية الفردية”، والتي استشهدت بفقه واجتهادات فرنسية وأوروبية للثمانينيّات والتسعينّات من القرن الماضي مهملةً اجتهادات مخالفة لها في العقد الأول من الألفية الجديدة. ولفت ضاهر الى أنّ تحميل فئة من المواطنين أوزار سوء الإدارة الماليّة يشكّل أيضاً “مخالفة للمادة السابعة من الدستور والفقرة (ج) من المقدمة اللتين تكرّسان مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة”.

فيما نشرت جمعيّة كلنا إرادة” ورقة تحليليّة أشارتْ فيها إلى أنه لديها تحفّظات أساسية على المشروع، “لا سيما لناحية تصنيف الودائع ومعالجتها، والضبابية المحيطة بصندوق استرداد الودائع، وأسس حوكمة عملية إعادة الهيكلة”، ولكنها اعتبرت أن المشروع “يشكّل إطاراً تقنياً سليماً ويمكن أن يشكّل بذلك نقطة بداية لفتح النقاش حول الحلول الممكنة”.  وأشارت الجمعيّة إلى الهجوم الذي شنّته جمعيـة المصـارف على المشـروع ووجود إرادة سياسيّة في تعطيله. وتطرّقت بدورها إلى قرار مجلس شورى الدولة، واستحضار المادة 113 من قانون النقد والتسليف حول موجب أن تغطي الدولة خسائر مصرف ولبنان، فقالت أنّ هـذا الموجـب يطبّق في السـنة التاليـة لتحقيـق الخسائر و”لا يجوز تطبيقه علـى خسـائر متراكمة بـطـرق احتيالية عـلى مـدى سـنوات عـدة مـن دون علـم أحـد، ولا سيما البرلمان الذي يعدّ الجهة الوحيدة المخوّلة بإجازة الاستدانة العامة”. وأردفت الجمعية أنّ تسجيل 58 مليار دولار كمطلوبات على الدولة حصل فجأةً عبر عمليتيْ محاسبة احتياليّة (في الربيع الأوّل من عام 2023 بمزاعم عمليات شراء الدولار لصالح الخزينة منذ عام 2007 بقيمة 16.5 مليار دولار، وفي حزيران 2023 بعد رفـع قيمـة بنـد “إعـادة التقييـم” ضمن “موجودات مصرف لبنان” من صفـر إلى يتجاوز 42 مليار دولار). وبعد أن صرّحت أنّ المشروع الجديد “يوفّر إطاراً تقنياً سليماً ومطابقاً للمعايير الدولية في الحد الأدنى”، أسهبت في تقديم تعليقاتها على المشروع.

وكانت ملفتة أيضا مواقف وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش إذ رفض رَدّ الودائع من إيرادات أصول الدولة معتبراً أنّ الشعارات المطروحة توحي بأن الدولة وحدها مسؤولة عن الودائع، وذلك للتغاضي عن محاسبة مَن تسبّب بالانهيار وإفقار الناس. وإذ أشار إلى واقع أن الحكومات السّابقة لَمْ تسأل عن حقيقة ما أخفاه المصرف المركزي من خسائر تحت تسمية “موجودات أُخرى”، فهو أردف أنّه “لو سُأل وزراء الماليّة في حينه عن تلك الحسابات وعن تراكم خسائر مصرف لبنان، وهذا أضعف الإيمان، لأمكَن استدراك الأمر وتخفيف الأعباء”. ورأى أـن توزيع الخسائر بشكل عادل بعد تحديد المسؤوليات يجب أن يكون على أساس أنّ “من استفاد أكثر يُفتَرض به أن يتحمّل أكثر”. وأشار إلى مفارقة أن كل من دافع سابقاً عن سياسات وممارسات مصرف لبنان ومن تهجّموا على من فضحها “يتحمّلون مسؤوليّة تاريخيّة وخطيئتهم كبيرة لا تُغتفَر”. وفيما أكّد ضرورة فرز الودائع المشروعة وغير المشروعة، انتقد في المقابل تمييز الودائع بين “مؤهلة” و”غير مؤهلة”. وأكّد أن “إيرادات أصول الدولة هي لكل اللبنانيِّين ويجب أن تكون أوّلاً للتنمية، ولتطوير البُنى التحتيّة”.

أمّا أبرز التعليقات التفصيليّة حول توزيع المسؤوليّات فأتت من قبل الخبير المالي والاقتصادي الدكتور توفيق كسبار، ومعروف عنه تقاريره ودراساته التي أثبتتْ على نحو علمي بالأرقام، أنّ الدولة لم تتصرّف بما يوازي حجم الودائع على نفقاتها وفق السرديّة الشائعة، بل العكس تماماً إذ استنتج بعد مراجعة مطوّلة ومفصّلة أنّ صافي جميع العمليات بالدولار بلغ نحو 4.5 مليار دولار منحتها الحكومة إلى مصرف لبنان. وأشار كسبار في ورقة بحثيّة نشرت في 27 شباط على موقعصفر“، إلى أنّ المصارف أقرضتْ نحو 75% من جميع الودائع إلى مصرف لبنان بحلول نهاية العام 2019، تراجعت سيولتها بالدولار الأميركي إلى نحو 7% (كانت بلغت أكثر من 99% خلال الحرب 75-90). وإذ ردّ أساس الأزمة إلى الهندسات المالية (فاقت أرباح المصارف إثرها 10 مليار دولار بين 2016 و2020)، فإنّ المشكلة الأكبر بالنسبة للمودعين، تكمن في عدم اتّباع إدارة المصارف الأنظمة الاحترازية التي تحدّد سقف 25%، وغالبًا 15% من رأس مال للانكشاف تجاه مقترض واحد، فيما وصل الانكشاف تجاه مصرف لبنان وحده إلى نحو 440%. وهو قدّم موقفاً سلبياً من خطّة الحكومة خلال حلقة 26 شباط من برنامجعشرين 30″ على قناةال بي سي، بدءًا من عنوانها “إعادة هيكلة المصارف”، على اعتبار أنّه “لا يمكن إعادة هيكلة إنسان ميت”. وأكّد أنّ “المصارف ميّتة بالمعنى المحاسبي، والقانوني، وبمعنى الممارسة التي تشهدها مختلف الأسواق عالميّاً”. ولدى سؤاله حول إمكانيّة العيش من دون مصارف، أكّد كسبار ضرورة التعرّف على الواقع، “الواقع يقول أنّه لا يوجد لدينا اليوم جهاز مصرفي”، فالمؤسسات التي تسمّي نفسها اليوم مصارف تقتصر عمليّاتها على تحويل أموال “الكاش”. لكن كسبار أكّد أنّ المصارف وحدها لا تتأثّر في الوضع القائم، فيما تقتطع خسائر من أموال المودعين.

وبخلاف برنامج “صار الوقت”، الذي حاول أن يظهر جانبا واحدا من المودعين، بدت آراؤهم منساقة وراء سرديّة المصارف والقوى السياسيّة، بيّنت حلقة “عشرين 30” جانب آخر باستضافة المستشار الاقتصادي لرابطة المودعين الدكتور محمد فريدة، الذي حمّل المصارف مسؤوليّة رد الودائع، وتحدّث عن جزء إيجابي في خطّة الحكومة كبديل عن خطّة الأمر الواقع، تمثّل في التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة. وحول تحميل الدولة للخسائر، قال “من هي الدولة، الدولة هي نحن، فهل نحمّل أنفسنا أعباء قبل أن نعلم من سبب هذا العبء وما هو حجمه؟”، وأكّد أنه ما من إمكانيّة لتوزيع الخسائر قبل تشريحها والتمييز بين ودائع مشروعة وأخرى غير مشروعة. كما أكّد أنّه في حال جرت أي محاسبة، بإمكان أكثر من 85% من المودعين أن يتمكنوا من تحصيل ودائعهم، “ثم تقوم جدولة لبقيّة الودائع بعد أن تتم إعادة الرسملة وبعد استرجاع الأموال التي رحّلت خارج لبنان…”.

وإزاء الحملة، رصدنا بعض الخبراء الاقتصاديين ينتقدون الحملة التي قامت تحت شعار قدسيّة الودائع، وكان الصحافي الاقتصادي منير يونس ناشطاً في تفنيد السرديّة أو التذكير بمواقف سابقة لمن يدعون اليوم الحفاظ على الودائع، وكذلك الإقتصاديّة عليا مبيض والصحافي الإقتصادي علي نور الدين ورئيس مجلس إدارة I&C Bank جان رياشي. وقد تحدث الصحافي علي نور الدين عن حملة طالت مجموعة من “الاستشاريين والصحافيين والباحثين الذين تحدثوا في نقطة واحدة: خطورة فكرة مسؤوليّة الدولة (المشتقة من مفهوم “قدسية الودائع”)”، وأردف أنّ لا شيئا مشتركا ممن طالتهم الحملة (روي بدارو، هنري شاوول، منير يونس، توفيق كاسبار، كلنا إرادة)، سوى أنّ “كلهم تمتّعوا بالحد الأدنى من العقلانيّة لرفض طرح لوبي المصارف، حول مسؤولية الدولة … وكلهم أثروا بأشكال مختلفة بالنقاش العام”.

أخيرا، تجدر الإشارة إلى مقالين نشرتهما المفكرة القانونية تعليقا على قرار مجلس شورى الدولة. الأول كتبه مديرها التنفيذي نزار صاغية تحت عنوان: “قرار شورى الدولة في قضية خطة التعافي المالي: تقديس ودائع المصارف مقابل تدنيس الدولة، أما الثاني فهو مقال مترجم للأكاديمين ندي أبي راشد وفريديريك رولان وكان سبق نشره بالفرنسية في مجلة القانون العام الفرنسية تحت عنوان معبر جدا قوامه حين يغلّب مجلس شورى الدولة اللبناني مصلحة المصارف على المصلحة العامة.


[1] كانت “المفكرة القانونيّة” قد نشرتْ مقالات حول مسودة القانون وحول مشروعيْ قانون سبق طرحهما؛  الأوّل تقدّم به النائبان جورج بوشكيان وأحمد رستم المقرّبان من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في 21/12/2022 “إقتراح قانون إطار لإعادة التوازن للإنتظام المالي في لبنان”
https://shorturl.at/zFN35
والثاني من إعداد لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين وتقدّم به النائب فراس حمدان في 13/2/2023 اقتراح قانون يرمي إلى إصلاح وضع المصارف المتوقفة عن الدفع وإعادة تنظيم القطاع المصرفي.  https://shorturl.at/CXZ09
كما نشرت المفكّرة مقالاً قارن بين المشاريع الثلاث https://shorturl.at/nrwYZ

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني