قرار شورى الدولة في قضية خطة التعافي المالي: تقديس ودائع المصارف مقابل تدنيس الدولة


2024-02-21    |   

قرار شورى الدولة في قضية خطة التعافي المالي: تقديس ودائع المصارف مقابل تدنيس الدولة
رسم رائد شرف

في تاريخ 6/2/2024، أصدر مجلس شورى الدولة قراره في القضية المقامة من جمعية المصارف ضدّ الدولة اللبنانية لإبطال “شطب ديون مصرف لبنان تجاه المصارف” وهو بند ورد ضمن استراتيجية التعافي والنهوض الاقتصادي التي أقرّتها الحكومة في 2022. وقد تمّ نشر القرار في موازاة تسريب مسودة مشروع قانون حكوميّ يقوم أساسا على حماية جزء من الودائع مقابل إخضاع الأجزاء الأخرى لعملية قصّ شعر تصل إلى 80%. وعليه، سارعتْ جمعيّة المصارف إلى استخدام قرار شورى الدولة في حملة دعائيّة واسعة لتقويض المسودة الحكوميّة قبل أن يتسنّى للوزراء مناقشتها حتّى، على نحو دفع البعض إلى التشكيك فيما إذا كان توقيت نشر القرار قد هدف إلى منح الجمعيّة سلاحًا لإحباط هذه المسودة التي لا تناسب مصالحها. وما يزيد من مشاعر القلق حيال هذا القرار هو أنه عمد إلى منح “الودائع” حماية معادلة للحماية التي يضمنها الدستور للملكية الخاصة، محمّلا الدّولة مسؤوليّة سدّ الفجوة الناجمة عن الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي ومصرف لبنان. وقد بدا من خلال ذلك وكأنّه يمنح قدسيّة للودائع من دون أن يقيس الأثر الاقتصادي والمالي والاجتماعي لهذه القدسية، وتحديدا على فرص تعافي الاقتصاد وقدرة الدولة في معالجة تداعيات الأزمة وتأثيراتها على الخدمات والمرافق العامة. فكأنما رجحت كفّة الودائع على كل هذه الاعتبارات الأخرى في ميزان مجلس شورى الدولة، وفق ما سنعمل على تبيانه على طول هذا المقال.

وما يزيد من قابليّة هذا القرار للانتقاد هو أنّ مجلس شورى الدولة قد اجتهد بهدف تبرير وضع يده على هذه القضيّة، رغبةً منه بإصدار قرار حول مدى شرعيّة الاستراتيجية الحكوميّة، وذلك خلافا لاختصاصه الذي ينحصر قانونا واجتهادا في النظر في القرارات النافذة والضارّة حصرا. هذا مع العلم أنّ الهيئة الحاكمة قد اختارتْ هذا التوجّه على أساس حجج واهية (لا مجال للغوص فيها هنا) خلافا لتقرير المستشار المقرّر ومطالعة مفوض الحكومة اللذين كانا انتهيا إلى وجوب ردّ المراجعة لهذا السبب بالذات. واللافت أنّ حماسة المجلس في هذا المضمار تلاقتْ مع حماسة رئيسُه الذي كان بادر إلى إعداد مسودة اقتراح قانون لمعالجة مسألة الودائع قبل أشهر من صدور القرار، وهي مسودة سارع إلى إيداعها لدى رئاسة مجلس النواب واحتوت على أفكار وآراء تشكل بصورة من الصور رأيا مسبقا في القضية التي عاد ونظر فيها، خلافا لما يفرضه موجب التحفّظ في معناه الكلاسيكي.

إلا أنه ومن دون التقليل من خطورة توجّهات المجلس ورئيسه، فإنّي سأكتفي هنا في مناقشة لبّ ما طرحه مجلس شورى الدولة في قراره، انطلاقا من كونه على الأقل تعبيرا عن رأي قضائي سيطرح مجددا أمام المجلس الدستوري أو أمام أيّ مرجع قضائي آخر في حال وضعت خطة الحكومة موضع التنفيذ. ولهذه الغاية، سأتناول هنا الحجج الأساسية الأربعة التي انبنى عليها قرار مجلس شورى الدولة وهي الحجج الآتية:

أولا، أن حقوق المودعين وبشكل أعمّ حقوق الدائنين تستفيد من الحماية الدستورية لحقوق الملكية، ثانيا، أن شطب الودائع إنما يعني عمليا تخصيصها لتسديد الأعباء العامة (العجز في الموازنة العامة) مما يؤدي إلى تكليف المودعين عبءا أكبر من سواهم في تحمل هذه الأعباء خلافا لمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، ثالثا، أنه يتعين في مطلق الأحوال وفق المادة 113 من قانون النقد والتسليف أن تسدّ الدولة من حساب الخزينة العامة العجز الحاصل في حسابات مصرف لبنان، رابعا، أن من شأن تخلف الدولة ومصرف لبنان عن تسديد ودائع المصارف إليها أن يحول دون تمكّن هذه الأخيرة من تسديد حقوق المودعين لديها.  

حقوق الدائنين (المودعين) هي حقوق ملكيّة بحمى المادة 15 من الدستور؟ 

في هذا الصّدد، ينخرط مجلس شورى الدولة في نقاش طبيعة الحماية القانونية للودائع وضمنا للديون. فهل هي تعدّ حقوق ملكية وتتمتّع تاليا بالحماية القانونية للمادة 15 من الدستور مثلها مثل أي ملكية خاصة أو عامة، فلا يجوز استملاكها أو شطبها إلا لقاء تعويض وفي حالات المصلحة العامة، أم أنّ الديون هي مجرّد حقوق شخصيّة لا تدخل ضمن تعريف الملكيّة؟ هذا السؤال يطرح للمرة الأولى في لبنان حيث أن تطبيق المادة 15 انحصر حتى الآن في الملكية العقارية أو العينية من دون أن يطبّقها أيّ مرجع رسمي من قبل على الديون أو الحقوق الشخصية. وقد أفاد مجلس شورى الدولة أنه تأثّر هنا بقرارات المجلس الدستوري الفرنسي والمحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، وأيضا بعض الفقه الفرنسي الذي ميّز بين النظرية الكلاسيكية للملكية التي تربط حق الملكية بالملكية العقارية أو الحقوق العينية والنظرية الحديثة للملكية التي باتت تقارب حقوق الملكية بصورة أوسع. واللافت أنّ مجلس شورى الدولة أغفل في سياق حماسته في اعتماد هذه النظرية الأخيرة مجمل المخاطر التي قد تنجم عنها وبخاصة في هذا الظرف الذي يرزح فيه لبنان تحت ديون باتت تتجاوز أضعاف دخله الوطني، وكأنما للقواعد والمفاهيم القانونية وجود ذاتي لا علاقة له بما يلائم أو يناقض الصالح العام ويمكن تعديل فهمها وتوسيع مداها من دون أي حاجة للنظر فيما قد ينشأ عنها من أضرار أو مخاطر اجتماعية. هكذا، قرر مجلس شورى الدولة بشطبة قلم (وبما يشبه القفزة في الهواء) أن “حق الملكية” المذكور في المادة 15 من الدستور والذي فسّر دوما أنه يشمل الملكية العينية، إنما هو يشمل أيضا الديون والودائع، مما يفرض تاليا على الدول موجب تأمين ردّ الديون أو التعويض عن الدائنين في حال شطب الديون.

واللافت أكثر أنّ المجلس برّر هذه القفزة بالهواء بمجموعة من الأخطاء المادية واللغوية والتي حملته إلى ترجمة قرارات المجلس الدستوري الفرنسي على غير ما هي عليه، مما أضعف حججه وأظهر ركاكتًها.

الخطأ الأول تمثّل في الخلط بين الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن (1789) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبنتيجة هذا الخطأ، اعتبر القرار أحكام الإعلان الأول جزءا من النظام القانوني اللبناني فيما أن الصحيح أنه ليس لهذه الأحكام أي قوة قانونية في لبنان، بخلاف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يتمتع بالقوة الدستورية وفق مقدمة الدستور. وهذا الأمر إنما شكل دليلا قاطعا على أن مجلس شورى الدولة لا يملك معرفة كافية للنصوص الدولية، وتاليا النصوص ذات القوة الدستورية، مما يطرح أسئلة حقيقيّة حول مؤهّلاته لابتداع قراءات جديدة للمفاهيم والحقوق الواردة في الدستور. إلا أنه للأمانة، ورغم الدلالات الخطيرة لهذا الخطأ، يبقى أن تأثيراته على وجهة القرار بقيت محدودة طالما أن المادة 17 من الإعلان العالمي الملزم للبنان تضمنت بشكل عامّ أحكاما مشابهة للإعلان الفرنسي، مفادها أنّ لكلّ فرد حقّ بالتملك وأنه لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسّفا.

وما يصحّ على هذا الخطأ لا يصحّ بالمقابل على الخطأ الثاني المرتكب من مجلس شورى الدولة والذي تمثّل في تأييد قرارات المجلس الدستوري الفرنسي بعدما قلب معناها رأسا على عقب. فبعدما أورد القرار مقطعا فرنسيا ورد فيه حرفيّا أن المجلس الدستوري الفرنسي يستبعد تماما اعتبار الديون من عناصر حق الملكية بمفهوم المادة 17 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وذلك خشية أن تصبح الدولة ملزمة بضمان تحصيل الديون وتعويض الدائنين في حال شطب ديونهم، عاد ليدوّن في حيثياته أّنّ المجلس الدستوريّ الفرنسيّ “اعتبر أنه من الموجبات الدستورية التي تقع على الدولة موجب تأمين ردّ الديون أو التعويض على الدائنين في حال شطب الديون”. هكذا بكل بساطة قبل أن يعلن مجلس شورى الدولة تأييده لهذا الموقف بعدما فهمه ونقله بصورة خاطئة. والواقع أنّ هذا التوسّع في تفسير “حقّ الملكيّة” المحميّ دستوريا ليشمل “الديون” يؤدّي عمليّا إلى فصل هذا الحقّ أكثر فأكثر عن وظيفته الاجتماعية وعن منشئه التاريخي (حماية ملكية المزارع للأرْض التي يزرعها من عشوائية الأسياد الإقطاعيين في زمن الثورة الفرنسية) والمبرّرات الفلسفية التي دفعت إلى تكريسه والتي تمثلت في كون حق الملكية حقا طبيعيا ملازما للإنسان، طالما أنه يصعب جدّا ربط “الديون” بالطبيعة الإنسانيّة أو نموّ الإنسان وتطوّره. بمعنى أن هذا التوسّع في تعريف حقّ الملكية وفق ما جاء في قرار شورى الدولة، إنما يؤدّي عمليّا إلى سلخه عن أبعاده الإنسانية والاجتماعية التي كانت أكسبته نوعا من القدسية ليصبح حقّا قائمًا بذاته، بمعزل عن أيّ حاجة مشروعة أو وظيفة محدّدة.

وما يزيد من فداحة هذا الخطأ أنّ المجلس خلص بالنتيجة ليس فقط إلى الموافقة على اعتبار الديون من عناصر الملكية، بل أيضا إلى الموافقة على النتيجة العملية لذلك أي تحميل الدّولة مسؤولية ضمان تسديد هذه الديون، كل ذلك من دون أن يطرح على نفسه ولو سؤالا عمّا قد يحصل في حال عجزها عن ذلك. ويلحظ تاليا أن المجلس الدستوري الفرنسي الذي يعيش في دولة ذي مالية مضبوطة نسبيا توجّس من مفعول أي إعلان من هذا القبيل خشية أن تتحمّل الدولة عبء هذه المسؤولية، فامتنع عن ذلك. أما مجلس شورى الدولة اللبناني الذي يحكم في دولة ترزح تحت الديون، فلم يجدْ حرجا في القفز نحو الغاية من قراره (الإعلان) من دون أن يتوقّف ولو لحظة لقياس ما يعنيه ذلك من نتائج واقعية، أقلّه لجهة أثره على حسن سير مرفق العدالة الذي هو جزء منه. 

أما الخطأ الثالث المرتكب من المجلس، فقد تمثل في استشهاده بقرارات قديمة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أضفت بموجبها حماية خاصة على حقوق الدائنين، من دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى القرار الصادر عن هذه المحكمة لاحقا في قضيّة “ماماتاس وآخرون ضد اليونان” (2016) ولا إلى الدليلٍ الذي نشرته في عام 2022 حيث جاء صراحة “أن تدخل الدولة عبر فرض تدابير مقيّدة للملكيّة وترمي إلى تخفيض الدين العام، مبرّر طالما أنها تسعى إلى هدف مشروع قوامه الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وإعادة هيكلة الدين العام في سياق أزمة اقتصادية خطيرة” (بند 442 من الدليل).

وانطلاقا ممّا تقدم، يطرح إعلان قدسية الودائع من الصورة العملية إشكالات أكثر مما يقدّم حلولا. بمعنى أن مجلس شورى الدولة تصرّف كأنما نحن في ظرف تتوفّر فيه موارد فائضة ونختلف حول كيفية توزيعها بين الدولة والمصارف والمودعين، فيما أنّنا في الواقع في ظرف باتتْ الموارد المتوفّرة فيه أقلّ بكثير من قيمة الودائع، مما يفرض بالضرورة اتخاذ خيارات واضحة بشأن كيفية توزيع المسؤوليات في تحمّل الخسائر ومدى جدارة الودائع بحماية الدولة، بعيدا عن لغة التقديس والتحريم. أما أن نُحمّل الدولة وحدها مسؤوليّة ضمان الودائع من منطلق أنّ الودائع مقدّسة وأنّها الجهة المسؤولة عن ضمان كلّ ما مقدّس، فمؤدّاه بلوغ أوضاع عبثيّة تمامًا قوامها تحميل أجيالٍ كاملة من اللبنانيين، الحاضرة والمستقبليّة، هذا العبء، مع ما يعنيه لجهة انهيار المرافق العامة وهدر العديد من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، في مقدّمتها حقوق الصحّة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة والأمان فضلا عن الحقّ بالتنمية والعدالة.

وعليه، وعدا عن الإشكالات الدستوريّة التي يطرحُها توسيع مفهوم “حقّ الملكيّة” ليمتدّ إلى الودائع، فإنّه يؤدّي عمليّا إلى نسف أيّ إمكانية في إيجاد حلول معقولة وعادلة سواء في توزيع المسؤوليات وأو في تخصيص الموارد العامة. وليس أدلّ على ذلك من أن مجلس شورى الدولة اكتفى بمناقشة البند المطعون فيه بشطب ودائع المصارف لدى المصرف المركزي على حدة وذلك بمعزل عن سائر الإجراءات التي تضمّنتها  الاستراتيجية الحكومية، ومن دون البحث فيما إذا كان من شأن الخطوات الأخرى المقترحة فيها أن تحقق توازنا عادلا وعمليا وتاليا مبرّرا في معالجة الفجوة الماليّة أو فيما إذا كان من الممكن إبطال هذا البند من دون التأثير على التوازن المعتمد فيها. وبنتيجة ذلك، أغفل المجلس تماما بندا آخر لا يقلّ خطورة لجهة المسّ بما اعتبره “حقا بالملكية” عن بند شطب ديون المصارف لدى مصرف لبنان، وهو البند المتّصل بتقييد حقوق المودعين لدى المصارف وفرض ضوابط استثنائية عليها وبخاصة لجهة كيفية تسديدها؛ وهو بند يسمح عمليّا للمصارف الاستمرار في عمليّة قصّ الشعر وفي التخلّف عن تسديد قيمة الودائع بالعملة الصعبة، من دون أن يؤدّي ذلك إلى إعلان توقفها عن الدفع أو إفلاسها أو وضع اليد عليها أو حتى إلى الحجز على موجودات مدرائها. ومن هنا، بدا موقف شورى الدولة مثيرا للاستغراب: فإذا لم يكن للدولة أن تشطب ديون المصارف تجاه مصرف لبنان، فكيف يقبل أن يكون للمصارف من باب أولى شطب ودائع عملائها لديها ولو جزئيّا، أو التخلّف عن تسديد ما هو مستحقّ عليها من دون أن تتعرّض للإفلاس؟ وما يؤكد تناقض القرار في هذا الخصوص هو المرجع (حكم صادر عن رئيسة دائرة تنفيذ بيروت في 20/11/2021) الذي أورده مجلس شورى الدولة في مكان آخر من قراره ومفاده “أن لا مجال للمصرف الممتهن والمحترف أن يتذرّع بالظروف الاستثنائية في هذا السياق، كون الحفاظ على مصلحة المودعين والاقتصاد الوطني لا يتمّ عبر تحميل المودع تبعات أزمة لم يكن لديه دور فيها على الإطلاق، بل على العكس تماما فإن طمأنة المودع في المصارف اللبنانيّة على أمواله ومساعدته في أداء التزاماته الخارجية هو الذي من شأنه الحفاظ على الثقة الائتمانية والسمعة التجارية الخارجية”.

ومما تقدم، وعدا عن أنّ القرار أتى مُفعمًا بالأخطاء القانونيّة والمنهجية والتناقضات، فإنه أتى منفصلا عن الواقع على نحو يؤدّي إلى مفاقمة المشاكل إلى حدّ التعجيز بدل المساهمة في رسم المنهجية الكفيلة بتذليلها والوصول إلى الحلول. ولكان من الأفضل بكثير لو أنه اكتفى بوضع مبادئ عريضة للحلول الممكنة والعادلة لتقاسم الخسائر وحماية ما أمكن من الودائع من منطلق مدى جدارتها (مثل وجوب تبرير أي انتقاص من أي حق بالمصلحة العامة بعد إخضاعه لفحص التناسب، وعدم جواز منح الحماية للودائع غير المشروعة أو الفوائد الفاحشة، وجوب تعزيز الحماية للودائع ذات الوظيفة الاجتماعية أو ودائع غير المحترفين، وجوب استكمال التدقيق الجنائي في الهندسات المالية وما شابه من أعمال غير قانونية) بدل رفع علم أحمر (علم قدسية الودائع) وهو علم سارعتْ جمعية المصارف إلى استغلاله خدمة لنفوذها، وعمليا لتعطيل أي حلّ يراعي الحد الأدنى من المصلحة العامة أو ربما وهذا هو الأسوأ لفرض حلّ ينتهي إلى  وضع المصارف يدها على ممتلكات الدولة ومرافقها العامة (وتاليا مواردها الموروثة والحالية والمستقبلية) بهدف استيفاء ودائعها.   

الأعباء العامة

بالإضافة إلى الحجّة الأولى أعلاه، برّر مجلس شورى الدولة قراره في إبطال شطب ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بأنه يعني عمليّا تخصيصها لمواجهة الأعباء العامّة (العجز في الموازنة العامة) مما يؤدّي إلى تكليف المصارف (ومن خلالها المودعين لدى المصارف) عبءًا أكبر من سواهم في تحمّل هذه الأعباء خلافا لمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون. والواقع أن هذا التحليل القانوني يقبل الانتقاد من زوايا عدة.

فمن جهة أولى، أودعت المصارف أموال المودعين لديها لدى مصرف لبنان، ليس كرها ولا قسرا ولا بفعل الحيلة أو الغشّ، إنما بدافع الربح الفاحش الذي تمثل بشكل خاص في ابتداع “الحاكم” هندسات مالية مجزية. بمعنى أنّ ما تسميه المصارف ومعها مجلس شورى الدولة اشتراكا في الأعباء العامة إنّما هو في حقيقته خسارة لاستثمارات ارتضتْ المصارف القيام بها طمعا بالربح، ومن دون اتخاذ أيّ من تدابير الحيطة المتعارف عليها في العمل المصرفي تجنّبا لهدر حقوق المودعين. وإذ كشف الخبير الاقتصادي توفيق كسبار أن المصارف وزّعت على المساهمين فيها أرباحا عالية بقيمة 25 مليار د.أ تبعا للهندسات المالية، يفهم أنّ هؤلاء استفادوا من فوائد فاحشة بفعل هذه الهندسات ليعودوا ويحمّلوا المودعين لديهم عبء الخسائر الناجمة عن عجز مصرف لبنان عن تسديد قيمتها.

يضاف إلى ذلك أنه من البيّن أن جزءا هاما من ودائع المصارف لدى مصرف لبنان استُخدم أصلا لتسديد الفوائد المستحقة على ودائع سابقة لنفس المصارف، كما يرجّح أنّ أيّ استخدام لها لسدّ عجز الموازنة إنما ترافق ضمنا مع خدمة الديون لصالح المصارف.

وعليه، أن تشطب هذه الودائع بنتيجة الفجوة الكبيرة الحاصلة في ميزانيّة مصرف لبنان، فذلك يشكل وفق المنطق التّجاري نتيجة طبيعية لخسارة استثمار وليس بأية حال من الأحوال تحمّلا لأعباءٍ عامة. ولو كان الأمر خلاف ذلك، لتوجّب على المصارف والمودعين إعادة كل ما اجتنُوه من فوائد وأرباح على اعتبار أنهم استفادوا من محاباة مصرف لبنان بما يتعارض مع مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون. أما أن يصفوا الربح الذي حققوه بنتيجة استثمارهم أنّه ربح مشروع وحقّ مكتسب يضمنه النظام الليبرالي، فإذا خسروا، وصفوا (ومعهم مجلس شورى الدولة) خسارتهم على أنها تكليف لهم بتحمّل أعباء عامة تفوق ما يتحمله سائر المواطنين، فهذا عبث أيضا.   

واجب الدولة في تسديد العجز في حسابات مصرف لبنان

أما الحجة الثالثة فهي حجة مستمدة من المادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تفرض على الدولة سدّ العجز الحاصل في موازنة مصرف لبنان من موارد الخزينة العامّة. ومفاد هذه الحجّة أنه يتعيّن على الحكومة أن تعمل على تأمين الموارد الضرورية من أجل سدّ مجمل خسائر مصرف لبنان بدل شطب هذه الخسائر.

والواقع أن هذا الموقف يتعارض مع مضمون النصّ نفسه الذي يتحدّث بوضوح ومن دون لبس عن العجز الحاصل في نتائج سنة بعينها، بما يتماشى مع أصول المحاسبة العموميّة، حيث تتقرّر موازنة الدولة سنة فسنة في قانون يصدر عن مجلس النواب، بعد التثبّت من الخسارة الحاصلة في حسابات مصرف لبنان. بمعنى أنه يتعين على الدولة وفق هذا النصّ سدّ العجز في موازنة مصرف لبنان سنة فسنة ضمن الموازنة العامة، من دون أن يكون عليها بحال من الأحوال تحمّل عبء الخسائر الحاصلة طوال سنوات عدة، وهي الخسائر التي اختار حاكم مصرف لبنان إخفاءها والتستر عليها ليعلن بالمقابل في قيوده ربحا سنويا، وفق ما أثبتَه التدقيق الجنائي. من هذه الزاوية، جاز القول أن شورى الدولة تعامل مع هذه المادة ليس فقط على أنها منفصلة عن النظام اللبناني، بل أيضا على أن الواجبات التي ترتبها أعلى شأنا من واجبات الدولة كافة طالما أنّ من شأن تكليف الدولة سدّ خسائر بالمليارات أن يحرمها من إمكانية توفير الموارد التي تحتاج إليها من أجل القيام بسائر هذه الواحبات ومنها واجباتها في ضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وإدارة المرافق العامة.

فضلا عن ذلك، فإن القرار استشفّ من المادة 113 التي انوجدتْ لتنظيم العلاقة بين الدولة ومصرف لبنان (مؤسسة عامة)، أنها تمنح حقوقا شخصية للغير للمطالبة بإلزام الدولة بتسديد خسائر مصرف لبنان، وهو أمر يقبل بدوره الانتقاد .

أما الحجّة الرابعة التي استند إليها المجلس لإبطال بند شطب الودائع، وهي الحجّة التي تتماهى مع موقف المصرف، فقد تمثّلت في كون تخلّف الدولة ومصرف لبنان عن تسديد ودائع المصارف إليها يحول دون تمكّن هذه الأخيرة من “المحافظة على حقوق المُودعين وأموالهم وضرورة إعادة الوديعة لأصحابها بالطريقة التي تحقّق لهم الإيفاء الفعلي”. وبالإضافة إلى كلّ ما ذكرناه أعلاه لجهة دحض تحميل الدولة مسؤولية إيفاء الودائع، ترشح هذه الحجّة عن خطورة إضافيّة قوامها إبراء ذمة المصارف في التخلّف عن تسديد الودائع، رغم الأخطاء الجسيمة المُرتكبة منها سواء في توظيف نسبة عالية (80%) من الودائع لديها لدى مصرف لبنان أو أيضا في توزيع أرباح طائلة على المُساهمين فيها، كل ذلك خلافا لواجبات الحيطة التي يتطلبها العمل المصرفي ومن دون التحسّب لإمكانيّة توقّف مصرف لبنان عن تسديد المبالغ المستحقة بذمته.       

خلاصة

انطلاقا مما تقدّم، جاز القول أن شورى الدولة عمد في قراره إلى رفع مكانة ودائع المصارف أيّا كانت مشروعيتها ليضعها في مصاف المقدّسات، مقابل إلقاء أثقال كبرى على كاهل دولة ترزح تحت الديون، على نحو يمنعها من أداء وظائفها النبيلة في ضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وهي الوظائف التي انوجدتْ من أجلها. وهذا ما عبّرنا عنه في عنوان هذا المقال حيث اعتبرنا أن القرار يؤدي إلى تقديس ودائع المصارف مقابل تدنيس الدولة أو وظائفها. وهذا بالواقع أسوأ ما يمكن لمجلس يتكنى بأنه مجلس “شورى” للدّولة أن يفعله.    

للاطّلاع على قرار مجلس شورى الدولة، إضغطوا هنا

انشر المقال



متوفر من خلال:

مساواة ، سياسات عامة ، مصارف ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني