فلسطينيون يُقاضون إدارة بايدن: المحاكم الأميركية شاهدة على الإبادة أيضاً


2024-02-12    |   

فلسطينيون يُقاضون إدارة بايدن: المحاكم الأميركية شاهدة على الإبادة أيضاً
المصدر: wikimedia Commons

للاطلاع على نسخة محدّثة من المقالة اضغطوا هنا

في 31 كانون الثاني الماضي، صدر قرار عن المحكمة الفدرالية في مقاطعة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا الأميركية في الدعوى المدنية التي كان قد تقدّم بها مركز الحقوق الدستورية في الولايات المتحدة وعدد من المنظمات الحقوقية والأفراد الفلسطينيين ضدّ الرئيس جو بايدن ووزيريْ الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن بصفاتهم الرسمية، وذلك لفشلهم في منع الإبادة الجماعية التي يقترفها الإسرائيليون بحق الشعب الفلسطيني، ولمشاركتهم وتواطئهم فيها سواء من خلال الدعم المادي والعسكري، أو عبر الدعم الدبلوماسي والسياسي المقدّم للاحتلال.

قَبِل رئيس المحكمة، القاضي جيفري وايت، طلب الإدارة الأمريكية بردّ الدعوى لكونها تطرح مسائل سياسية “غير قابلة للتقاضي”، أي خارجة عن اختصاص المحكمة. لكنّه أعرب في ختام حكمه عن كون القرار الذي اضطر إلى اتخاذه ليس “النتيجة المفضّلة”، وأنّ الاجتهادات السابقة وتطبيق مبدأ فصل السلطات حسب الدستور الأميركي يمنعانه من الاستجابة لطلب المدعين في اتخاذ أوامر بفرض تدابير (injunction for relief motion) وبإلزام المدّعى عليهم بوقف الدعم المالي والعسكري إلى إسرائيل تطبيقاً للالتزامات الدولية النابعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية. لكنّه، وعلى الرغم من هذا التقييد الدستوري، أشار بوضوح في قراره إلى احتمال ارتقاء السلوك الاسرائيلي إلى مستوى الإبادة الجماعية، وعليه ناشد المسؤولين الأميركيين “بدراسة نتائج دعمهم الثابت للحصار العسكري ضد الفلسطينيين في غزة”.

أتى القرار بعد جلسة عقدتها المحكمة يوم الجمعة 26 كانون الثاني، أي في نفس تاريخ إصدار محكمة العدل الدولية لقرارها بشأن التدابير المؤقتة في دعوى الإبادة المقامة من جنوب إفريقيا والتي سلّمت فيه المحكمة بجدّية خطر الإبادة ضد الفلسطينيين وأمرت إسرائيل بوقفها. انقسمت الجلسة إلى جزءين: خُصِّص الجزء الأوّل لمناقشة اختصاص المحكمة. لكنّ الجزء الثاني والأطول، خُصِّص للاستماع العلني إلى شهادات المدعين التي نقلت معاناة أهل غزة والفلسطينيين في الإبادة التي يتعرّضون لها.

لم يجهل المدّعون حظوظ رد الدعوى في هذه المرحلة المبكرة من المحاكمة. فهذه ليست أوّل قضية تُساءل فيها اسرائيل عن جرائمها أمام المحاكم الأمريكية. وفي معظم السوابق، كانت إشكالية اختصاص المحكمة في تقييم خيارات سياسية أناطها الدستور بالسلطة التنفيذية وأخرجها من حيّز التقاضي تؤدّي إلى بتر الحديث قبل الوصول إلى أساس الدعوى. فيتوقف مسارها عند عتبة الاختصاص، ولا تناقش الجرائم الإسرائيلية ولا تطرح الوقائع، بل يتركّز النقاش على النظام القضائي الأمريكي وينتهي عند هذا الحدّ.

من هنا، تعتبر المحامية نورا عراقات، عضوة مركز الحقوق الدستورية، أنّ خطوة المحكمة في تخصيص ساعتين للإدلاء بشهادات حية للمدعين، هي خطوة غير اعتيادية إذ أتيحت الفرصة لتقديم أدلة جوهرية في هذه المرحلة المبكرة من المحاكمة. كما أنّ السماح للأفراد بالتعبير عن واقعهم يجبر مبدئيًا الحكومة على خوض النقاش في المضمون في هذه المرحلة المبكرة. إلّا أنّ محاميّ الدفاع لم يوجّهوا أيّ سؤال ولم يناقشوا البتّة أيًا من الشهادات الفلسطينية. هذا ما دفع القاضي في نهاية الجلسة إلى لحظ أنّ ” الحكومة لا تناقش في الوقائع”. وخلص في الجلسة إلى اعتبار أنّ “هناك الآن أدلة لا جدال فيها حول حصول إبادة جماعية”، مستنداً بالإضافة إلى الشهادات “المروّعة” التي سمعها، إلى آراء الباحثين من منظور سوسيولوجي تاريخي. وهذا ما ورد في قراره النهائي الذي استند أيضاً إلى قرار محكمة العدل الدولية في دعوى الإبادة المقامة من جنوب أفريقيا.

وعلى الرغم من خسارة الدعوى قانونياً، تبقى هذه القضية مهمة لجهة عرض السردية الفلسطينية وتأكيد واقع الإبادة أمام محكمة أمريكية، وتطرح تساؤلات إضافية حول دور المحاكم الوطنية وبخاصة الأميركية في تطبيق القانون الدولي ومستقبله، وهو ما سنتناوله تباعاً في هذه المقالة.

1) السردية الفلسطينية التاريخية في المحاكم الأمريكية

على مدى أكثر من ساعتين ونصف، صدحتْ في قاعة المحكمة شهادات أربع فلسطينيين- أميركيين لديهم أهل وأقارب في غزة وهم ليلى الحداد، وائل البحاسي، محمد مناضل حرزالله، وباسم القرا. كما استمعتْ المحكمة عن بعد إلى شهادة الطبيب المتدرّج عمر النجار من مستشفى في رفح. كما أدلى كلّ من  أحمد أبو فول من جمعية الحق، وخالد قزمار المدير العام “للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين” من رام الله بشهادتاهما.

رسمت هذه الشهادات صورة الإبادة بكل فظاعتها. من المجازر والتهجير المستمر والمتكرر داخل غزة، إلى الحصار والمجاعة وأثاره المميتة على الناجين من القصف، مرورًا باستهداف المستشفيات وتفشّي الأمراض من جرّاء اكتظاظ مراكز إيواء اللاجئين. حتى أنّهم تحدثّوا عن ألم غياب إمكانية دفن الشهداء، أو “امتياز” العثور على جثامينهم كاملة.

أظهر القاضي احتراماً وتقديراً لكل الشهادات وأسفًا أمامها. ولكن في الوقت عينه، أظهرت هذه الجلسة أنّ واقع غزة وإجرام الإبادة لا يزال “مغيّبا”، فأتت هذه الشهادات لتجبر المحاكم الأمريكية أن تتحوّل هي أيضًا إلى “شاهدة على الإبادة” وأن تسمع في صرحها السردية الفلسطينية التاريخية والحالية.

عمر، الذي “خسر كل شيء في هذه الحرب”، كان أوّل من أدلى بشهادته. ولأنّ القاضي لم يكن يسمعه بشكل واضح، طلب منه إذا أمكن، ” الانتقال إلى مكان أكثر هدوءًا أو إغلاق الباب”، مع تفهّمه أنّ عمر يتّصل من “منطقة حرب”. أتى ردّ عمر ليشرح بأنّ هذه الحرب ليست ككل الحروب، فهو يتواصل معهم عبر الإنترنت الإداري وهو “جالس على أرضية مدخل الإدارة في المستشفى، وهي الطريقة الوحيدة للحصول على الإنترنت”. إنّ طلب القاضي المنطقي وجواب عمر أظهرا واقع المستشفيات في غزة، وواقع قطع الاتصالات من قبل الاحتلال. فأتت شهادة عمر لتشرح كيف أنّ المستشفيات في غزة هي إحدى أبرز الأهداف العسكرية في هذه الحرب، وأنّ قرار تدمير القطاع الصحي ركن من أركانها.

النكبة المستمرة والحاضرة

في بداية الجلسة كما في بداية قراره، طرح  القاضي جيفري وايت إطار الدعوى. ومثل حال أغلب وجهات النظر الغربية، يبدأ تاريخ المأساة الحالية مع أحداث 7 أكتوبر، لتظهر العمليات العسكرية الاسرائيلية التي أودت بحياة عشرات آلاف الفلسطينيين كمجرّد ردٍّ على عملية طوفان الأقصى. لكنّ لائحة الادعاء المقدّمة من قبل مركز الحقوق الدستورية عادت إلى النكبة، مشيرةً إلى أنّ “حملة الحكومة الإسرائيلية الحالية المتمثلة في القتل الجماعي، وفرض الإغلاق والحصار التام، وتهجير الفلسطينيين” هي ترداد وصدى “للمأساة الأساسية في الهوية والذاكرة الفلسطينية” التي بدأت عام 1948. واعتبر المركز أنّ “نية الإبادة الجماعية والصدمة والإرهاب” المفروضين على الشعب الفلسطيني هي كلّها في صلب تأسيس إسرائيل ومتوارثة بين الأجيال.

هكذا، ثبّت الشهود سياق الاحتلال والعدوان واستحضروا تاريخهم الذي لطالما حاول الاسرائيليون طمسه. على سؤال الادعاء “من أين أنت؟”، يردّ عمر أنّه كان يعيش في حي الخزاعة شرق خان يونس قبل وصوله إلى رفح. لكنّه “في الأصل، من قرية سلامة، في يافا التي أجبر جدّي على تركها”. أمّا محمد حرزالله، وهو أساساً من حي الشجاعية في غزة، هجّرت عائلته وتوزّعت على مختلف الدول العربية عام 1948. فعاش في الكويت قبل أن يصل إلى الولايات المتحدة الاميركية. يذكّر أحمد أبو الفول ووائل البهاسي من جهتهما أنّ غالبية سكان غزة الحاليين هجّروا من مختلف القرى في فلسطين، وتعرّضوا “للتطهير العرقي عام 1948”. يستذكر أحمد جدّه الذي رفض إخلاء المنزل في شمال غزّة، لأنّ ذاكرة التهجير الأوّل عام 1948 لا زالت حاضرة في ذهنه، وهو لم يكن يتخطَّ السبع سنوات حينها. وبعد اشتداد العدوان ووضوح نية الإبادة في التصريحات الإسرائيلية، ألحّت العائلة عليه بالمغادرة “لبضعة أيام حتى يصبح الوضع آمنًا ثم نعود”. فكان ردّه أكثر إصرارًا: “هذا ما قالوه لي عام 1948، ولكنني لم أعد قط”. فاضطر أعمام أحمد أن يحملوا الجد لأنّه رفض ترك المنزل. وها قد دمّرت القوات الإسرائيلية المنزل بعد ما غادروه. وكان لعمّة وائل موقف مماثل إذ هي أيضا رفضت مغادرة منزلها. لم يتخيّل أحمد أنّه سيحيا كل القصص التي سمعها عن النكبة، ولا أنّه سيشهد عليها. صورة نكبة عام 1948 “بالأبيض والأسود المحفورة في ذاكرة الفلسطينيين”، عادت حيّة وبالألوان أمامه حين رأى آلاف الأشخاص يفرّون مع أطفالهم وبعض ممتلكاتهم على طريق صلاح الدين.

إبادة عائلات بالكامل

“ما من عائلة لم تفقد أفرادًا منها”. بهذه الكلمات يستهلّ باسم القرا إجابته على سؤال إذا أصيب أحد من أفراد عائلته. “مباشرة بعد وقف إطلاق النار، وفقًا لوزارة الصحة، قُتل 65 فردًا، ومن بعدها وصل عدد شهدائنا إلى 73، والآن في فترة الاستراحة هذه (أي الاستراحة خلال جلسة المحاكمة)، تلقّيت خبر استشهاد قريبي وفقدان شخصين إضافيين من العائلة. هؤلاء الـ 74 شهيد، هم الذين نعرف فعلياً أنّهم استشهدوا. هناك العشرات من أفراد العائلة في عداد المفقودين. وعندما يحين الوقت الذي يمكننا فيه إحصاء الجميع، أتوقّع أن نكون فقدنا فعلياً أكثر من مئة شخص.”

هكذا، أحصى الشاهد تلو الآخر أمام المحكمة أعداد الشهداء من عائلاتهم. يسجّل أحمد أبو الفول 15 شهيد من طرف والده، و22 شهيد من طرف أمّه. ولا يمكنه جزم وضع أفراد العائلة الذين مكثوا في شمال القطاع، فالاتصال معهم مقطوع.  أمّا ليلى الحداد، فخسرت 5 أقارب من طرف أبيها، و84 قريب من جهة أمها، إضافة إلى عدة عشرات من المفقودين من عائلة الفرا في خان يونس. وخسر وائل أكثر من 100 فرد من عائلته.

شعور المدعين بالذنب والمسؤولية : “حكومتي تقتل شعبي”

يتشارك كلّ من ليلى ومحمد وباسم قهرهم، لأنّ القنابل التي تقتل عائلاتهم في فلسطين تموّلها ضرائبهم الشخصية بصفتهم مواطنين أمريكيين. تعتبر ليلى أنّه من واجبها كمواطنة أمريكية تسدد الضرائب أن تسعى لمحاسبة حكومتها على دعمها المستمر للإبادة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. في حين يبرر محمد حرزالله قراره بمقاضاة المدّعى عليهم لامتلاكهم السلطة لإيقافها و”هم ملزمون بمنع الإبادة الجماعية المستمرة، وقد فشلوا في التحرك حتى الآن”. أمّا باسم فلا تغادر ذهنه لحظة واحدة فكرة أنّ القنابل المصنعة في الولايات المتحدة هي التي تسقط على رأس عائلته ومجتمعه. فيتحوّل حزنه إلى الشعور بالذنب تجاه مجتمعه، لأنّه يدرك أنّ حكومته متورطة في التفجير وفي المجازر.

غزة المحاصرة والمتمردة قبل الإبادة

ما يزيد من فظاعة المشاهد التي يرويها الشهود هي صورة غزة التي كانت، متمردة على الاحتلال وعلى الحصار ونابضة بالحياة والأحلام والذكريات قبل تدميرها الحالي. حيث أنّ الشهادات لم تكتفِ بعرض الألم الحالي، بل شاركت المحكمة كيف كانت غزة قبل الإبادة، وما هي ذكرياتهم فيها.

“غزة التي نعرفها لم تعد موجودة.” يقول أحمد، الذي ترك غزّة عام 2016 عن عمر الأربع وعشرين وقرر دراسة القانون الدولي بعد ما نجا من خمسة حروب. دمّر العدوان الاسرائيلي حديقة الروضة، ومدرسته الابتدائية، وجامعته والحي الذي كان يعيش فيه. دمّر الاحتلال غزة، “إحدى أقدم المدن في العالم” وكل أرشيفها ومعالمها التاريخية. ويذكر أنّه حضر العديد من حفلات زفاف أصدقائه في الكنائس الثلاث التي دمّرها الإسرائيليون “من دون أسباب واضحة”.

أمّا ليلى، فتقصّ على المحكمة ذكرياتها في غزة في مختلف مراحل حياتها. عندما كانت طفلة، كانت جدّتها ترسل معها صحونا فارغة لتملأها بالفول والحمص على الإفطار وتتذكّر وسط مدينة خان يونس وأزقتها الضيقة. عندما أصبحت بالغة، تذكر زياراتها لمنزل والدها في مدينة غزة. وكأم شابة، كانت تأخذ ابنها إلى حديقة الجندي المجهول، وتتنزّه على طول الطريق أسفل الشارع الرئيسي “عمر المختار” وصولاً إلى البرلمان وإلى المركز الثقافي رشاد الشوا. من بعدها، تشتري مع أمّها  الفول السوداني والبوظة ثم تذهبان إلى الشاطئ لشرب الشاي ومشاهدة غروب الشمس قبل الانتقال إلى المركز الثقافي لمشاهدة عرض موسيقيّ. “تم تدمير المنطقة بأكملها في اليوم الثاني من الحرب. كل هذه الذكريات والأماكن تحوّلت إلى كومة رمال كبيرة.”

المناظر التي نشأ باسم على رؤيتها أيضا تم تدميرها بالكامل. يقص ذكريات المزارع والخيول التي كانت تمتلكها عائلته وكيف كانوا يركبونها في الحقول. حتى المقابر التي دفن فيها أجداده تم جرفها بالكامل. “تخيل أنك لا تعرف أين دفن جدك أو جدتك”. كان لباسم وأقاربه حلم، بتحويل منزل جدّه الذي يفوق عمره القرن في حي الخزاعة إلى مركز ثقافي يأتي الناس لزيارته، لكنّ الاحتلال دمّر المنزل والحلم.

2)أي دور للمحاكم الوطنية في تطبيق اتفاقية منع الإبادة؟

“إذا كان للمسؤولية القانونية عن منع الإبادة الجماعية أن تعني أي شيء ــ في الواقع، إذا كان لسيادة القانون أن تعني أي شيء ــ فلابد أن يكون للمحاكم دور ومسؤولية في فرض مبادئ القانون الدولي التأسيسية هذه. خاصة وأنّ حياة الكثير من الناس على المحك”.
محامية الادعاء كاثرين غاليغر – أثناء مرافعتها في جلسة 26 كانون الثاني

كان المدّعون على علم أنّ التحدي الحقيقي في هذه القضية يكمن في انتزاع اختصاص المحكمة. لذلك، وبالنظر إلى تعقيدات نظام فصل السلطات الأميركي وإلى الاجتهادات السابقة، لم يطلب محامو الادعاء  أن تقوم المحكمة بمساءلة السياسة الخارجية الأميركية الداعمة لإسرائيل في المجمل، بل حرصوا على حصر قضيتهم بسؤال واضح: “هل يحق للمسؤولين الأمريكيين أن يخالفوا الالتزامات الدولية في خياراتهم المتعلّقة بالسياسة الخارجية؟”

واعتبروا أنّ الولايات الأميركية المتحدة تنتهج سياسات تتعارض مع القانون، وتختار بالتالي أن تتجاهل التزاماتها القانونية حين تدعم الإسرائيليين وتسهّل اقتراف للإبادة الجماعية. أصرّ الادعاء أنّ المطلوب من المحكمة يقتصر على تطبيق القانون (اتفاقية منع الإبادة الجماعية) على الوقائع، ولا يتطلّب من المحكمة أن تقيّم الخيارات السياسية الاستنسابية للحكومة الأمريكية. إذ إنّ الاتفاقية واضحة، ولا تقبل الجدل عندما تلقي موجب منع ومعاقبة الإبادة الجماعية.

من جهتهم، ركّز محامو الدفاع على خروج الدعوى عن نطاق اختصاص المحكمة. وإنّهم إذ سلّموا أنّ اتفاقية منع الإبادة تدخل ضمن القوانين “الأعلى للبلاد” (Supreme law of land) – أي أنّها تتصدّر هرم القواعد – إلّا أنّها لا تتمتّع بقدرة تنفيذ مباشرة أمام المحكمة. وعلى سؤال القاضي لهم حول الآلية المتاحة أمام الضحايا لتطبيق القانون الدولي إذا أقرينا بحصول الإبادة بتواطؤ أمريكي، أجاب الدفاع أنّ الآليات المتاحة الوحيدة هي الآليات “السياسية” التي تنصّ عليها الاتفاقية في المادتين الثامنة والتاسعة، أي اللجوء إلى مجلس الأمن وإلى محكمة العدل الدولية.  فما كان من الادعاء إلّا التذكير بالدور السياسي الذي تلعبه الحكومة الأميركية في تعطيلها لمجلس الأمن.

ختمت محامية الادعاء مرافعتها بالتصريح التالي: “إذا قامت المحكمة برد الدعوى، هذا يعني أنّ كل هذه الأطر الدولية التي تهدف إلى منع الإبادة ليس لها أي أهمية وتسقط تلقائياً حين يكون المقترف مسؤولاً أمريكياً، ولا تستطيع محكمة أميركية أن تلزمه باحترامها”.

لم يتطرّق القاضي في قراره إلى هذه النقطة الأخيرة التي رفعتها المحامية، وركّز على نظرية “المسألة السياسية” التي تُخرج الدعوى من نطاق اختصاصه. كما أعاد الحجة التي تقدّم بها محامو الدفاع المرتبطة بالـ“حرج (العالمي) الذي يمكن أن يسببه (بالنسبة إلى الولايات الأميركية المتحدة) قرار محكمة أميركية داخلية تدين حكومتها”.  ولم يُطرح أبدا “الحرج” الذي تسببه مشاركتها في الإبادة الجماعية.

بصرف النظر عن النظام القضائي الأميركي، وكيفية تطبيقه لمبدأ الفصل بين السلطات، إنّ السؤال الذي اختٌتِمت به المرافعة واضح، صريح وجوهري: أي قيمة للقانون الدولي وأي مساحة للعدالة الدولية في مواجهة القرارات السياسية؟ حتّى على الصعيد الداخلي، إنّ القانون ترجمةٌ لسياسة معيّنة تأتي لتؤطّر العلاقات الواقعية وتعقلنها. أي قيمة لكل القانون الدولي إذا تخلّت الدول جميعها عن التزاماتها؟ وكم هو وحشي العالم الذي لا يخضع فيه ميزان القوة على الصعيد الدولي إلى أي ضوابط؟

في ختام الجلسة، أصرّ القاضي على التوجّه إلى المدعين-الشهود قائلاً لهم “هذه المحكمة سمعتكم، وشاهدتكم”. طبعًا، مهم أن تسلّم محكمة أمريكية أنها تستمع وتشاهد الفلسطينيين وتعترف بالإبادة التي يتعرّضون إليها. لكنّ هذا الأمر ليس رائدًا. فالعالم  كلّه يشاهد ويستمع إلى الإبادة، فهل من يمتلك الصلاحية والاختصاص والقدرة والإرادة على إيقافها؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم مدنية ، الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني