فلسطينيون أمام القضاء الأميركي: خطر الإبادة تحت سقف السياسة؟


2024-04-17    |   

فلسطينيون أمام القضاء الأميركي: خطر الإبادة تحت سقف السياسة؟
رسم رائد شرف

في 31 كانون الثاني 2024، صدر قرار عن المحكمة الفدرالية في مقاطعة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا الأميركية في الدعوى المدنية التي كان تقدّم بها مركز الحقوق الدستورية وعددٌ من المنظمات الحقوقية والأفراد الفلسطينيين ضدّ الرئيس جو بايدن ووزيريْ الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن بصفاتهم الرسمية. تهدف الدعوى إلى تحميلهم المسؤولية القانونية عن فشلهم في منع الإبادة الجماعية التي يقترفها الإسرائيليون في حق الشعب الفلسطيني، وعن مشاركتهم وتواطُئِهم فيها سواء من خلال الدعم المادي والعسكري، أو عبر الدعم الدبلوماسي والسياسي المقدّم للاحتلال.

قَبِل رئيس المحكمة، القاضي جيفري وايت، طلب الإدارة الأميركية بردّ الدعوى لكونها تطرح مسائل سياسية “غير قابلة للتقاضي”، أي خارجة عن اختصاص المحكمة. لكنّه أعرب في ختام حكمه عن كون القرار الذي اضطرّ إلى اتخاذه ليس “النتيجة المفضّلة”، وأنّ الاجتهادات السابقة وتطبيق مبدأ فصل السلطات يمنعانه من الاستجابة لطلب المدّعين في اتخاذ أوامر بفرض تدابير تلزم المدّعى عليهم بوقف الدعم المالي والعسكري إلى إسرائيل. لكنّه، وعلى الرغم من هذا التقييد الدستوري، أشار بوضوح في قراره إلى احتمال ارتقاء السلوك الإسرائيلي إلى مستوى الإبادة الجماعية، وعليه ناشد المسؤولين الأميركيين “دراسة نتائج دعمهم الثابت للحصار العسكري ضدّ الفلسطينيين في غزة”.

أتى القرار بعد جلسة عقدتها المحكمة تزامنت مع إصدار محكمة العدل الدولية قرارها بشأن التدابير المؤقتة في دعوى الإبادة المقامة من جنوب إفريقيا والتي سلّمت فيه المحكمة بجدّية خطر الإبادة ضدّ الفلسطينيين وأمرت إسرائيل بوقفها. وخُصِّص الجزء الأوّل من الجلسة لمناقشة اختصاص المحكمة، فيما خُصِّص الجزء الثاني والأطول للاستماع العلني إلى شهادات المدّعين التي نقلت معاناة أهل غزة والفلسطينيين في الإبادة التي يتعرّضون لها.

لا يجهل المدّعون حظوظ ردّ الدعوى في هذه المرحلة المبكرة من المحاكمة. ففي كلّ مرة تُساءل فيها إسرائيل عن جرائمها أمام المحاكم الأميركية، تؤدّي إشكالية اختصاص المحكمة في تقييم خيارات السلطة التنفيذية السياسية إلى بتر الحديث قبل الوصول إلى أساس الدعوى. فيتوقف مسارها عند عتبة الاختصاص، ولا تناقش الجرائم الإسرائيلية ولا تطرح الوقائع. لذلك فإنّ تخصيص ساعتين للإدلاء بشهادات حيّة للمدّعين هي خطوة غير اعتيادية، بحسب المحامية نورا عريقات، إذ أتاحت الفرصة لتقديم أدلّة جوهرية ما يجبر مبدئيًا الحكومة على خوض النقاش في المضمون في هذه المرحلة المبكرة. ولاحظ القاضي في قراره أنّ “الحكومة لا تناقش في الوقائع”، وخلص إلى اعتبار أنّ “هناك الآن أدلّة لا جدال فيها حول حصول إبادة جماعية”. وقد استند، بالإضافة إلى الشهادات “المروّعة” التي سمعها، إلى آراء الباحثين من منظور سوسيولوجي تاريخي، وإلى قرار محكمة العدل الدولية. وقد تقدّم المدّعون باستئناف ضدّ هذا القرار حيث من المتوقع أن تعقد محكمة الاستئناف جلسات الاستماع للنظر في الطعن في حزيران/يونيو 2024.

وعلى الرغم من خسارة الدعوى قانونيًا، تبقى هذه القضية مهمّة لجهة عرض السرديّة الفلسطينية وتأكيد واقع الإبادة أمام محكمة أميركية، وتطرح تساؤلات إضافية حول دور المحاكم الوطنية وبخاصّة الأميركية في تطبيق القانون الدولي ومستقبله.

1) السرديّة الفلسطينية التاريخية في المحاكم الأميركية

على مدى أكثر من ساعتين ونصف، صدحتْ في قاعة المحكمة شهادات أربع فلسطينيين – أميركيين لديهم أهل في غزة وهم ليلى الحداد، وائل البحاسي، محمد مناضل حرزالله، وباسم القرا. كما استمعتْ المحكمة عن بعد إلى شهادة الطبيب المتدرّج عمر النجار من مستشفى في رفح. وأدلى كلّ من  أحمد أبو فول من مؤسسة “الحق”، وخالد قزمار المدير العام لـ “الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين” بشهادتاهما.

أظهر القاضي احترامًا وتقديرًا لكلّ الشهادات وأسفًا أمامها. ولكن في الوقت عينه، أظهرت الجلسة أنّ واقع غزة وإجرام الإبادة لا يزال “مغيّبًا”، لتأتي الشهادات لتجبر المحاكم الأميركية أن تتحوّل هي أيضًا إلى “شاهدة على الإبادة” وأن تسمع في صرحها السردية الفلسطينية التاريخية والحالية.

النكبة المستمرة والحاضرة

استهلّ القاضي الجلسة والقرار بطرح إطار الدعوى، وكحال أغلب وجهات النظر الغربية، يجزّ التاريخ ليبدأ مع أحداث 7 أكتوبر. لكنّ لائحة الادّعاء أشارت إلى أنّ حملة الحكومة الإسرائيلية الحالية هي ترداد وصدى “للمأساة الأساسية في الهوية والذاكرة الفلسطينية” التي بدأت عام 1948، وأنّ “نية الإبادة الجماعية والصدمة والإرهاب” المفروضة على الشعب الفلسطيني هي في صلب تأسيس إسرائيل.

ثبّت الشهود سياق الاحتلال والعدوان واستحضروا تاريخهم الذي لطالما حاول الاسرائيليون طمسه. فذكّر كلّ من أحمد ووائل أنّ غالبية سكان غزة الحاليين هجّروا من مختلف القرى في فلسطين، وتعرّضوا للتطهير العرقي عام 1948. وعلى سؤال الادّعاء “من أين أنت؟”، ردّ عمر أنّه كان يعيش في حي الخزاعة قبل وصوله إلى رفح، لكنّه “في الأصل، من قرية سلامة، في يافا التي أجبر جدّي على تركها”. أمّا محمد حرزالله،  فهجّرت عائلته وتوزّعت على مختلف الدول العربية بعد النكبة.

إبادة عائلات بالكامل

رسمت هذه الشهادات صورة الإبادة بكل فظاعتها. من المجازر والتهجير المستمر والمتكرّر داخل غزة، إلى الحصار والمجاعة وآثاره المميتة على الناجين من القصف، مرورًا باستهداف المستشفيات وتفشّي الأمراض من جرّاء اكتظاظ مراكز الإيواء. حتى أنّه الشهادات تحدثّت عن ألم غياب إمكانية دفن الشهداء، أو “امتياز” العثور على جثامينهم كاملة.

“ما من عائلة لم تفقد أفرادًا منها”. بهذه الكلمات أجاب باسم الذي فقد 74 شخصًا من عائلته. أحصى الشاهد تلو الآخر أمام المحكمة أعداد شهدائهم، حيث سجّل أحمد 15 شهيدًا من طرف والده، و22 شهيدًا من طرف أمّه. وخسرت ليلى 5 أقارب من طرف أبيها، و84 قريبًا من جهة أمها. وخسر وائل أكثر من 100 فرد من عائلته. وذكّر كلّ منهم أنّ هناك العشرات من أفراد العائلة في عداد المفقودين في شمال القطاع كما في جنوبه.

ويتشارك كلّ من ليلى ومحمد وباسم قهرهم، لأنّ القنابل التي تقتل عائلاتهم في فلسطين مصنّعة في الولايات المتحدة وتموّلها ضرائبهم الشخصية، معتبرين أنّه من واجبهم كمواطنين أميركيين أن يسعوا لمحاسبة حكومتهم على دعمها المستمر للإبادة الإسرائيلية بحق أهلهم وتورّطها المباشر فيها مع أنّها تمتلك السلطة لإيقافها.

2) أي دور للمحاكم الوطنية في تطبيق اتفاقية منع الإبادة؟

لدرايتهم بتعقيدات نظام فصل السلطات الأميركي وبالاجتهادات السابقة، لم يطلب محامو الادّعاء أن تسائل المحكمة السياسة الخارجية الأميركية الداعمة لإسرائيل في المجمل، بل حصروا قضيّتهم بسؤال واضح: “هل يحق للمسؤولين الأميركيين مخالفة الالتزامات الدولية في خياراتهم المتعلّقة بالسياسة الخارجية؟” ليكون المطلوب من المحكمة يقتصر على تطبيق القانون (اتفاقية منع الإبادة الجماعية) على الوقائع، ولا يتطلّب منها تقييم خيارات الحكومة السياسية والاستنسابية، حتى تستنتج أنّ الولايات المتحدة تتجاهل التزاماتها القانونية حين تسهّل اقتراف الإبادة الجماعية.

من جهته، ركّز فريق الدفاع عن إدارة بايدن على خروج الدعوى عن نطاق اختصاص المحكمة، وعلى عدم تمتّع اتفاقية منع الإبادة بقدرة تنفيذ مباشرة أمامها، على الرغم من تصدّرها هرم القواعد. وعلى سؤال القاضي حول الآلية المتاحة أمام الضحايا لتطبيق القانون إذا أقرّينا بحصول الإبادة بتواطؤ أميركي، أجاب فريق الدفاع أنّ الآليات المتاحة الوحيدة هي الآليات “السياسية” التي تنصّ عليها الاتفاقية، أي اللجوء إلى مجلس الأمن وإلى محكمة العدل الدولية. فما كان من فريق الادعاء إلّا التذكير بثبات تعطيل مجلس الأمن من قبل  الحكومة الأميركية.

ختمت محامية الادّعاء مرافعتها بالتصريح التالي: “إذا قامت المحكمة بردّ الدعوى، هذا يعني أنّ كل الأطر الدولية التي تهدف إلى منع الإبادة ليس لها أي أهمية وتسقط تلقائيًا حين يكون المقترف مسؤولًا أميركيًا، ولا تستطيع محكمة أميركية أن تلزمه باحترامها”. وأضافت: “إذا كان للمسؤولية القانونية عن منع الإبادة الجماعية أو لسيادة القانون من معنى، فلا بد أنّ يكون للمحاكم دور ومسؤولية في فرض مبادئ القانون الدولي التأسيسية بخاصّة وأنّ حياة الكثير من الناس على المحك”. إلّا أنّ القاضي لم يتطرّق إلى هذه النقطة، وركّز على نظرية “المسألة السياسية” ليعلن عدم اختصاصه.

بصرف النظر عن خصوصية النظام القضائي الأميركي، فإنّ السؤال الذي اختُتِمت به المرافعة واضح، وجوهري: أيّ قيمة للقانون الدولي إذا تخلّت الدول جميعها عن التزاماتها؟ وكم هو وحشي العالم الذي لا يخضع فيه ميزان القوّة على الصعيد الدولي إلى أي ضوابط؟

في ختام الجلسة، أصرّ القاضي على التوجّه إلى المدّعين – الشهود قائلًا: “هذه المحكمة سمعتكم، وشاهدتكم”. طبعًا، مهمّ أن تسلّم محكمة أميركية أنّها تستمع وتشاهد الفلسطينيين وتعترف بالإبادة التي يتعرّضون إليها. لكن هذا الأمر ليس رائدًا. فالعالم  كلّه يشاهد ويستمع إلى الإبادة، فهل من يمتلك الصلاحية والاختصاص والقدرة والإرادة على إيقافها؟

نشرت نسخة أولى من هذه المقالة في تاريخ 12-02-2024

نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لتحميل الملف بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، مقالات ، فلسطين ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني