غياب للرخص ومخالفات لشروط البناء: مبنى الشويفات المنهار قد لا يكون الأخير


2024-02-19    |   

غياب للرخص ومخالفات لشروط البناء: مبنى الشويفات المنهار قد لا يكون الأخير
السكان يجلسون فوق ركام المبنى المنهار

قبل حوالي 10 أيّام انهار مبنى أمهز السكني في منطقة صحراء الشويفات، تحديدًا في شارع حميّة بين حيّ بيت زعيتر وحيّ شبعا، ليتبيّن بعد الكشف أنّ المبنى مشيّد على أرض شيوع ولا رخصة بناء له، وأنّ السبب الأوّل لسقوطه يكمن في ضعف كامل في خلطة الباطون التي استخدمت خلال أعمال التشييد حسب ما يؤكّد المهندس راشد سركيس لـ “المفكرة القانوينّة”. 

صحيح أنّ انهيار مبنى صحراء الشويفات لم يتسبّب بسقوط أيّ ضحايا، إلّا أنّ الأمر محض صدفة إذ لا يحدث كثيرًا أن يعطي مبنى على وشك الانهيار إنذارات لساكنيه قبل مدّة تكفيهم  للإخلاء. وبالتالي فإنّ هذه الصدفة قد لا تكون حليفة أي مبنى مشيّد بالطريقة نفسها في المنطقة وفي أي منطقة تنطبق عليها الظروف نفسها أي العشوائية في البناء والتفلّت من معايير السلامة والترخيص عبر علاقات الزبائنية والرشى والمحسوبيات

فسقوط مبنى أمهز الذي يأتي بعد حوالي 4 أشهر على سقوط مبنى في حي بدران في منطقة المنصورية، يُعيدنا إلى السؤال عن سلامة الأبنية في لبنان ولاسيّما في ضواحي بيروت، السؤال الذي لا نتذكّر طرحه إلّا عند وقوع الكارثة التي تحيلنا إلى غياب السياسات السكنية. غياب “أجبر المواطنين على الدخول في لعبة المخالفات بعدما لم تترك الدولة لهم أيّ خيار” على حد تعبير أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت منى فوّاز.

ويُحيلنا السؤال عن سلامة الأبنية إلى البحث في مدى سلامة تلك المشيّدة على عقار الشويفات حيث يقع البناء المنهار والتي معظمها بني بلا ترخيص، وبشكل أوسع إلى الأبنية في المنطقة التي تحتاج بحسب معنيين إلى إعادة تقييم تحسّبًا لأي خطر انهيار داهم. 

موقع سقوط مبنى أمهز

لحظات رعب عاشها السكّان وإخلاء مبنى مجاور

يشكر غسّان حميّة ربه أنّ أحدًا من السكّان لم يُصب بأذى ويروي اللحظات الأخيرة قبل سقوط المبنى المكوّن من 5 طوابق بالإضافة إلى طابق أرضي وخمس محلّات تجاريّة، وتسكنه 13 أسرة (65 شخصًا). كان حميّة آخر الخارجين من المبنى مع زوجته وأبنائه الثلاثة وأربعة من أحفاده، “استيقظت حوالي الساعة الثامنة صباحًا على أصوات صراخ من المارة والجيران. رأيت الدرج يتحرّك أثناء نزولي، والمدخل لم يكن ثابتًا، ما أن خرجت من المبنى حتى انهار، الحمدالله نجونا، كارثة ما حصل، خسرنا منازلنا. حتى ذكرى لم يتبقّ لنا” يقول. 

ما عدا الطابق الأرضي جميع سكّان المبنى هم ملّاك، بعضهم اشترى شقّته على العظم تمامًا كما حميّة الذي اشترى قبل 15 عامًا ثلاث شقق، والذي يؤكّد أنّ أيّ آثار تشقّق أو نشّ لم تظهر على المبنى من قبل. ويُشير في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ المبنى الذي وقع بُني مرّة واحدة قبل حوالي 20 عامًا وأنّ لا طوابق أُضيفت عليه كما حال عدد من المباني المجاورة ويقول: “الأرض هنا كلّها عقار واحد، موزّعة أسهمًا وغير مفرزة، والناس بتعمّر، إجمالًا هيك البناء في هذه المنطقة”. 

يروي سكّان المبنى المنهار أنّه صباح يوم الأحد في 11 شباط 2024 كان أشبه بكابوس، استفاقوا على أصوات “طقطقة” ومشاهد “بلاط عم بقبّع” وأصوات “زجاج يتكسّر” وعلى صراخ مارة وجيران من الأبنية المجاورة. لم يفكّر سكّان المبنى للحظة بأنّ المبنى ينهار “لم يظهر على المبنى أيّ إشارات سابقة، لم نلحظ تشقّقات أو نشّ أو أي علامات أخرى” يقول معظم السكّان. ولكنّ أحدهم يلفت إلى أنّ أجزاء من سقف بيت في الطابق الأخير في المبنى كانت قد سقطت قبل فترة، ليعود ويقول “مش السقف، شوية دهان وقصص بسيطة”.

على ركام المبنى المنهار وبين أبنية متضرّرة لا يعرفون مدى سلامتها، بقي عدد من قاطني المبنى المنهار وقاطني المباني المجاورة المتضرّرة يومين أو أكثر بانتظار بدل الإيواء. “إجوا جرفوا وراحوا، ما حدا خبرنا شي، على صحّة السلامة نبيت خارج منازلنا” كرّر أكثر من شخص التقيناهم الثلاثاء الماضي وهم من سكّان مبنيين ملاصقين للبناء المنهار، أحدهما يبدو الضرر واضحًا على أحد جوانبه في طوابقه الخمس، بينما الضرر في المبنى الآخر يبدو واضحًا في الطابق الأوّل حيث سقط جزء من حائط الحمّام.    

بعض هؤلاء أمضى ليلتين في الباحة المستجدّة في حيّ تبدو فيه الباحات ترفًا، فالبناء يلاصق البناء، ويغيب مفهوم السكن اللائق كحقّ، وسلامة البناء لا تُطرح إلّا عند وقوع كارثة بحجم انهيار مبنى. “نبيت هنا بانتظار تأمين بدل إيواء وعائلاتنا تنام عند أقربائنا” يقول أحد الجالسين في الباحة وهو مستأجر انتقل إلى المبنى المنهار قبل خمسة أشهر.

بالإضافة إلى الأسر التي كانت تسكن المبنى المهدّم، أخلت أكثر من 20 أسرة، منازلها في مبنيين ملاصقين للمبنى الذي سقط: أكثر من 8 أسر من مبنى مقابل مؤلّف من 7 طبقات، و12 أسرة في مبنى جانبي مؤلّف من 5 طبقات تضرّرت واجهته وانهار جزء منها. 

وحتّى يوم الأربعاء الماضي أي بعد يومين من سقوط المبنى كان سكان المبنى المنهار بانتظار بدل الإيواء كذلك لم يكن سكان المبنيين الملاصقين قد عرفوا بعد ما إذا كان سكنهم آمنًا أم لا وبالتالي لم يكونوا قد حصلوا على بدل إيواء. “كشف مهندس من الدولة على المبنى وقال إنّ علينا أن نخلي 3 أيام حتى تظهر النتيجة، بس ما قالولنا وين نقعد بهالوقت، وطبعًا لم نأخذ بدل إيواء” تقول أم محمد مشيك وهي تجلس على ما تبقى من شرفة منزلها. تُشير أم محمد إلى تفسّخات في السقف قائلًا “هول كلّن ظهروا بعد سقوط المبنى المجاور، حتى حائط غرفة النوم بات مشققًا من الخارج”.

تروي أم محمد لـ “المفكرة” أنّ ابنتها نجت بأعجوبة يوم الأحد، فهي كانت تدرس على الشرفة التي سقطت أجزاء منها بعد سقوط مبنى أمهز إلّا أنّها دخلت إلى الشقة قبل دقائق من الكارثة. “عند الثامنة صباحًا تقريبًا بدأنا نسمع صوتًا يُشبه الطقطقة، رأيت المبنى يهتز، بدأت أصرخ، نزلنا من المنزل وبدأنا نُصحّي سكّان المبنى الذي سقط بعد دقائق من إخلائه بمساعدتنا والجيران، ابني كاد يكون ضحيّة  فهو صعد ليخلي سيّدة مقعدة في الطابق الأخير” تقول. 

الخميس الماضي، دفعت الهيئة العليا للإغاثة بدل إيواء 30 مليون ليرة لكلّ أسرة في المبنى المنهار و20 مليون ليرة لسكّان المبنى المجاور المتضرّر “استأجرنا لشهر واحد لنشوف شو بدو يصير، الشهر الجاي ما منعرف شو بدنا نعمل، وقالولنا إنّه الأسبوع المقبل سيكون القرار قد اتخذ بتدعيم المبنى” يقول حسن مشيك أحد المالكين في المبنى المجاور المتضرر من انهيار مبنى أمهز.

وفي حين يعتبر السكّان أنّ هذه المبالغ بالكاد تكفي شهرًا، يسأل سكّان المبنى المنهار عن التعويض، إذ يخبرنا حميّة أنّه استأجر حاليًا في بشامون لشهر ولكنّه لا يعرف ماذا سيفعل بعد انقضائه “حسب ما يقولون في متابعة من وزير الأشغال والمعنيين، ولا نعرف شيئًا عن إمكانية التعويض”.  

آل مشيك على شرفتهم التي سقط جزء منها في انهيار مبنى أمهز

سلسلة مخالفات ورخص “غير مفهومة”  

حتّى اللحظة لم تنته الفحوصات المخبريّة الذي كلّف محافظ جبل لبنان القاضي محمد المكاوي فريقًا هندسيًا بإشراف المهندس راشد سركيس رئيس جمعية التخفيف من أخطار الزلازل، القيام بها. إلّا أنّه وخلال عملية رفع الردم كان واضحًا أنّ “الحديد ينسحب بكل سهولة من الباطون من دون أية آثار لالتصاقهما ببعضهما البعض” مما يؤكّد حسب سركيس أنّ السبب الأوّل لسقوط المبنى يكمن في ضعف كامل في خلطة الباطون التي استخدمت خلال أعمال التشييد، مشيرًا إلى إمكانيّة وجود أسباب أخرى ستتبيّن بعد الانتهاء من الفحوصات المخبرية.

ويوضح سركيس في حديث مع “المفكرة القانونيّة” أنّه عند مراجعة الملف القانوني ومستندات البلدية لجهة الخرائط وأرقام العقارات تبيّن أنّ رقم العقار الذي شيّد عليه البناء المنهار هو 1058 الشويفات – العمروسية، تبلغ مساحته أكثر من 3500 م2 بقليل وهو يشكّل مربعًا أُنشِئت عليه الكثير من الأبنية بدون ترخيص قانوني ومنها المبنى المنهار، فالملكية شيوع ولا يمكن الترخيص حسب قانون البناء.

ويشرح سركيس أنّه وبعد البحث في ملف العقار 1058 في البلدية تبيّن أنّ عددًا قليلًا من الأبنية التي بنيت على العقار وعلى الرغم من أنّ الأرض شيوع أي لا تُعطى رخصة بناء، “انعملّها مخارج” عبر ثلاثة أنواع من التراخيص، بحسب سركيس. النوع الأوّل يندرج تحت ترخيص “بناء مهجّر” مع العلم أنّ مثل هذه التراخيص لا تنطبق شروطها على من حصل عليها ضمن العقار. أمّا النوع الثاني من الرخص فيندرج تحت اسم “ترخيص بالبناء” وله كشف فني وسُددت عليه الرسوم إلّا أنّ لا شيء يضمن أن يكون البناء مطابقًا لخرائط هذه الأبنية الموجودة في الملف، لأنّ الرخصة غير مسجّلة في نقابة المهندسين، بحسب سركيس، وقد أخذت من مكان ما بين البلدية والتنظيم المدني. ويُضيف أنّ النوع الثالث من الرخص تقع تحت مسمّى “وصل بالتصريح” والتي يؤكّد كركيس أنّها لا تُعطى للبناء بل للترميم. 

الأبنية المجاورة خطر داهم 

بعد انهيار مبنى أمهز، فإنّ السؤال الأوّل الذي يُطرح هو عن سلامة المبنيين المجاورين اللذين تضرّرا واللذين أخلي أحدهما كما ذكرنا وأُعطي سكّانه بدل إيواء، والسؤال الثاني هو عن المباني الأخرى المجاورة المبنيّة على العقار نفسه والتي تبيّن، حسب سركيس، أنّ معظمها بلا ترخيص بناء وعدد قليل منها لا يتجاوز أصابع اليد بتراخيص “استثنائية” لا تفرض سلامة البناء.

وفي هذا السياق يوضح المهندس سركيس أنّ المبنيين المحيطين بالمبنى المنهار من الجهتين الشمالية والشرقية أُصيبا بشكل مباشر عند سقوط المبنى المنهار فيما المبنيان غربًا وجنوبًا لم يتضررا، مضيفًا أنّه حسب النظرة الأولى، المباني مقبولة، ولكن ليست آمنة إلى درجة تفوق الـ50% ولاسيّما أنّ الشمالي مشبع بالرطوبة القوية في كلّ أجزائه والشرقي (أُخلي) متضرّر بسبب الارتطام وقد تكسّرت جدران عدّة فيه وأجزاء من السقوف ولا سيما لجهة المبنى المنهار. ويؤكّد سركيس أنّ هذا كلّه يتطلّب في النهاية فحصًا أكثر دقة، إذ لا يمكن الجزم بما إذا كانت هذه الأبنية آمنة أم لا، قبل الانتهاء من عملية الفحص وتحليل النتائج.

هذا بالنسبة إلى المباني المجاورة للمبنى المنهار، فماذا عن المباني غير المجاورة والمبنية على العقار نفسه؟ يُجيب سركيس أنّ كلّ شيء ممكن في “البناء خارج الأطر القانونية المعمول بها والذي يبدأ من دون ترخيص وفي ظل غياب المهندس الذي يُبنى كلّ بناء بموجب تعهّده ومسؤوليته ومراقبته”، مضيفًا أنّ عدم معرفة المقاييس وقوّة احتمال الباطون والعناصر التي تكوّنت منها المواد ومن بعدها اكتمال الإنشاء من دون أي فحص أو مراقبة مهنية محترفة، كلّها عوامل تتراكم وتنذر بالخطر.

ويرى سركيس أنّ الأبنية في المنطقة كلّها تحتاج إلى إعادة تقييم وأنّ على الذين “يساعدون” الناس في المنطقة وفي مختلف المناطق في لبنان في المضي في البناء من دون مراقبة ودراسات هندسية سليمة أن يعودوا خطوة إلى الوراء وبتنبّهوا إلى أنّهم يعرّضون حياة الناس للخطر. 

وعند السؤال عمّن يتحمّل المسؤولية، يُجيب سركيس بأنّ طريقة العمل والبناء والخروقات الكبيرة التي تحصل يتحمّل وزرها الكثير من الذين عبروا في مواقع مسؤولية وسمحوا للناس بالبناء بشكل عشوائي وغطاهم.

طفلان يلهوان في موقع سقوط المبنى

العودة إلى السكن كحق  

تُحيلنا حادثة صحراء الشويفات، وحسب أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت منى فوّاز مرة جديدة إلى غياب أي سياسة سكنيّة، سياسة تحترم الحق في المدينة لأي شخص يريد أن يعمل. وتقول: “هؤلاء الأشخاص أتوا إلى بيروت من أجل العمل، كان الجيل الأوّل منه يعمل في مصانع الشويفات وفي المطار، وبعد أن فشلت الدولة في وضع سياسة سكنيّة تنطلق من السكن كحقّ لا يمكن أنّ نُشير إليهم ونقول هم مخالفون ونجرّمهم”. وعدم تجريم هؤلاء ينطلق، حسب فوّاز، من أنّ المواطن دخل في لعبة المخالفات مجبرًا لعدم وجود خيارات أمامه ولأنّ السياسة السكنيّة والتشريعات ومنها الاستثناءات عملت على تجريد القانون من مفهومه وأهدافه ولم تلحظ السكن كحقّ.

وفي هذا الإطار تُشير فوّاز إلى أنّ عدد القوانين المرتبطة بالسكن والتي تنظر إليه كحق لا تُقارن مثلًا بعدد القوانين التي تنظر إليه من باب الاستثمار، وعلى سبيل المثال قانون الإيجارات الجديد وُجد ليحمي حق المالك وليس حق المستأجر وكذلك قروض السكن كانت مرتبطة بالاستثمار وليس بالسكن كحق. فهذه القروض برزت في وقت كان فيه عدد كبير من المساكن الشاغرة التي خلقت أزمة للمطوّرين العقاريين ولم تكن من باب حاجة الناس إلى السكن.

ولفهم تراكم العوامل التي تسبّبت بسقوط المبنى، بعيدًا من الأسباب التقنيّة المباشرة، تعود فوّاز إلى تاريخ بناء المنطقة وصولًا إلى اليوم، وإلى تشابك العوامل الاجتماعية والاقتصادية والمصالح الخاصة وضعف الدولة وفشلها والفساد وأطماع المطوّرين العقاريين، هذه العوامل التي انفجرت بوجهنا مع سقوط مبنى الشويفات.

وتشرح فوّاز أنّ تاريخ بناء المنطقة يعود إلى خمسينيات القرن الماضي مع قدوم عائلات من البقاع. استأجرت هذه العائلات غرفًا بالقرب من بساتين الزيتون بتسهيل من أحد سكّان المنطقة التي أصبحت فيما بعد حيّ السلم وتوسّعت فيما بعد حتى صحراء الشويفات. وبسبب ارتفاع كلفة الإيجار بدأت العائلات بشراء أراض وتقسيمها ومن ثمّ البناء عليها كما كان التقليد في ذلك الوقت في المناطق الريفية. وبسبب تدفّق النازحين إلى المنطقة نشط التطوير العقاري وبدأ بعض أصحاب الأراضي والذين كان معظمهم من الدروز والمسيحيين وبدعم وتشجيع من مطوّرين عقاريين، بتقسم أراضيهم إلى قطع صغيرة وبيعها للنازحين. ومع صدور مرسوم 1945 الذي فرض ضريبة على العقارات، وبعده مرسوم 1964، أصبحت العقارات خلف القانون، ولاسيّما في ظلّ عدم تسهيل البلديات حينها للأمر لأنها لم تكن راضية على ازدياد أعداد المهاجرين من خلفيات دينية واجتماعية مختلفة في المنطقة.

وتعتبر فوّاز أنّ المراسيم تعارضت مع حاجات هؤلاء النازحين إذ لم تأخذ بعين الاعتبار أنّ هؤلاء الأشخاص فقراء وأنّهم لا يستطيعون بناء عقارات كبيرة وبالعكس كان الهدف التخلّص منهم في هذه المنطقة. استمر تدفق النازحين إلى المنطقة التي بدأت تتوسّع واستمر المطوّرون العقاريون العمل بالطريقة نفسها متجاوزين القانون مستخدمين علاقاتهم ودفع الرشى للسلطات المحليّة ومنها المخافر، ومع بداية السبعينيات، أصبح المطوّرون يشيّدون مبان متعددة الطوابق ويؤجّرونها وبدأ سوق الإيجارات ينشط في المنطقة بعدما كانوا قد تمكّنوا من احتكار السوق بكلّ مكوناته بدءًا من الأراضي وصولًا إلى الرخص مرورًا بمواد البناء والعمّال، عبر شبكة كاملة من العلاقات الاجتماعية مرتبطة بالجهات العامة وأحزاب وسياسيين.

وتُشير فواز إلى موضوع أساسي وهو التدخّلات السياسية التي كان ينتج عنها استثناءات تسمح لهؤلاء بالبناء بلا رخصة بناء حقيقيّة وبتدبير إداري ومن ثمّ تسوّى أوضاعهم عبر قرارات تسوية مخالفات.

ونُشير هنا إلى أنّ التسويات تشترط شكلًا احترام السلامة العامة إنّما لم يوضع مرسوم يحدد الأطر الهندسية والمفاهيم والمعايير الواجب اعتمادها للتأكّد من مطابقتها لمفهوم السلامة العامة.

وتشرح فوّاز أنّ هذه الأبنية بدأت ترتفع وتعلو خلال الحرب وبعدها، إذ عمد البعض إلى إضافة طوابق، وهناك أبنية مؤلفة من سبع طوابق وبلا أساسات وهذا معروف، حتى من قبل البلدية والسياسيين الفاعلين في المنطقة، ما يشكّل خطرًا حقيقيًا. 

رغم هذه الطفرة العمرانيّة واستمرار البناء مع استمرار تدفّق النازحين “صُنفت صحراء الشويفات في العام 1970 منطقةً سكنيةً منخفضة الكثافة”. وخلال الحرب اللبنانيّة حمى الحزب التقدمي الاشتراكي المنطقة بالقوة من أي توسعٍ سكني فباتت مركزًا زراعيًا وصناعيًا لبيروت الغربية، حسب الأستاذة المساعدة في كليّة الدراسات العليا في العمارة والتخطيط والحفظ في جامعة كولومبيا هبة بو عكر.

وتُشير عكر في مقالة نشرتها في “المفكّرة” إلى أنّه مع انتهاء الحرب شهدت المنطقة طفرة هائلة في العمران السكني منخفض التكلفة ولاسيّما مع بدء حقبة جديدة من الإعمار والتمدين في بيروت وأطرافها، وانطلاق مشروع “سوليدير مترافقًا مع قرار سياسيٍ بإخلاء بيروت الإدارية من مهجّري الحرب القاطنين فيها عشوائيًا. وبما أنّ السكن في بيروت الإدارية كان مرتفع التكلفة، انتقل معظم المهجّرين إلى السكن في ضواحي بيروت الجنوبية، وبدت صحراء الشويفات بأراضيها الواسعة الميسورة التكلفة آنذاك مربحة للمطوّرين العقاريّين”. 

وتوضح بو عكر أنّه في بداية تلك المرحلة، وفّر التطوير المديني لصحراء الشويفات إمكانيات سكنٍ ميسورة التكلفة لمهجّري الحرب الذين هُجّروا مرة أُخرى خلال عملية إعادة إعمار وسط المدينة في فترة ما بعد الحرب. وجذبت المنطقة المطوّرين العقاريّين وشبكةً من السماسرة العاملين على شراء الأرض من المالكين الأصليّين والاستحصال على رخص البناء المصدّقة من بلدية الشويفات التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي في تلك الفترة، واستقطاب شراة للشّقق معظمهم من المهجّرين الباحثين عن سكنٍ ميسور التكلفة بالقرب من المدينة. ونظرًا لافتقار المنطقة آنذاك إلى أسس العيش، وفي ضوء نيّة بلدية الشويفات تأخير التطوير السكني في المنطقة، اجتمع المطوّرون والسكان لبضع مراتٍ، بدعمٍ من حزب الله، لتمويل وإنشاء البنية التحتية في أحيائهم. وعُدّل تقسيم المناطق الخاص بالمنطقة 8 مراتٍ على الأقل بين سكنيٍ وصناعي (من دون احتساب التعديلات العديدة غير الرسمية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، تحقيقات ، أحزاب سياسية ، الحق في السكن ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني