عرضنا في القسم الأوّل من هذا التحقيق التدرّج القانوني للحظ السلامة العامة وتحديدًا تلك المتعلقة بالزلازل، وكيف تغاضى المشرّعون في المقابل عن مبدأ السلامة العامّة مقابل منفعة انتخابيّة أو تحت عنوان إيرادات للخزينة كما حصل في قانون تسويات البناء، من دون التنبّه عن قصد أو غير قصد إلى الثمن الذي سيدفعه المواطن عند حدوث زلزال في بلد يقع على فوالق زلزاليّة. نخصّص القسم الثاني للإجابة عن أسئلة طرحها المواطنون وبقيت بلا إجابات من قبل المعنيين، وفي ظلّ انتشار شائعات ومعلومات مغلوطة في معظمها عن تصنيف الأبنية بين آمنة وغير آمنة.
بداية يؤكّد الاختصاصيون الذين التقتهم “المفكرة” أنّه لا يوجد أرقام دقيقة عن الأبنية الآمنة أو المقاومة للزلازل، وأنّ الأرقام الموجودة غير شاملة وفي معظمها لا يمكن اعتمادها كمؤشّر للحكم على سلامة الأبنيّة، مشدّدين على ضرورة البدء بمسح شامل توضع على أساسه خطط تضمن سلامة الأبنية القائمة.
هل الأبنية التي شيّدت قبل القانون والمراسيم ذات الصلة غير آمنة؟
بعد أيام من زلزال 6 شباط وفي ظلّ غياب مصدر موثوق يُجيب المواطنين عن أسئلتهم بدأ يُشاع أنّ الأبنية التي بُنيت قبل قانون البناء أو مراسيم السلامة العامة غير آمنة أو غير مقاومة للزلازل وما بُني بعدها آمن، إلّا أنّ هذه النظرية غير دقيقة حسب ما يُكرّر أكثر من مهندس واختصاصي.
وفي هذا الإطار، يؤكّد المهندسون المختصّون أنّه من حيث المبدأ ونظريًا يمكن القول إنّ كلّ بناء مرخّص قام بعد صدور قانون البناء الجديد يجب أن يكون احترم التوجّه الذي يفرضه القانون صراحة لجهة السلامة العامة ومنها ما يتعلق بالزلازل. وإذا أردنا التحديد أكثر، يمكننا القول إنّ كلّ بناء مرخّص بعد الـ 2015 من المفترض أن يكون مقاومًا للزلازل. إلّا أنّ العبرة تبقى في التطبيق حسب ما يرى رئيس جمعية التخفيف من أخطار الزلازل المهندس راشد سركيس. يشرح سركيس في حديث مع “المفكرة القانونيّة” أنّه في التطبيق يجب تعزيز قدرات كلّ من له دور في هذا المجال للتأكّد من حصول كل ما يجب تنفيذه أكان العمل مراقبًا من قبل مكتب تدقيق فني أو لا، وهذا يتطلّب تشريعًا جديدًا يساعد في ضمان تنفيذ دقيق للأعمال وتطبيق كل مندرجات القانون والمراسيم التابعة له لجهة مقاومة الزلازل.
أمّا في ما خصّ الأبنية التي شيّدت قبل صدور مرسوم السلامة العامة (2013)، فيشرح المهندس جوزف مشيلح، نائب نقيب المهندسين ورئيس فرع المهندسين المدنيين الاستشاريين، أنّ هذا لا يعني بالمطلق أنّها غير مقاومة لأيّة زلازل بخاصّة أنّ تطبيق قانون البناء وكلّ الأعراف والأنظمة الهندسية هي من مسؤولية المهندس المسؤول والمهندسين الاخصائيين. والمهندس طبعًا من خلال دراسته الإنشائية قد يكون راعى موضوع مقاومة الزلازل بالحدود والمفاهيم التي كانت سائدة عند تشييد البناء، وبحسب المعايير التي كانت معتمدة في حينه سواء لجهة عامل التسارع الأفقي أو طريقة توزيع الأحمال وطريقة احتسابها.
ويؤكّد مشيلح في حديث مع “المفكرة” أنّ عمر البناء مهمّ، لكنّه ليس العنصر الوحيد الذي نحكم من خلاله على متانة المبنى من عدمه من ناحية مقاومته للزلازل، فالأهم هو نوع البناء من ناحية المواد المستخدمة في البناء وكيفية البناء والتربة المبني عليها.
فعلى سبيل المثال، يقول مشيلح إنّ بعض الأبنية المصنّفة تراثية مصنوعة من حجر رملي ما يُحتّم وبصورة طارئة السؤال عن متانتها ويجعل من الضروري إجراء دراسات لمعرفة ما إذا كانت هذه الأبنية مقاومة للزلازل وعلى أي درجة. وهناك أبنية قديمة من طبقات عدّة شيّدت على أعمدة لها قدرة محدودة في مقاومة درجات عالية من الزلازل وتتطلّب دراسات مستحدثة لمعرفة الدرجات التي يمكن تحمّلها، وما هي الإجراءات الهندسية المطلوبة لجعل هذه الأبنية مقاومة للزلازل بحسب المعايير والدرجات المطلوبة لذلك.
ويُشير مشيلح إلى أنّ المفهوم المبسّط بالربط المباشر بين المعايير والمقاييس الهندسية والمعدّلات المفروضة وبين درجات المقياس المعتمد لدى العامّة (مقياس ريختر) ليس دقيقا جدًا، وعليه فإنّ تحديد درجة معيّنة على مقياس ريختر تتحمّلها الأبنية سواء المشيّدة حديثًا أو القائمة يبقى توصيفيًا عامّة، إذ إنّه مرتبط بعوامل التشييد كافة وليس فقط بعامل التسارع الأفقي المفروض إن بالمعنى السلبي أو الإيجابي.
ويشرح مشيلح أنّ هناك مراحل عدة تغيّرت معها الأساليب والتقنيات والمواد المستعملة في التشييد بدءًا من البناء بالحجر الرملي إلى مرحلة البناء بالباطون والحجر غير المسلّحين بالحديد وصولًا إلى الباطون المسلّح بالمفهوم الحديث أو حتى الباطون السابق الإجهاد أو اللاحق الإجهاد في عصرنا، وترافق هذا مع تبدّل في نوع الأساسات المعتمدة في كل هذه الفترات.
ويعتبر مشيلح أنّ مقاومة الأبنية للزلازل هي طبعًا مختلفة بحسب أنواع الأبنية وطريقة تشييدها، الأمر الذي يحتّم على الدولة القيام بمسح شامل لهذه الأنواع من الأبنية ولدراستها هندسيًا ومعرفة المعايير التي اتخذت بعين الاعتبار أثناء البناء في كلّ مرحلة ومدى اختلافها أو مطابقتها للمعايير المفروضة من خلال مرسوم السلامة العامّة الأخير أو أي تحديث يصدر له. وبعد هذه الخطوة يتمّ تصنيف الأبنية لجهة مقاومتها للزلازل من عدمها، إذ يؤكّد مشيلح أنّ هذه الدراسات هي الطريق الصحيح الذي يؤشر لأيّ مدى هذه الأبنية مقاومة للزلازل والأهم يحدّد ماهيّة الأعمال التي يجب القيام بها إنشائيًا لجعل الأبنية القائمة وبخاصّة المشيّدة قبل مرسوم السلامة العامّة موافية لشروط ومواصفات السلامة العامّة بمعاييرها الحالية.
من يتحمّل مسؤوليّة سلامة البناء؟
يشرح المهندس سركيس أنّه وحسب التشريعات المرعية الإجراء، تتوزّع مسؤوليات سلامة البناء على أكثر من جهة وبدرجات متفاوتة. فالمسؤولية الأولى تقع وحسب قانون البناء على المهندس المسؤول تليها مسؤولية مكتب التدقيق الفني الذي يقوم بالمهمّات المحدّدة له بمرسوم السلامة العامّة (معاينة ومراجعة وفحص تصميم وتنفيذ المنشآت والمواد وعناصر التجهيزات المستعملة في إطار عملية البناء استنادًا إلى المواصفات الفنية المتوجب اعتمادها في هذه العملية وإبداء الآراء المناسبة بهذا الشأن بهدف المساهمة في الوقاية من المخاطر). ويشير إلى أنّ المتعهدين والمقاولين يمكنهم التفلّت في كل وقت، الأمر الذي يحتاج إلى ضوابط قانونية صارمة.
أمّا فيما خًص الأبنية المشيّدة، فيشرح المهندس مشيلح أنّ المادة 18 من قانون البناء واضحة، المالك أو جمعية المالكين هم المسؤولون عن متانة البناء وصيانته. فمن واجبهم وعندما يشعرون أنّ البناء في خطر، استدعاء مهندس يكشف على المبنى وفي حال التأكّد من وجود أيّ خلل يبلّغ المالك البلدية التي تلزمه بتكليف مكتب هندسي لدراسة متانة المبنى وإذا تأكّد أنّ هذا البناء غير صالح للسكن تفرض البلدية إخلاءه أو تدعيمه.
ويُشير مشيلح إلى أنّه وحسب القانون على المالك “أنْ يسهر دومًا على صيانة أملاكه المبنيّة وتأمين الاتزان والمتانة اللازمين لها للمحافظة على سلامة الشاغلين والجوار. وعليه كلّما دعت الحاجة أن يكلّف مهندسًا أو أكثر للكشف على البناء والتحقيق بالوسائل الفنية الملائمة وتقديم تقرير مفصل عن حالة البناء. وبحسب القانون” إذا ظهر للمهندس أنّ البناء أو أقسامه قد بدت فيه إشارات وهن، عليه أن يبيّن في تقريره على قدر الإمكان سبب هذا الوهن ونتائجه المحتملة وأن يقترح الأشغال الواجب القيام بها مع بيان درجة العجلة فيها. إذا تبيّن بنتيجة تقرير المهندس أنّ اتّزان البناء أو متانته مختلّان، على المالك أن يقوم تحت إشراف المهندس المسؤول بأعمال التشييد والتدعيم بعد أن يكون استحصل على التراخيص المطلوبة من البلدية وقام بتسجيل الملف في نقابة المهندسين بحسب القوانين والأنظمة المعمول بها”.
رسم رائد شرف
هل يمكن التأكّد من أنّ البناء يخضع لشرط السلامة بعد بنائه؟
يؤكّد سركيس أنّ الكشف الحسّي النظري الأوّلي يُظهر الكثير من الأمور المتعلّقة بسلامة البناء لتأتي بعدها المراحل التالية من الكشف والتدبير مرورًا بالتدقيق في الخرائط ووضع البرامج الحسابية لمقاومة الزلازل وصولًا إلى خرائط التنفيذ للمعالجة الكاملة والوصول بالبناء إلى حالة المطابقة الكاملة.
ما هي الأرقام المتوافرة؟
يؤكّد ناغي أنّه لا يمكن أبدًا الحديث عن أرقام دقيقة حول الأبنيّة الآمنة أو تلك المقاومة للزلازل في لبنان، مشيرًا إلى أنّه في طرابلس مثلًا ووفق تقديرات المديرية العامة للآثار فإنّ عدد الأبنية المتصدّعة يفوق 300 في المدينة التاريخية تتفاوت حالتها بين الخطر المتوسّط والآيل للسقوط. وهذه الأرقام تستند إلى دراسة أجرتها وزارة الثقافة في العام 2017 ومن المنطقي أن تكون ارتفعت مع الوقت.
وفي الإطار نفسه وبعد الهزات الأخيرة أعلن رئيس بلدية طرابلس المهندس أحمد قمر الدين أنّ عدد المباني المعرّضة للانهيار في طرابلس بسبب التصدّعات هو حوالي 700 مبنى، 10% منها تشكل خطرًا على ساكنيها.
ويشرح المهندس سركيس أنّه بحسب التقديرات التي يمكن أن نستنتجها من حسابات معيّنة في معدّلات تسجيل معاملات ترخيص البناء وأوامر المباشرة المعطاة ضمن المهلة القانونية حسب سجلات نقابة المهندسين وملفات الإسكان ذات الصلة، يتبيّن أنّ كمية المساحات المنفذة في الـ 18 سنة التي تلت إصدار قانون البناء قد تترجم بعدد أبنية لا يقلّ عن 25 ألف مبنى بمعدل 8 طبقات للمبنى الواحد. ولكن تبقى هذه التقديرات غير دقيقة إذ يجب على البلديات خلق إطار إحصائي يوفّر التداول الدقيق بالأرقام مما يساعد على التخطيط السليم للتعامل مع هذا الواقع.
وفي الإطار نفسه تبيّن نتيجة عمل تطوعي قام به رئيس “شبكة سلامة البناء” المهندس يوسف عزّام عقب انهيار مبنى في حي فسّوح، أنّ هناك حوالي 16.460 مبنى يعود تاريخها إلى أكثر من 40 عامًا وهي أبنيّة موزّعة على الأراضي اللبنانيّة على الشكل التالي: 10.460 مبنى في بيروت، 4000 مبنى في مدن طرابلس وزحلة وصيدا، برج حمّود والشياح 600 مبنى، قرى جبل لبنان 640 مبنى، قرى محافظتي البقاع والجنوب 460 مبنى، قرى محافظة الشمال 300 مبنى.
وبحسب دراسة أجراها “اتحاد المهندسين اللبنانيين” حول الأبنية المتصدّعة في أحياء المدوّر والرميل والصيفي الواقعة في محيط مرفأ بيروت التي تضرّرت بفعل التفجير في 4 آب 2020 والتي كشفت على 2509 أبنية تبيّن أنّ خطر الانهيار أصاب 13% من المباني الممسوحة.
الإجراءات المطلوبة و”بالون” المسح
في السادس من شباط الماضي عقدت لجنة تنسيق عمليات مواجهة الكوارث والأزمات الوطنية اجتماعًا في السراي بهدف التصدّي للتداعيات الناتجة والمحتملة للزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا. وكلّفت بناء على الاجتماع، وزارة الداخلية والبلديات، البلديات بصورة فورية إجراء المسوحات للمباني ضمن نطاقها البلدي (مسح أوّلي ميداني يليه مسح تقني) وذلك بالتعاون مع مهندسين من نقابتي المهندسين وشركات القطاع الخاص المعنية. وفي هذا الإطار يقول مشيلح إنّ الدولة غيّبت نفسها عن موضوع سلامة الأبنية منذ سنوات لتأتي وقت الأزمة وتخرج “ببالون المسح” الذي كان يجب أن يحصل قبل سنوات وبشكل مستمر. ويعتبر أنّ الدولة بدت وكأنّها اكتشفت فجأة أنّ لبنان واقع على فوالق زلزالية. ويٌشير مشيلح إلى أنّه عمليًا الجهات المعنية وهي السلطات المحلية غير مجهّزة للقيام بهذا المسح على نفقتها وبإدارتها الكاملة وأنّ نقابة المهندسين يمكنها أن تؤدّي الدور الناظم لهذا الأمر حصرًا في عمليات المسح الأوّلي (طبعًا ليس كشركة تقوم بدراسات هندسية للمالكين وهذا الأمر يبقى مناطًا بالمهندسين المكلفين أصولًا من المالكين). إنّما ومع احتجاز أموال النقابة في المصارف والأعباء التي أوكلت للنقابة من ملف استشفاء وتقاعد، تصبح النقابة غير قادرة ماليًا على إجراء هذا المسح.
وفي الإطار نفسه يرى ناغي أنّ المسح لا يعني فقط تعداد الأبنية الآمنة وغير الآمنة ولكن أيضًا العدد التقريبي لشاغلي الأبنية ليكون هناك قدرة على إخلائهم في حال الكوارث. ويعتبر أنّ المطلوب حاليًا خطط إغاثة حقيقيّة تتضمن المسح وتثقيف الناس للتعامل مع الهزات ومع الأبنية بعد الهزات وهذا حتى اللحظة لم يحصل بشكل منظم ونبدأ التحضر للأسوأ.
وليس بعيدًا، تعتبر الباحثة في التنظيم المدني في الجامعة الأميركيّة المهندسة سهى منيمنة أنّه على المدى القريب والطارئ يجب البدء السريع بتقييم الأضرار ولا بدّ للبلديات ان تتعاون مع منظمات وجمعيات للترميم. أما على المدى البعيد فلا بدّ من مراقبة مراسيم السلامة العامّة والتأكّد من تطبيقها ولا بدّ من إيجاد آليات تمنع تعرّض الموظفين للرشى.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.