سلطة المراسيم تبعث الروح في مشروع قانون فشلت الحكومات السابقة في فرضه


2022-09-30    |   

سلطة المراسيم تبعث الروح في مشروع قانون فشلت الحكومات السابقة في فرضه

صدر مؤخّرا المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال أو ما يُعرف إعلاميا بالمرسوم المتعلّق بالجرائم الإلكترونية. منذ سبع سنوات، تحاول الحكومات المتعاقبة تمرير هذا التشريع، وفي كلّ مرّة يواجهه المجتمع المدني التونسي بكثير من التوجّس والريبة. بقوّة المراسيم وتحت سطوة التدابير الاستثنائية، استطاع سعيّد تمرير هذا التشريع من دون أدنى نقاش مجتمعيّ وفي غياب أي إمكانية للتصدّي له.

في جوان الماضي، وعلى إثر مصادقة مجلس الوزراء على مشروع مرسوم مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة الاتصال، علّلت وزارة تكنولوجيات الاتصال ذلك بتعزيز ترقيم تونس دوليا في مجال الأمن السيبرني، تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب، حماية مستعملي تكنولوجيات الاتصال وتمكين تونس من الانضمام لاتفاقية بودابست. لكن، وعلى خلاف النوايا المعلنة من قبل الحكومة، انحرف المرسوم عن مقصده الأساسي متضمّنا قسما فرعيّا خطيرا تعلّق بالإشاعة والأخبار الزائفة. يسلّط من خلاله عقوبات زجرية قاسية جدّا لمكافحة جرائم فضفاضة من شأنها أن تجمع المجرمين والمعارضين في سلّة واحدة.

مكافحة الجرائم الالكترونية: تاريخُ قانون صيغ في الغرف المظلمة

لئن كان توقيت إصدار هذا المرسوم غريبا ويطرح تساؤلات من حيث سبب إيلائه الأولوية، فإنّ هذا النصّ ليس بجديد على الساحة التشريعية التونسية. منذ 2015، وبقيادة رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد، طلبت تونس الانضمام لاتفاقية بودابست لمكافحة الجرائم الإلكترونية وتمّ على ضوء ذلك إعداد مشروع قانون متعلّق بجرائم أنظمة المعلومات والاتصال. في ذلك الوقت، تمّ تسريب المشروع ونشره على موقع نواة. وقد امتنعت الحكومة عن توضيح ما إذا كان النصّ المسرّب يمثّل المسودّة النهائية، وتاريخ عرضه على مجلس النواب، كما لم يتمّ تشريك منظمات المجتمع المدني في دراسة المشروع وشرح أسبابه وتفاصيله.

سنة 2018، صادق مجلس الوزراء برئاسة يوسف الشاهد على مشروع قانون يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، دون نشر المشروع ولا توضيح ما إذا كانت النسخة المصادق عليها تتطابق مع النسخة المسرّبة في سنة 2015. كما رفضت مطلب النفاذ إلى المعلومة الذي تقدّمت به منظمة اكساس ناو (access now)، بتعلّة أنّ النسخة المصادق عليها ليست نهائيّة، في انتظار تطبيق توصيات مجلس الوزراء بخصوص بعض النقاط الفنّية.

أمّا الجزء المتعلّق بمكافحة الأخبار الزائفة والاشاعات، فليس هو الآخر جديدا. حيث قام النائب مبروك كورشيد سنة 2020  بمبادرة تشريعية بهدفأخلقة الحياة السياسيّة والاجتماعية أمضاها 46 نائبا من مختلف الكتل النيابية. قوبلت المبادرة حينها بالرفض الشديد من قبل الفاعلين المدنيين معتبرين إياها تكميما للأفواه وإخراسا للأصوات الحرّة في البلاد. أمام ضغط الرأي العامّ وسحب النوّاب واحدا تلو الآخر امضاءاتهم، اضطرّ مبروك كورشيد لسحب مبادرته واعتُبر ذلك “نصرا” للقوى الحيّة في تونس المتمسكة بمكاسب ثورة الكرامة والحرية وعلى رأسها حرية التعبير.

يعكس تَعاقُب نسخ قانون مكافحة جرائم الاتصال حقيقتين: الأولى أنّ هذا النصّ لم يخضع بتاتا الى نقاش مجتمعيّ معمّق، فكلّما أُريد تمريره التجأت السلطة إلى المواربة والتعتيم. من جهة أخرى، يتأكّد مجدّدا أنّ سلطة المراسيم القائمة من 25 جويلية 2021 ماضية في تمرير أكثر النصوص خطورة على الحقوق والحريّات، والتي فشلت السلطة في تمريرها في سياق ديمقراطي، بقطع النظر عن كلّ أمراضه.

من حيث الفحوى، يكاد المرسوم 54 يتطابق مع مشروع القانون المتعلق بأنظمة الاتصال والذي أعدّته حكومة حبيب الصيد سنة 2015. حافظ المرسوم على جلّ الجرائم المكرّسة بمشروع القانون حيث حمل نفس التقسيم والتبويب والفصول، وهي بدورها تطبيق وفيّ نسبيّا للوصفة الدوليّة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، باستثناء بصمة سعيّد، وهي مكافحة الأخبار الزائفة.

مكافحة الأخبار الزائفة: سيف ديموقليس على رقاب المعارضين

 في المقابل، مثّلت إضافة قسم فرعيّ متعلّق بالإشاعة والأخبار الزائفة بصمة واضحة للعقل التشريعي الحالي. إذ لم يتضمّن المشروع السابق تجريم الإشاعات والأخبار الزائفة كما لا نجد أثرًا لذلك في اتفاقية بودابست المذكورة ولا حتى في الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات والتي انضمّت إليها تونس في سنة 2010. يعدّ هذا القسم الفرعيّ من أخطر ما ورد بالمرسوم، حيث زجّ بأحكام وجرائم واردة في قوانين أخرى، وخاصة في المجلة الجزائية ومرسوم الصحافة ومجلة الاتصالات. ممّا يؤسس لتعسّف في تأويله وتنفيذ أحكامه خاصّة في ظلّ تقاليد السلط العمومية في التوجّه نحو ضرب حقوق الإنسان بتعلّة تطبيق القانون. من جهة أخرى، تضمّن هذا القسم عبارات غامضة على غرار “أخبار” أو “بيانات” أو “إشاعات كاذبة” وهو ما من شأنه فتح باب التأويل على مصراعيه من جهة، ويمهّد الطريق لتكميم أفواه الصحفيين والنشطاء من جهة أخرى.

عمليّا، تمثّل هذه الاضافة ضربا حقيقيا لحريّة التعبير، المكسب الأبرز للثورة التونسية، حيث يمثّل هذا التجريم سيف دموقليس مسلّطاً على رقاب كلّ الأصوات المعارضة للسلطة الحالية. لم يكن سعيّد مضطرا للزجّ بهذه الجريمة في مرسوم متعلّق بجرائم الاتصال، خاصّة في ظلّ وجود ترسانة قانونية تجرّم الاعتداء على الأشخاص عبر الوسائل الالكترونية. جاءت هذه الإضافة أسوة بالدكتاتوريات العربية “العريقة” التي ما فتئت مؤخرا تشرّع لقمع المعارضين باسم مكافحة الجرائم السيبرانية.

أمّا الحجّة القائلة بالحاجة إلى تشريع يجابه ظاهرة القذف الإلكتروني والأخبار الزائفة، فهي مردودة على أصحابها. إذ يجرّم المرسوم 115 المتعلّق بحريّة الصحافة والطباعة والنشر في فصوله 54 وما بعده جرائم نشر الأخبار الزائفة والاعتداء بالثلب والشتم العلنيين. ولئن كان المرسوم يقتصر نظريّا في مجال انطباقه على الصحفيّين، فإنّ المجلّة الجزائية تجرّم هي الأخرى في الفصل 128 “كل من ينسب لموظف عمومي أو شبهه بخطب لدى العموم أو عن طريق الصحافة أو غير ذلك من وسائل الإشهار أمورا غير قانونية”، مع عقوبة تصل إلى السجن لمدة عامين. علاوة على ذلك، لا تتوانى السلطات عن تتبع كلّ من يقوم بالقذف العلني أو ادعاء أمور لدى العموم فيه هتك شرف أو اعتبار شخص أو هيئة رسمية على معنى الفصل 245 من المجلة الجزائية. كما أنّ عدد القضايا التي يلاحق فيها الأفراد تحت طائلة الفصل 86 من مجلّة الاتصالات يكاد لا يحصى ولا يعّد. وهو الذي يجرّم الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحتهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات، والذي استعملته السلطة لهرسلة بعض النشطاء.

دون أن ننسى الجريمة الواردة في الفصل 67 من نفس المجلة، والذي يعاقب بالسجن مدّة ثلاثة أعوام كل من يرتكب أمرا موحشا ضد رئيس الدولة، والتي تكرّر استعمالها منذ 25 جويلية 2021 لملاحقة أصوات العارضة خاصّة بالجهات. هذه الترسانة في حاجة إلى مراجعة تلغي ما يمسّ من حرّية التعبير، وليس إضافة أحكام جذريّة جديدة تتجاوز في قساوتها التشريعات الموروثة من الحقبة الدكتاتورية.

وصفة دولية بضمانات تُطوَّع حسب السياقات الوطنية

ابّان مصادقة مجلس الوزراء في جوان الماضي على مشروع مرسوم مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة الاتصال، برّرت وزارة تكنولوجيات الاتصال ذلك بتعزيز ترقيم تونس دوليا في مجال الأمن السيبرني، تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب وتمكين تونس من الانضمام لاتفاقية مجلس أوروبا المتعلقة بالجريمة الإلكترونية (اتفاقية بودابست)، لمكافحة الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود.

اتفاقية بودابست هي أول معاهدة دولية تسعى إلى معالجة جرائم الإنترنت من خلال تنسيق القوانين الوطنية، وتحسين أساليب التحقيق، وزيادة التعاون بين الدول. وقد أعدّها مجلس أوروبا سنة 2001 ودخلت حيز النفاذ في جويلية 2004. إلى اليوم، انضمّت إليها 66 دولة في حين رفضت بلدان مثل البرازيل والهند اعتماد الاتفاقية على أساس أنها لم تشارك في صياغتها وعارضتها روسيا، التي كانت حينها عضوًا في مجلس أوروبا، معتبرة أنّها تنتهك سيادتها.

في 1 مارس 2006، دخل البروتوكول الإضافي لاتفاقية الجريمة الإلكترونية حيز النفاذ. ويُطلب من الدول التي صادقت على البروتوكول المذكور تجريم نشر المواد العنصرية وكراهية الأجانب من خلال أنظمة الكمبيوتر، فضلاً عن التهديدات والشتائم التي تحركها العنصرية. مع العلم أنّه لدى صياغة الاتفاقية سنة 2001 رفضت العديد من البلدان تجريم هذا السلوك آخذة بعين الاعتبار امكانية إدراجه في خانة الاعتداء على حرية التعبير.

تمثّل هذه الاتفاقية على غرار عديد الصكوك، وصفة تتبنّاها الدول الأطراف وتطوّعها حسب سياقاتها المختلفة لمكافحة الجرائم الإلكترونية. وتفرض الاتفاقيّة ضمانات عامّة، من قبيل متطلّبات إنفاذ القانون وحماية حقوق الإنسان كما تنصّ عليها المواثيق الدوليّة. إضافة إلى ضرورة وجود إشراف من القضاء أو من هيئة مستقلّة على الإجراءات الواجب اتخاذها لمكافحة الجريمة السيبرانية، واحترام مبدأ التناسب بين الاجراء والجريمة، الخ.

إلاّ أنّ المرسوم 54 لم يكن وفيّا بما يكفي للضمانات الدوليّة. إذ اكتفى بالإحالة على الضمانات الدستورية والمعاهدات الدولية والإقليمية والثنائية ذات العلاقة ومقتضيات التشريع الوطني في مجالي حقوق الإنسان والحريات وحماية المعطيات الشخصية، من دون ترجمتها بإجراءات وضوابط ملموسة. ولعلّ الغائب الأبرز في هذا المرسوم هو مبدأ التناسب بين الفعل الإجرامي والإجراءات التي يمكن اتخاذها، خاصّة في ظلّ سلطة واسعة جدا معهودة لمأموري الضابطة العدلية في تجميع الأدلّة المتعلقة بالجرائم. فقد مكّنهم المرسوم من أن يأمروا “بالجمع أو التسجيل الفوريّ لبيانات حركة اتصالات باستعمال الوسائل الفنية المناسبة”، وأيضا من “النفاذ مباشرة أو بالاستعانة بمن يرونه من أهل الخبرة إلى أي نظام أو حامل معلوماتي وإجراء تفتيش فيه قصد الحصول على البيانات المخزنة التي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة”.

ولئن أعهد سعيّد الإشراف على اجراءات مكافحة الجرائم الالكترونية للقضاء، فإنّه أغفل تحديد نطاق بعض الإجراءات ومدّتها. المثال الأبرز هو صلاحيّة اللجوء إلى اعتراض اتصالات ذوي الشبهة بمقتضى قرار كتابي معلّل من وكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق مباشرة، أو بناء على تقرير معلّل من مأموري الضابطة العدلية. فقد جاء هذا الإجراء، الذي يشمل اعتراض الاتصالات، الحصول على بيانات المرور والتنصت أو الاطلاع على محتوى الاتصالات وكذلك نسخها أو تسجيلها، من دون أيّ ضمانة لعدم استمراره. ولئن كان هذا الإجراء معمولا به دوليّا لجمع الأدلّة، الاّ أنّه يبقى تدبيرا ينتهك بشدّة الحياة الخاصة. ممّا يقتضي توفير ضمانات صارمة لضمان توازن مناسب بين مصالح العدالة والحقوق الأساسيّة للفرد، ولعلّ أهمّها تحديد مدّة الاعتراض لحماية الحياة الخاصّة للأفراد.

لكنّ سعيّد أطلق العنان لهذا الإجراء الخطير من دون أي ضمانة. إذ لم ينصّ الفصل 18 على أيّ مدّة قصوى للاعتراض، وهو ما من شأنه فرض رقابة مطلقة على المواطنين من دون حسيب أو رقيب، وانتهاك حقوقهم الدستورية في الحياة الخاصّة وسريّة المراسلات. لا يتعلّق الأمر بمجرّد سهو، فقد كان المشروع الأصلي يتضمّن تحديد مدّة قصوى مقدّرة بثلاثة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة. كما يحدّد قانون مكافحة الإرهاب، على الرغم من خطورة الجرائم المضمّنة فيه، في فصله 54 مدّة قصوى لاعتراض البيانات لا تتجاوز أربعة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة مع ضرورة تعليل قرار التجديد. وقد حاولت وزارة الداخلية عند مناقشة تنقيحات لقانون الإرهاب في 2019 حذف هذه الضمانة، لكنّ ضغط المجتمع المدني وتفاعل الكتل النيابيّة معه أدّى إلى عدم تمرير ذلك. حذف هذه الضمانة اليوم يؤشر إلى تقنين الرقابة المطلقة على المواطنين أكثر من أيّ وقت مضى، عبر سلطة المراسيم الرئاسيّة.

كلّ ما سبق يدعمّ مخاوف المجتمع المدني التونسي من تحوّل مرسوم جرائم الاتصال إلى مرسوم تجريم المعارضين. ليس فقط بالنظر إلى السياق السياسيّ في تونس، وإنّما أيضا في ظلّ الموجة العالمية للتضييق على النشطاء تحت راية مكافحة الجريمة الإلكترونية. فقد أعربت الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2019 عن قلق شديد من أن قوانين الجرائم الإلكترونية “يُساء استخدامها في بعض الحالات لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان أو أنها تعوق عملهم وتعرض سلامتهم للخطر على نحو مناف للقانون الدولي”.

مكافحة الجرائم الإلكترونية: مطيّة كلّ الدكتاتوريات

أثار المرسوم 54 انتقادات كبيرة من منظّمات المجتمع المدني، التي دعت رئيس الجمهورية إلى سحبه، معتبرة أنّه “يهدّد جوهر حريّة التعبير والصحافة في ظرف سياسيّ دقيق تمرّ به البلاد قبيل بضعة أسابيع من انطلاق الفترة الانتخابية للانتخابات التشريعية”. وقد حذّرت المنظمات من “خطورة هذا المرسوم على الحقوق والحريات الرقمية. حيث تضمن قيودا غير مسبوقة من شأن تطبيقها أن يؤدي إلى ترهيب الصحفيين/ات وعموم المواطنين/ات من التعبير عن آرائهم خاصة تجاه أعوان الدولة والمسؤولين السياسيين”. تخوّفات مشروعة جدّا خاصة إذا ما استحضرنا أمثلة مقارنة استُخدمت فيها قوانين الجرائم الإلكترونية لقمع كلّ صوت حرّ على غرار الصحفية الفلبينية البارزة ماريا ريسا بتهمةالتشهير عبر الإنترنت عام 2020، والحقوقي الإماراتي المعروف أحمد منصور حكما بالسجن عشر سنوات بتهمة ارتكاب جرائم إلكترونية وجرائم غامضة أخرى تتعلق بعمله الحقوقي. وأيضا تجريم الفنانين على غرار القضاء بسنة سجن على مغني المهرجانات حمّو بيكا وعمر كمال بتهمة انتهاك القيم الأسرية الواردة بالمادة 25 من القانون المصري عدد 175 لسنة 2018 المتعلّق بمكافحة جرائم تقنية المعلومات.

في الواقع، عملت دول في المنطقة العربية مؤخّرا على سنّ تشريعات تحدّ من الجرائم الإلكترونية. وقد صُمّمت هذه القوانين للتضييق على الحريّات وقمع أصوات المعارضين تحت عناوين غير واضحة. فأي محتوى رقمي يمكّن من توجيه الاتهام بأنه يؤدي إلى قلب أو تغيير نظام الحكم أو التشجيع عليه؟ وهو ما جرّمته سوريا بمقتضى القانون عدد 20 لسنة 2022، وصنّفته تحت خانة الجرائم المسلطة على الدستور والنيل من هيبة الدولة. لم تشذّ مصر عن هذه القاعدة، حيث شدّد المشرّع العقوبة لارتكاب جرائم غير دقيقة على غرار الفصل 34 والذي يعاقب بالسجن المشدّد إذا كان الغرض من ارتكاب الجريمة “الإخلال بالنظام العام”، أو “تعريض سلامة وأمن المجتمع للخطر”، أو “الإضرار بالأمن القومي للبلاد أو بمركزها الاقتصادي” أو “تعطيل أحكام الدستور والقانون”. وهي جرائم فضفاضة يمكن أن تشمل عددا هائلا من السلوكيات. كذلك الأمر بالنسبة لليبيا، الإمارات والمغرب.

مرسوم تكميم الأفواه: المخاطر الكبرى

في الواقع، ينطوي المشروع على مخاطر عديدة لعلّ أهمّها غياب فلسفة عقابيّة واضحة وانتهاج “سياسة” عقابية اعتباطية. فنجده تارة يعاقب على أفعال متوازية من حيث الخطورة بعقوبات مختلفة ويساوي طورا بين أفعال مختلفة جدا من حيث خطورتها بنفس العقاب. ونسوق على سبيل المثال، تسليط عقوبة خمسة أعوام وخطية قدرها خمسون ألف دينار ضدّ كل من يتعمد إنتاج وثائق مزورة، مثلا، وبين من يكتفي بنشرها من دون إبراز الحكمة التشريعية من وراء ذلك ومن دون أدنى احترام لشرط الضرورة ومبدأ التناسب الذي كرّسه دستور سعيّد في الفصل 55 منه.

من جهة أخرى، تعدّ أبرز عيوب المرسوم 54 أنه قانون متداخل مع أحكام وجرائم واردة في قوانين أخرى. مما يزيد من حالة الغموض والتشابك، وأحياناً التعارض في بنية التشريعات التونسيّة وتعقيد التطبيق وخاصّة التوجه نحو ضرب التعهدات الدولية لحقوق الانسان عند التنفيذ. بحيث ينطبق على السلوك الجرمي الواحد أكثر من قانون مختلف من ناحية العقوبة والخطايا المفروضة. كان من الأحرى الاكتفاء بأنظمة الاتصال ومكافحة الجرائم الإلكترونية، وحصرها في قائمة الجرائم الواقعة على أنظمة الاتصال والمعلومات والاختراق الإلكتروني أو الإضرار بالأنظمة المعلوماتية والاعتداء على البيانات والمعلومات الشخصية والتحيل والتدليس المعلوماتي والتي تنصّ عليها المعاهدات الدوليّة من دون “اجتهاد” هدفه الحقيقيّ، التضييق.

إضافة الى ذلك، يتعارض المرسوم مع المعايير الدولية المتّصلة بالحقّ في حريّة التعبير، كما أشارت له المنظمات الوطنية في بيان لها. حيث اعتبرت أنّه ولئن كان من المشروع وضع ضوابط على الحقوق لحماية مصالح مشروعة مثل كرامة الأفراد أو الأمن الوطني، إلا أن ذلك لا يكون عبر تجريم عدة أفعال بصورة غامضة وغير دقيقة. الأمر الذي يؤول إلى إطلاق عنان السلطة التقديرية للأجهزة الأمنية والقضائية لملاحقة الصحفيين/ات والمدونين/ات والناشطين/ات في المجتمع المدني والسياسيين/ات وعموم المواطنين/ات”.

عطفا على ما سبق، يعزّز المرسوم قدرة الدولة في الوصول إلى المعطيات الشخصية للمواطنين والمواطنات من خلال المراقبة عبر الوسائل التكنولوجية. وهو ما يمثّل ضربا لحقّ الأفراد في الخصوصية فى ظلّ التقدم التكنولوجي. وذلك باعتبار أنّ الحقوق التي تثبّت للأفراد خارج نطاق الإنترنت يجب أن تكون محمية، بما فيها الحقّ في الخصوصية وهو ما يفتقر إليه المرسوم الذي جاء مرجّحا لكفّة الرقابة والعقاب على حساب حماية بياناتهم وحقوقهم الأساسية.

خاتمة

رغم اقتراب موعد الانتخابات التشريعية وإفراز مجلس تشريعي يتداول في مسألة هامّة على غرار قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية تحت أعين الرأي العام، أبى سعيّد الانتظار رغم عدم استعجالية المسألة. أو لعلّ الانتخابات وتحصين الموالين له من النقد وحريّة الصحافة والتعبير وتفاقم دواعي النقد في ظلّ حصيلة كارثية، هي ما دعته لتمرير مرسوم، يثير مخاوف وتوجّسا من مستقبل حريّة التعبير في تونس.

في الجهة المقابلة، تجدر الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من أنّ مشروع المرسوم كان على طاولة الحكومة منذ شهر جوان 2022 ولم تكن هذه المعلومات خافية على المتابعين والمتابعات، يواصل المجتمع المدني إظهار اندهاشه من صدور مرسوم يضيّق على حرياته دون أي محاولة استباقيّة لردعه وتنظيم حملات فعّالة ضدّه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، تشريعات وقوانين ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، مقالات ، تونس ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني