حين يلسع المجتمع من الجحر نفسه 3 مرات: إعادة قانون السريّة المصرفيّة تعري سوء النية في التشريع


2022-09-03    |   

حين يلسع المجتمع من الجحر نفسه 3 مرات: إعادة قانون السريّة المصرفيّة تعري سوء النية في التشريع

أعاد رئيس الجمهورية ميشال عون بتاريخ 31 آب 2022 مشروع القانون المتّصل بالسرّية المصرفيّة إلى المجلس النيابيّ داعيا إيّاه لإعادة النظر في عددٍ من موادّه. وكان هذا الأخير أقرّ المشروع المذكور في جلسته التشريعية في 26 تموز 2022 في مناقشات شابها الكثير من الضجيج وعكستْ حضور لوبيات نيابية لتفخيخه، وفق ما عبّر عنه نوابٌ عدّة ونقله المرصد البرلمانيّ للمفكرة القانونية. فضلًا عن ذلك، فإنّ وضع النسخة النهائية للمشروع استغرق أياما عدة، ولم تبلّغ رئاسة الجمهورية إلا بعد زهاء أسبوع (2 أيلول 2022). وقد أسند رئيس الجمهورية مرسوم إعادة المشروع ب “متطلبات التعافي” من الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان. فعدا أنّ هذه المتطلبات تفرض التأكيد على صلاحية النيابات العامة في طلب رفع السرية المصرفية في سياق الاستقصاء عن الجرائم المالية على اختلافها، فإنها تفرض أيضا منح الصلاحية نفسها لهيئات إدارية معنية وتحديدا ضمان الودائع ولجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان، “طالما أن مسببات الأزمة … لا تنحصر بالجرائم المالية بل تشمل مخالفات متعددة ومتمادية للأحكام القانونية والإدارية والمذكرات والتعاميم”. ولم يكتفِ مرسوم الإعادة بإعلان المراجع التي يجدر منحها صلاحية رفع السرية، بل عزّز من هذه المرجعية من خلال التأكيد على وجوب تمكينها من طلب المعلومات مباشرة من المصارف من دون المرور بأيّ مرجع إداريّ أو قضائيّ. وقد جاءت هذه الملاحظة ردّا على توجّه المشروع إلى فرض “هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان” (التي يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه) كمعبرٍ ضروريّ لهذه الطلبات، كل ذلك مواربة ومخادعة، مع ما قد يتسبب ذلك من مماطلة وتعطيل للقانون. فضلا عن ذلك، أكّد الرئيس على ضرورة بدء تطبيق أحكام القانون بصورة رجعية ولفترة تغطي على الأقل المدى الزمني المسبب للأزمة.

وقبل إبداء الملاحظات على مرسوم الإعادة ومدى سدادته وما يكشفه أو يرشح عنه، لا بدّ بدايةً من لفت النظر إلى أمور أربعة والتذكير بها:

الأول، أن مرسوم الإعادة جاء تبعًا لتلقّي الرئاسة اعتراضات مدنيّة عدة وملاحظات من صندوق النقد الدولي بشأن ثغرات المشروع الذي تمّ إقراره. وهي ملاحظات شدّدت على أهمية الاعتراف بمرجعيّة النيابات العامة والإدارات الضريبية والمصرفية في رفع السرية المصرفيّة، ويستشفّ منها بوضوح أن مشروع القانون في الصيغة التي أقرّ فيها لا يتلاءم مع شروط الصندوق أو رؤيته لتعافي لبنان من الأزمة أو للإصلاح المالي والاقتصادي،

والثاني، بنتيجة إعادة هذا المشروع، يكون لبنان ما زال متخلفًا عن تحقيق أيّ من الشروط التشريعية الأربعة لصندوق النقد الدولي، والتي كان التزم بها في الاتفاق المبدئي معه قبل انتخابات أيار 2022. فقبل إعادة مشروع القانون هذا بيومٍ واحد، أرجأتْ اللجان المُشتركة للمرة الثالثة مناقشة مشروع قانون الكابيتال كونترول للأسباب نفسها (غياب الخطة الإصلاحية وعدم جواز إقراره من دون قانون إعادة هيكلة المصارف). أما مشروع قانون موازنة 2022 فما يزال عالقا أمام لجنة المال والموازنة منذ بداية السنة. أما الشرط الرابع (إصدار قانون لإعادة هيكلة المصارف) فهو ما يزال ينتظر الانتهاء من صياغة مشروع قانون وسط تجاذباتٍ عدة وممانعةٍ واسعة من المصارف على تحمّل عبء الخسائر بصورة تتلاءم مع مسؤولياته،

والثالث، أن هذه الإعادة ليست الأولى من نوعها، حيث كان رئيس الجمهورية أعاد من قبل اقتراح قانون يتّصل هو الآخر بالسرية المصرفية في حزيران 2020، على خلفية تفريغه من محتواه بفعل تجريد النيابات العامة من صلاحية رفع السرية المصرفية. وقد انتهى درس مرسوم الإعادة الأول إلى إدخال تعديل طفيف على موادّ الاقتراح من قبل لجنة المال والموازنة بعد سنة و4 أشهر (تشرين الأول 2021) من ورود الردّ، ليتمّ دمجه والتصويت عليه لاحقًا بعد دمجه بمشروع القانون الوارد من الحكومة بعد سنتين وشهر من وروده في جلسة تموز 2022.

والرابع، أن السرية المصرفية طالما شكّلت ما يشبه البئر العميق التي تتوارى في عمقها جرائم الفساد والإثراء غير المشروع الحاصلة خلال عقود ما بعد الحرب. ولهذا السبب، فإنّ المسّ بها ما يزال يشهد ممانعة قويّة من العديد من النواب والكتل النيابية ولو بشكلٍ مستتر لا يخلو من الخبث وسوء النيّة. وأعيد وأكرّر هنا أن رفع السريّة المصرفيّة إنما بات يوازي من حيث رمزيّته الكشف عن المقابر الجماعيّة التي ما تزال تخفي جرائم حرب ال 15 سنة وهو الأمر الذي نجحت القوى السياسية المتورطة في الحرب حتى اليوم في منع حصوله. وما التأخير الحاصل في إنجاز التدقيق الجنائي على حسابات مصرف لبنان إلا دليلٌ آخر على حساسية هذه الأسرار وما تخفيه.

سدادة الحجج لإعادة مشروع القانون؟

بمراجعة أسباب الإعادة، من البيّن أن أهمّها هو التأكيد على مرجعية النيابات العامة والقضاء في طلب الحصول على معلومات مصرفية من المصارف. وقد دعا مرسوم الإعادة هنا إلى ضمان مسألتين:

أولا، التأكيد على إمكانية طلب المعلومات المصرفية من النيابات العامة في معرض استقصائها عن الجرائم. وهذا ما نقرأه بوضوح في مرسوم الإعادة حيث جاء أنّ “ثمة ضرورة بأن يتمّ تمكين النيابة العامة من الوصول إلى المعلومات التي تسمح لها بتكوين الملفّ قبل إحالته إلى قضاء التحقيق، طالما أن المحاكمات الجزائية تبدأ بالادعاء العامّ”. وقد جاء الردّ هنا اعتراضا على حصر الصلاحية القضائية ب “دعاوى التحقيق” مما يضيّق من دائرة المراجع القضائية المخولة طلب معلومات مصرفية وصلاحياتها.

ثانيا، التأكيد على مرجعية القضاء في طلب المعلومات المصرفية من دون الحاجة للمرور بأيّ مرجع قضائي أو إداري آخر. وقد جاء هذا الردّ اعتراضا على انتهاء مشروع القانون بصورة مواربة ومخادعة تماما إلى فرض هيئة التحقيق الخاصة كمعبر ضروري في الكثير من الحالات كما سبق بيانه. وقد تحقق ذلك بشكل خاص من خلال ربط صلاحية القضاء في طلب المعلومات المصرفية في قضايا الإثراء غير المشروع بالإجراءات المحددة في قانون الإثراء غير المشروع ومنها أن أصول الاستقصاء تتم وفق الأصول المحددة في قانون مكافحة الفساد في القطاع العام، والتي تفرض توجيه طلبات المعلومات المصرفية إلى المصارف من خلال هيئة التحقيق الخاصة. وبذلك، كان مشروع القانون يعلن مرجعية القضاء في المطالبة بالمعلومات المصرفية ليحيل إلى قوانين تخضع هذه المرجعية لمرجعية هيئة تحتكر رفع السرية المصرفية منذ 2015. وقد أبدى مرسوم الردّ تبرّمه من هذه الحيل من خلال تأكيده على ضرورة “صوغ نصوص القانون بصورة واضحة تأمينا لتطبيقه بصورة سليمة وتلقائية، وذلك من خلال تمكين هذه المراجع صلاحية طلب المعلومات إلى المصارف مباشرة ومن دون المرور بأي مرجع قضائي أو إداري”.

ويلتقي بالواقع مرسوم الإعادة في هذا السياق مع ما كانت المفكرة طالبت به لجهة توسيع السلطة القضائية المختصة لتشمل سلطة الاستقصاء والحكم، من دون أن يكون على أيّ منها أن تمرّ بهيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها سلامة نفسه. وهذا أيضا ما ذهب إليه صندوق النقد الدولي الذي أكّد على أهمية تضمين القانون بندًا صريحًا يخوّل صراحة السلطات القضائية المختصة (نيابات عامة وقضاة تحقيق) طلب المعلومات المصرفية مباشرة. وقد اعتبر الصندوق أن إضافة نصّ صريح في هذا الشأن يشكل ضمانة أساسية لتطبيق القانون فعليا.   

ويعكس التشديد على أهمية ممارسة الصلاحية القضائية مباشرة تخوفا من ممارسات تشريعية وواقعية سابقة اتجهت نحو فرض هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان كمعبر ضروريّ لمراسلة المصارف بكلّ ما يتّصل برفع السرية المصرفية. وقد انتهت هذه الممارسات عمليا إلى حماية السرية المصرفية وتقويض محاولات رفعها أو بأحسن الأحوال إلى تأخير قبول الطلبات لأشهر طويلة، كما حصل في قضية الشقيقين رياض ورجا سلامة.

فضلا عن ذلك، نص مرسوم الإعادة على ضرورة منح الصلاحية نفسها للهيئات المصرفية المعينة (لجنة الرقابة على المصارف، مصرف لبنان، المؤسسة الوطنية لضمان الودائع) طالما أن الأزمة لم تنشأ فقط عن الجرائم المالية إنما أيضا عن مخالفات مصرفية متعددة ومزمنة. وكانت النقاشات النيابية استبعدتْ هذا المطلب بحجّة أنه من الأجدى تحديد صلاحيّة هذه المراجع عند مناقشة مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف. وقد جاء مرسوم الإعادة هنا أيضا موافقا مع الرأي القانونيّ لصندوق النقد الدوليّ.

أخيرًا، وفي استعادةٍ للنقاشات التي دارت بشأن المفعول الرجعي للقانون، نصّ مرسوم الإعادة على وجوب الرجوع بتاريخ بدء تطبيق أحكام القانون إلى فترة تغطّي على الأقلّ المدى الزمني المسبّب للأزمة. وقد ذهب المرسوم أبعد من ذلك في ما يتّصل بالعاملين في الشأن العام، حيث أكّد على وجوب الرجوع في تطبيق القانون ليشمل فترة ممارسة مهامّهم من بدايتها إلى ما بعد تاريخ استقالتهم أو انتهاء خدماتهم أو إحالتهم إلى التقاعد. وتجدر الإشارة إلى أن اعتراض الرئيس بدا هنا، وبخلاف اعتراضاته السابقة، مبنيًا على تشخيص خاطئ أو توجّس مبالغ به، مفاده أن القانون لا يطبق على الحسابات القديمة إلا في حال نص صراحة على ذلك. فتطبيق مبدأ عدم رجعية القوانين ينحصر في الحالات التي تنشئ جرائم جديدة أو تشدّد عقوبات على جرائم سابقة، في حين أنّ القانون الآيل إلى إلغاء جرم أو تضييق حالاته (جرم إفشاء السرية) أو المتصل بوسائل الإثبات أو الاطلاع على مستندات، ينطبق فور صدوره وبصورة رجعية ومن دون الحاجة لذكر ذلك صراحة. فمثلا، إذا نص قانون جديد على أصول لتفتيش المنازل من دون ورود نص صريح على رجعيته، لا يتخيّل أنه يطبّق فقط على تفتيش المنازل التي يتم تشييدها بعد صدوره بل يطبق فور نفاذه على جميع المنازل بمعزل عن تاريخ إنشائها ويكون أي قول معاكس مجرّد عبث. وهذا تحديدًا ما ذهب إليه الرأي القانوني الصادر عن صندوق النقد الدولي الذي ذكر أن القانون يكون من حيث المبدأ قابلا للتطبيق على الحسابات والقيود السابقة أبضا طالما أنه لا يرتب أي التزامات عن الماضي، حتى ولو لم يتضمن نصّ صريح بهذا الشأن.

والواقع أن هذا التوجّس المفرط يجد منشأه في محاولة محاميّ جمعية المصارف في تمرير مادة تنص على عدم رجعية القانون. فشل هؤلاء في تمرير المادة لكن نجحوا بالمقابل في خلق بلبلة وهاجس في هذا الشأن وجد صداه في أكثر من وثيقة، منها مرسوم الردّ والرأي القانوني لصندوق النقد الدولي.  

تعرية سوء نية العمل التشريعي

شكل مرسوم الرد ووثيقة صندوق النقد الدولي وثيقتين بالغتي الأهمية لتعرية سوء نية العمل التشريعي. ومن يتابع الخطاب التشريعي حول السرية المصرفية، يدرك أهمية هذه التعرية. فالممانعة النيابية إزاء إحراز أيّ تقدّم حقيقي في هذا المجال لا تتمّ جهاراً أو بصورة فاقعة (كما كانت تحصل سابقا في ظل عقيدة برلمانية قوامها أن أي مس بالسرية المصرفية هي مؤامرة خارجية تستهدف ازدهار لبنان)، إنما تأخذ طابعاً منظّماً مخططاً له وتأتي مخادعة ومواربة. كأن يعلن النواب التزامهم برفع السرية المصرفية، ليجهدوا بالمقابل في صياغة نصوص مخادعة تظهر توجّها لرفعها في حين أنها تنتهي في حقيقة الأمر إلى تكريسها. فكأنما الخدعة باتت الطريقة الوحيدة لحماية السرية المصرفية بعدما فقد الدفاع عنها حججه ومقوّماته، وبخاصّة أمام تشبّث صندوق النقد الدولي في اعتبار رفعها جزءا لا يتجزأ من أي برنامج إصلاحي جدّي وموثوق. وما يؤكّد أن الممانعة منظمة ومخطط لها هو أنّ هذه المُمانعة تنتهي دوماً إلى تجريد الإصلاح من مضمونه، مستخدمةً حيلًا متشابهة قوامها حصر رفع السريّة المصرفيّة بهيئة يترأّسها حاكم مصرف لبنان وهي الهيئة التي أدّتْ في أغلب الحالات ومنذ 2015 دور الحارس الأمين عليها. وإذ بإمكاننا تحديد أصحاب المصلحة (جمعية المصارف والمتورطون معها ومن خلالها في نهب الودائع) والنواب المشاركين معهم في ابتداع هذه الحيل وتكرارها، لا نعرف بالمقابل بالضبط ما هي الجهة أو الجهات التي يراد خداعها: هل هو صندوق النقد الدولي وصولا لإبرام اتفاق معه من دون الالتزام بإصلاحات حقيقية؟ أم رئاسة الجمهورية التي يُراد إعطاؤها مبررات تثنيها عن إعادة القانون؟ أم هو الرأي العام الذي يراد إيهامُه أن القوى السياسية الحاكمة تجهد لإنجاز الإصلاحات المطلوبة دولياً وشعبياً بما يقربها من توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي ومكافحة الفساد؟

وإثباتا لما تقدّم، سنستعرض هنا ثلاث محطات رئيسية شهدنا فيها تعبيرات عن هذه الممانعة دائما من خلال أساليب المواربة والخداع.  

المحطة الأولى: إقرار اقتراح رفع السرية المصرفية مجردا من مضمونه

تمثلتْ هذه المحطّة الأولى في الجلسة التشريعية المؤرّخة في 28  أيّار 2020. فما أن بدأت مناقشة هذا الاقتراح حتى علتْ أصوات من داخل كتل المستقبل واللقاء الديمقراطي والتنمية والتحرير تطالب بنزع صلاحية رفع السرّية المصرفية من يد القضاء تحت ذريعة الخوف من الممارسات الكيدية والانتقاميّة وضرورة إقرار قانون استقلالية القضاء قبل منح القضاء أي صلاحيات إضافية. وعليه، طالب هؤلاء بإبقاء هذه الصلاحية محصورة بيد هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان مع انفتاحهم على إضافة مرجع ثان هو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وكان أبرز المدافعين عن ضرورة تجريد القضاء من هذه الصلاحية، النائب وائل أبو فاعور الذي استرسل في شرح الممارسات الكيدية للقضاء، ليلاقيه في مطلبه النائبان السابقان أنور الخليل وهادي حبيش ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي والذي صرّح أنّ في لبنان قضاة لا قضاء، كل ذلك بهدف تجريد القضاء من صلاحية رفع السرية المصرفية. ورغم اعتراض نوّاب آخرين، أبرزهم النائب حسن فضل الله الذي اعتبر أنّه في حال نزع هذه الصلاحية من القضاء نصبح أمام قانون مفرّغ من مضمونه، انتهى المجلس النيابي إلى نزع هذه الصلاحية. وبنتيجة ذلك، تمّ عمليّا إبقاء احتكار هيئة التحقيق الخاصّة لصلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة قائمًا. وهذا ما يتحصل من واقعة أن هيئة مكافحة الفساد لم يكن تمّ إنشاؤها آنذاك وأن أي مطلب منها برفع السرية المصرفية في إطار استقصاءاتها يقدّم أصلا إلى هيئة التحقيق الخاصة التي هي تتولّى مطالبة المصارف برفعها وفق قانون إنشائها ووفق ما سبق بيانه.

المحطة الثانية: لجنة المال والموازنة تماطل لتلتفّ حول ملاحظات رئاسة الجمهورية

لم تنجح ممانعة النواب في تمرير اقتراح القانون المفرغ من مضمونه، بعدما مارس رئيس الجمهورية ميشال عون في تاريخ 19 حزيران 2020 صلاحية إعادته إلى مجلس النواب معلّلا ذلك بضرورة منح النيابات العامة صلاحيّة رفع السرّية المصرفية لكونها صاحبة الاختصاص في ملاحقة كافة الجرائم. بعد وصول هذه الملاحظات إلى المجلس النيابي، برزتْ ممانعة جديدة حيال الأخذ بها. هذه الممانعة تمثّلت أولا في التباطؤ الشديد للجنة المال والموازنة في النظر في ملاحظات رئيس الجمهورية. وفي حين لم تنهِ هذه اللجنة درس الملاحظات إلا بعد سنة وأربعة أشهر من ورودها (تشرين الأول 2021)، فإن الأسوأ تمثّل في الصياغات التي انتهتْ إليها ومؤدّاها هنا أيضا ضمان احتكار هيئة التحقيق الخاصة صلاحية رفع السرية المصرفية. وقد تمثّلت الخدعة هذه المرة في إعلان صلاحية القضاء في رفع السرية المصرفية في مسعى منها لإظهار استجابتها لملاحظات رئيس الجمهورية في هذا الخصوص، إنما بعد حصرها في جرائم الإثراء غير المشروع (وفق الأجراءات المنصوص عليها في قانون الإثراء غير المشروع) وجرائم الغشّ الانتخابي. وتتبدى الخدعة هنا مزدوجة:

فمن جهة، تؤدي الإحالة إلى قانون الإثراء غير المشروع إلى إلزام القضاء بالعبور من خلال لجنة التحقيق الخاصة كما سبق بيانه عملا بالمادة 11 من هذا القانون معطوفة على المادة 9 من قانون مكافحة الفساد في القطاع العام كما سبق بيانه.

ومن جهة ثانية، ترشح الإحالة إلى جرائم الغش الانتخابي عن سوء نية واضحة. فعدا عن أنه يستبعد تماما أن تتم هذه الجرائم من خلال الحسابات المصرفية، فإنّ لجنة المال لم تجدْ حرجا المقابل في تجريد القضاء من أي صلاحية في هذا الخصوص في الجرائم المالية والمصرفية وسائر جرائم الفساد، وهي الجرائم التي تمّت وتتمّ غالبا من خلال الحسابات المصرفية، والأهم هي الجرائم الأكثر تسببًا في الأزمة المالية والتي تشكل ملاحقتها علاوة على ذلك أحد ابرز المداخل للتعافي والتوزيع العادل للخسائر. فما معنى تجريد القضاء من صلاحيته في طلب المعلومات المصرفية في كل هذه الجرائم شديدة الارتباط بالمصارف مقابل إعلان صلاحيته في فعل ذلك في جرائم هامشية في هذا المجال هي جرائم الغش الانتخابي؟ من البين أن هذا التوجه الانتقائي وغير المبرّر لا يمكن تفسيره إلا على أنه دليلٌ قاطعٌ على سوء نية لجنة المال والموازنة وسعيها إلى خداع رئيس الجمهورية والرأي العام برمته في هذا المضمار.     

المحطة الثالثة: لجنة المال والموازنة وكتل نيابية تتآزر لتجريد مشروع قانون الحكومة من مضمونه

المحطة الثالثة تمثلت في وضع مشروع القانون الحكومي بدفع من صندوق النقد الدولي ومناقشته والتصوبت عليه، وهو المشروع الذي صدر مرسوم الإعادة في معرضه. وبالنظر إلى تشدّد الصندوق في مراقبة الإجراءات المتّخذة، بدا الالتفاف حول استحقاق رفع السرية المصرفية أكثر صعوبةً ويتطلّب مزيدا من الاجتهاد والحنكة و”الشطارة” للتفلّت منه. وإذ بدا أن ثمّة استحالة من التفلّت من الاعتراف بمرجعية القضاء في طلب رفع السرية المصرفية أمام إصرار صندوق النقد على ذلك، تمّ ابتداع طرق ملتوية عدة تنم كلها عن كمّ هائل من المخادعة. الطريق الأول تمثل في اعتماد مفهوم “القضاء المختص في دعاوى التحقيق” وهو مفهوم غريب لا نجد مثيلا له في أصول المحاكمات الجزائية. ويستشفّ من هذا المفهوم أنّ اختصاص القضاء لا ينعقد إلا في حال وجود دعوى، مما قد يقصي صلاحية النيابات العامة في إطار الاستقصاء عن الجرائم تمهيدا للادعاء عند الاقتضاء. في الاتجاه نفسه، بدا واضحا توافق لوبي المصارف داخل المجلس النيابي (وقد ضم نوابا من كتل عدة أبرزها كتلتي التنمية والتحرير والجمهورية القوية) في أثناء المناقشات النيابية في ربط الصلاحية القضائية بالجرائم المالية المعددة في المادة 19 من أصول المحاكمات الجزائية والتي يعود اختصاص الادعاء بشأنها للنيابة العامة المالية. ومن شأن هذه الإحالة أن تفتح بابا واسعا لحصر المرجعية القضائية في تحريك دعاوى الحق العام بالنائب العام المالي طالما أن هذه المادة تنص على أنه المرجع الصالح لملاحقة هذه الجرائم. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للنقد هو أن النائب العام المالي الحالي (علي ابراهيم) يُعرف بتبعيته لرئيس مجلس النواب فضلا عن كونه عضوا في هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان أي الهيئة التي احتكرت طوال السنوات الماضية صلاحية رفع السرية المصرفية.

واللافت أيضًا أن المادة السابعة منحت القضاء المختص في دعاوى التحقيق إمكانية طلب معلومات بشأن الجرائم التي قد تكوّن جرائم تبييض أموال والمعددة بالمادة الأولى في قانون مكافحة جرائم تبييض الأموال من دون أن تمنحه صلاحية في طلب المعلومات بشأن جرائم تبييض الأموال الواردة في المادة الثانية من القانون نفسه. وقد تأكد ذلك مع رفض غالبية نواب لجنة المال والموازنة اقتراحا صريحا بإضافة هذه الفقرة على اعتبار أنّ رفع السرية المصرفية بشأن جرائم تبييض الأموال تبقى من صلاحية هية التحقيق الخاصة. ومن شأن هذا الأمر أن يولد اشتباك صلاحيات بين القضاء وهيئة التحقيق الخاصة، أو أيضا أن يعطي المصارف غير الراغبة بإعطاء معلومات التذرع بهذا الاشتباك للتفلّت من واجبها المذكور.

وطبعا لم تنسَ لجنة المال والموازنة،  الاستعانة بأحكام قانونيْ الإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام، اللذيْن يسمحان لها بإعلان أحقيّة القضاء والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بطلب معلومات بشأن جرائم الإثراء غير المشروع والفساد، من دون تمكينهما من القيام بذلك مباشرة، بل دومًا من خلال معبر هيئة التحقيق الخاصة. وقد بدت لجنة المال والموازنة وفية هنا لما كانت انتهت إليه في المحطات السابقة المشار إليها أعلاه.

حيلة أخرى تمّ تضمينها في مشروع القانون وهي وضع عقوبة موحّدة لأي مخالفة على قانون السرية المصرفية بعد تعديله، وهي تصل لسنة حبس، رغم اختلاف شاسع في درجة خطورة هذه المخالفات. بنتيجة ذلك، أصبحت عقوبة إفشاء السرية المصرفية من قبل موظف في المصرف موازية لامتناع مدراء مصرف من تسليم المعلومات التي قد يطلبها القضاء أو أي مرجع صالح آخر منهم بما يعيق عمل العدالة ويسهم في نشوء جرم تبييض أموال. وبذلك، جاءت العقوبة شديدة القسوة لمن يفشي معلومات مصرفية في حين أنها لا تتناسب قط مع خطورة جرم عرقلة التحقيق في قضايا فساد أو إثراء غير مشروع أو تبييض أموال. وإذ نجح نواب “قوى التغيير” في فرض التمييز بين هذين الجرمين لتصبح عقوبة جرم إخفاء المعلومات موازية لعقوبة تبييض الأموال، فإن عقوبة إفشاء السرية المصرفية بقيت جد قاسية، مما قد يمكن المصارف من التذرع بها للتهرب من واجب إعطاء المعلومات خشية تعرضهم لعقوبة الحبس. وهذا ما أشار إليه الرأي القانوني للصندوق داعيا إلى إسقاط عقوبة الحبس عن جرم الإفشاء بالسرية المصرفية.

مما تقدّم، نلحظ أنّ مرسوم الإعادة كما الرأي القانوني للصندوق وضعا الأصبع على كمّ من الحيل المتراكمة والمتكرّرة التي انتهجها عدد من صنّاع التشريع اللبناني، وفي مقدّمتهم لجنة المال والموازنة والمتحدّثون عن عدد من الكتل والذين ذكرنا بعضهم أعلاه، كل ذلك دفاعا عن مصالح المصارف والقوى المتورّطة معها في نهب أموال المودعين.

ماذا بعد فضح سوء نية التشريع؟

غالبًا ما استدعتْ سرية المداولات داخل لجان البرلمان وفوضى النقاشات والتصويت في الهيئة العامة انتقادات واسعة. ولكن، ما تكشفه الألاعيب والحيل التي تخلّلتْ العمل التشريعيّ المتّصل بالسريّة المصرفية يرشح عن خطورةٍ مضاعفة وينقل النقاش إلى مستويات مختلفة.

فهي أولا تميط اللثام عن وجوه نواب يفعلون عكس ما يعلنون، ليخونوا بذلك الأصوات التي منحتهم الثقة في الانتخابات النيابية الأخيرة. وتزداد خطورة هؤلاء بقدر ما يشغلون مناصب مؤثرة داخل البرلمان، بحيث أن إشغالهم هذه المناصب يعطيهم هامشا واسعا في التحكّم بالوقت والنقاش فضلا عن اعتماد صياغات مفخخة قبل النقاش والتصويت أو حتى من بعدهما، وهي صياغات تؤدّي إلى نصوص قانونية تختلف نتائجها تماما عن غاياتها المعلنة. وعليه، يترتب على تعرية هذه الحيل استخلاص العبر بشأن هويّة المتورّطين فيها، تمهيدا للتحقيق معهم على خلفية استغلال مناصبهم والتلاعب بالعملية التشريعية تمهيدا لإقصائهم عنها. أما أن يتمّ تحييد هؤلاء والتجديد لهم وكأن شيئا لم يحصل، (وهذا ما حصل ويرجح حصوله في غياب معمّم لأي محاسبة)، فإن من شأن ذلك أن يحمّل الكتل التي انتخبتهم وتثني على انتخابهم المسؤولية السياسية كاملة عن أفعالهم أو تقاعسهم من دون إمكانية غسل أيديها منها. 

وهي ثانيا تشكل دليلا على سوء نية مفرطة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي أو الجهات التي يأمل لبنان الحصول على مساعدتها بهدف التعافي من الأزمة. فلبنان لا يتمثل فقط في الفريق المفاوض مباشرة إنما أيضا في المؤسسات التي يتعين عليها تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. وهو أمر قد يفقد لبنان كل مصداقية تجاهها فور انفضاح الحيل كما حصل في معرض صياغة هذا القانون كما يفقده أيّ أمل بإنجاز برنامج إصلاحي يحظى بدعم دولي.  

وهي ثالثا وهذا الأهم، يفضح سوء النية قوة الممانعة داخل كتل نيابية وازنة حيال أيّ مسّ فعلي بالسرية المصرفية، وهي ممانعة شهدناها في مختلف المراحل التي قطعتها اقتراحات ومشاريع السرية المصرفية المقدمة بعد الانهيار وتجلّت في تكرار الحيل وسوء النية وتطويل آماد النقاش. وخير دليل على ذلك هو كيفية التعامل مع ردّ الاقتراح الأول بهذا الشأن من قبل رئيس الجمهورية كما سبق بيانه، حيث تم الردّ على فضح الحيل بمزيد من الحيل ولم تدعَ الهيئة العامة للمجلس النيابي إلى التصويت على الحيل الجديدة إلا بعد سنتين وشهر. وفي حين أمكن القيمين على لجنة المال والموازنة والمجلس النيابي ككلّ التعامل مع ردّ رئيس الجمهورية على هذا الوجه وهو لمّا يزال في سدة الحكم، فثمة مخاوف أن تكون الممانعة والمماطلة مع قرب انتهاء ولايته أكثر فداحة وسوءًا. فلنراقب.   

لقراءة مشروع القانون المتّصل بالسريّة المصرفيّة: إضغط هنا

لقراءة كتاب صندوق النقد الدولي: إضغط هنا

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، مصارف ، منظمات دولية ، تشريعات وقوانين ، إقتراح قانون ، مرسوم ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني