حلّ المجالس البلديّة: خطوة جديدة في نسف أعمدة الديمقراطية


2023-04-03    |   

حلّ المجالس البلديّة: خطوة جديدة في نسف أعمدة الديمقراطية

عرف الرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ الخميس 9 مارس 2023 غزارة “مرسوميّة” محليّة المحتوى من خلال صدور ثلاثة مراسيم تتعلّق بالشأن المحلي. هذه المراسيم شملت المرسوم عدد 8 المتعلق بتنقيح القانون الانتخابي والمرسوم عدد 9 المتعلق بحل المجالس البلدية والمرسوم عدد 10 المتعلق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. بالاطلاع على مضامين المراسيم، يبدو جليا الترابط بينها في إطار الكشف بشكل أكثر وضوح على الترجمة القانونية لمشروع الرئيس من خلال مواصلة القضاء على الهياكل المنتخبة المتبقية ممثلة في المجالس البلدية في مرحلة أولى، قبل رسم الهندسة الانتخابية للمجالس المحلية القادمة في مرحلة ثانية.

تكتسي عملية حلّ المجالس البلدية خطورة مؤكدة، ليس فقط من زاوية الحدث الآني في حدّ ذاته، بل كذلك بالنظر إلى الأسباب التي يمكن أن تفسر اتخاذه والسياق الزمني الخاص الذي يتنزل فيه، خصوصا في ظل غياب التزام واضح بموعد الانتخابات البلدية الجديدة.

السبب: ليس اقتناعا بفشل المجالس البلدية…

يثير قرار حلّ المجالس البلدية تساؤلا بديهيا حول مبرراته، وبخاصة على ضوء خطورته. إذ أن مؤداه إلغاء 350 مجلسا بلديا منتخبا، وإلغاء عضوية أكثر من 7200 شخصا تمّ انتخابهم من قبل الشعب صاحب السيادة  للعمل على تنمية المناطق البلدية على كل الأصعدة بالإضافة إلى إسداء مختلف الخدمات إلى المتساكنين. للتذكير، فإن مجلة الجماعات المحلية، التي لا تزال سارية المفعول، تنصّ على حل المجالس البلدية كإمكانية قصوى “إذا استحال اعتماد حلول أخرى”، مقتصرة على حالات محددة تتعلق بالإخلال الخطير بالقانون أو بتعطيل واضح لمصالح المتساكنين، ومحاطة لهذا السبب بضمانات إجرائيّة وقضائية هامة وغير مألوفة. ومن أبرز هذه الضمانات قلب فلسفة آلية وقف التنفيذ من قبل المحكمة الإدارية، حيث لا تصبح قرارات الحل سارية المفعول إلا بعد صدور قرار برفض رئيس المحكمة الإدارية المختصة لمطلب توقيف التنفيذ أو بانقضاء أجل تقديمه”، حسب الفصل 204.

غير أنه بالرجوع الى خطاب رئيس الجمهورية، لا نعثر على أي أثر للأسباب المفسرة لقراره، تصريحا أو تلميحا. أكثر من ذلك، من اللافت للانتباه أن خطابه الذي دام 14 دقيقة اقتصر فيه تناول المراسيم الثلاثية بتعريج خاطف، لم يدم أكثر من 49 ثانية.

يمكن اختصار المبررات التي يقدمها المدافعون عن ضرورة حلّ المجالس في فكرة محورية تتمثل في الجزم بفشل المجالس البلدية في مهمتها طيلة المدة النيابية الممتدة على 5 سنوات (2018-2023). تتمثل مظاهر الفشل خاصة في ضعف أدائها وعدم قدرتها على تحسين مستوى عيش المتساكنين، بالإضافة إلى طغيان الحسابات السياسية الضيقة التي تعددت مظاهرها على غرار انحلال أكثر من 35 مجلسا بلديا بفعل الاستقالة الجماعيّة وتحول البلديات إلى “دكاكين” لأحزاب سياسية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، الأمر الذي يتطلب تحييدها قبل إجراء الانتخابات البلدية القادمة.

ظاهريا، يمكن أن يبدو هذا القول متين المضمون متماسك البنية عاكسا بشكل وفيّ لخلاصة تقييم التجربة البلدية خلال مدتها النيابية الأولى. إلاّ أنه سريعا ما يصطدم بإخلالات منهجية ومضمونية.

منهجيا، لا يمكن تقييم تجربة البلديات خلال السنوات الخمس الماضية إلا من خلال تحديد المعايير المعتمدة في قياس مدى نجاحها أو فشلها. وحتى يكون التقييم موضوعيا، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار جميع العناصر المؤثرة في التجربة ككل، على تعددها وتنوع طبيعتها (سياسية، قانونية، اقتصادية، ثقافية…الخ). كما أن النزوع إلى الأحكام الإطلاقية يبقى تمشيا خاطئا يستسيغه من لا يريد التفكير والتحليل والتمحيص، لأن نجاح أو فشل البلديات يبقى نسبيا ويختلف من بلدية إلى أخرى. وعلى فرض اعتبار التجربة البلدية باءت بالفشل بغض النظر عن أسبابه، فإن ذلك لا يمكن أن يبرر بأي شكل من الأشكال عملية الحل الجماعي بقرار انفرادي. لعل من المفيد التذكير أن مسار اللامركزية، كإصلاح جذري ثوري، هو بالضرورة تدريجي بما يعنيه ذلك من تضمنه لمراحل عديدة يتطلب تنزيلها مدة زمنية طويلة تتجاوز بكثير العهدة النيابية البلدية (2018-2023)، ويحتاج تبعا لذلك ليس فقط  الموارد الضرورية، بل كذلك المراكمة على كل المستويات، لتثمين النقاط الإيجابية وتلافي النقائص.

من ناحية المضمون، لا شك أن تقييم المدة النيابية البلدية يحتاج إلى فضاء تحليلي أرحب، لكن من خلال متابعة الشأن البلدي، يمكن القول إجمالا بنجاح التجربة بالنظر إلى السياق العام السياسي الذي تنزلت فيه والمتميز بضعف الإرادة السياسية في الدعم الفعلي لمسار اللامركزية خاصة من خلال محدودية الموارد المالية والبشرية للبلديات. علاوة على حداثة المجالس البلدية وعدم استقرار بعضها وضعف التكوين وعدم استكمال الإطار المؤسساتي والقانوني-الترتيبي المنظم للنشاط البلدي، من دون نسيان تأثيرات جائحة الكورونا التي امتدّت لسنتين على نجاعة العمل البلدي. على الرغم من تعدد النقائص والرهانات، فإنّ المؤسسة البلدية، مجلسا وإدارة، خطت خطوات مشجعة على درب تقديم خدمات إدارية عصرية وبرمجة وتنفيذ المشاريع التي تغطي مختلف الحاجيات اليومية للمتساكنين (من تنوير عمومي، تعبيد للطرقات، رفع للفضلات، إنجاز للمرافق الرياضية…). أما في خصوص القول بضرورة تحييد البلديات قبل إجراء الانتخابات القادمة، فإن دحض هذه الفكرة لا يتطلب حججا كثيرة لأنه، حتى وإن وقع التسليم بصحة المخاوف، كان الأجدى الحرص على تطبيق القانون الانتخابي الحالي الذي يقر بحياد الإدارة. كما أن اعتماد الحل الجماعي لكل البلديات لتبديد هذه المخاوف يعتبر دون أدنى شكا مسلكا يفتقد إلى أدنى متطلبات التناسب بين الإجراء ودوافعه.

توخّى سعيّد مبدأ التدرج في تفكيك أعمدة البناء المحلي

…بل تنفيذا لقرار هدم اتخذ مسبقا

بعيدا عن هذه التعلات، يتمثل السبب الحقيقي المفسر لقرار رئيس الدولة في مواصلته تنزيل ركائز مشروعه الشخصي على أرض الواقع بصفة تدريجية. للتذكير، يتلخّص مشروع الرئيس في مركزة السلطة بيد السلطة التنفيذية، وتحديدا الرئيس، مقابل إضعاف بقية السلطات مهما كانت طبيعتها. تطبيقا لهذا التوجّه، قام سعيّد بتطبيق قناعاته على كل المستويات: مفاهيميا، عبر تعويض مصطلح السلطة بالوظيفة، وقانونيا، من خلال القضاء على السلط المضادّة أو إخضاع بعضها الآخر، ودستوريا، بقبر دستور 2014 وتعويضه بـ”دستور” يكرّس حكم الفرد ومركزة السلطة، وحتّى اتصاليّا، من خلال خطاب مشحون يقوم على التخوين وشيطنة منظومة ما قبل 25 جويلية 2021. في علاقة بالسلطة المحلية، اعتمد الرئيس في تمشّيه نحو القضاء على المجالس البلدية، على أحد أهم المبادئ التي تقوم عليها اللامركزية: التدرّج. ولكنّه تدرّج لا يهدف لتثبيت اللامركزيّة وتمتين بنيانها، وإنّما لتدميرها منهجيّا لاسترجاع مركزيّة فائقة شبيهة بما كان عليه الأمر قبل الثورة.

وبالفعل، وبالرجوع إلى فترة ما بعد 25 جويلية، يبرز جليا توخي رئيس الجمهورية التدرج في تفكيك أعمدة البناء المحلي. كعادته، تم التركيز أولا على الخطاب المشحون لتهيئة المناخ لاتخاذ ذلك القرار. إذ أكد الرئيس في أكثر من مرة على أن البلديات تعتبر نفسها “دولة داخل الدولة” بما يعنيه ذلك من تهديد لوحدة الدولة وتماسكها. كما اعتبر أن مجلة الجماعات المحلية تم إعدادها “على المقاس”. في نفس التوجه، لم يفوت فرصة وجود أزمة معينة في بعض الجهات كي يطلق سهام الاتهام نحو البلديات وتحميلها، خطأ، مسؤولية التقصير البيئي في ولاية صفاقس مثلا من خلال اللجوء المعهود إلى نظرية المؤامرة تغطية لفشل السلطة التي يقودها في حل الأزمة.

هيكليا، يعتبر حذف وزارة الشؤون المحلية من التركيبة الوزارية لحكومة نجلاء بودن في أكتوبر 2021، أي شهرين بعد إعلان الحالة الاستثنائيّة، وإلحاق مشمولاتها وهياكلها بوزارة الداخلية خطوة إضافية هامة في طريق الانقضاض التدريجي على امتداد وإشعاع السلطة المحلية. مثّل ذلك القرار اعترافا مؤسساتيا صريحا بعدم تمتع الشأن المحلي بمقومات خصوصية تسمح له بأن يكون كائنا مستقلا بذاته من منظور السلطة التنفيذية، بل لا يمكن أن يوجد إلا تحت أجنحة وزارة الداخلية، وكأنّه تجسيد لعودة الدرّ إلى معدنه قبل الثورة.

انتقلت هذه الرؤية المعادية لاستقلالية الشأن المحلي إلى “البناء الدستوري” الجديد من خلال اكتفاء دستور سعيّد بفصل يتيم عن السلطة المحلية يكتفي بذكر أصناف الجماعات المحلية والإحالة إلى القانون فيما يتعلق بممارسة اختصاصاتها. من خلال العودة إلى نفس التأطير الدستوري المحتشم لدستور 59، تأكدت المخاوف المتعلقة بنية الرئيس هدم البناء اللامركزي الذي أسّسه دستور 2014، على الرغم من أن مشروع دستور اللجنة الاستشاريّة التي رأسها الصادق بلعيد لم يسايره في هذا الخيار.

بهذا التسلسل الزمني، لا يمكن اعتبار صدور المرسوم عدد 9 المتعلق بحلّ المجالس البلدية مفاجأة من ناحية مضمونه، بل يندرج بشكل منطقي في سلسلة الخطوات التي اتخذها سابقا. حلّ المجالس البلديّة ليس إذًا سوى تتويج منتظر لهذا المسار وترجمة وفية لنبذ الرئيس لكل السلط المضادة، مؤسساتية كانت أم غير مؤسساتية، من داخل السلط الكلاسيكية كما من خارجها، دائما من خلال تبرير ذلك بدغمائية وحدة الدولة.

وتتأكد أكثر هذه الدغمائية التي طغت على الخطاب والقرارات الرئاسية منذ الدخول في إطار “حالة الاستثناء” من خلال إسناد المكلفين بالكتابة العامة للبلدية، تحت إشراف والي الجهة بمهمة تسيير الشؤون العادية للبلدية. أول ما يمكن ملاحظته هو التناقض بين خطاب الرئيس الذي أعلن فيه تعيين نيابات خصوصية (يوم الأربعاء) والمرسوم الذي ينصّ على تكليف الكتاب العامين بإدارة الشؤون البلدية (يوم الخميس)، الأمر الذي يعكس عدم الدقة وتكرر الأخطاء المتسربة، شفاهيا وكتابيا. من الناحية الرمزية، فإن تعهيد رمز الإدارة البلدية (الكاتب العام) يعكس ميل الرئيس المعهود إلى الجانب الإداري المعين على حساب الهياكل المنتخبة، في تجسيد إضافي لفكرة وحدة الدولة  بين يدي رئيسها.  

تعهيد الإدارة البلدية بتسيير البلديات تجسيد إضافي لفكرة وحدة الدولة بين يدي رئيسها

الشكل: مراسيم الوقت بدل الضائع

صدرت المراسيم الثلاث زمنيا قبل أشهر قليلة من النهاية الطبيعية للمدة النيابية البلدية (12 جوان 2023) وقبل 3 أيام فقط من انعقاد الجلسة الافتتاحية لمجلس نواب الشعب. يثير هذا التوقيت تساؤلات عديدة تؤكد الرغبة الملحة للرئيس سعيد في مواصلة التحكم بخيوط اللعبة السياسية والقانونية بشكل انفرادي، موجها بذلك رسالة مضمونة الوصول الى كل من المجالس البلدية وأعضاء مجلس نواب الشعب الجدد على حدّ سواء.

يتمثل مضمون الرسالة الأولى الموجهة الى كلّ رؤساء وأعضاء المجالس البلدية في أن المرحلة الجديدة التي بشّر بها منذ 25 جويلية 2021 تقتضي القضاء على الفلسفة القديمة والأسس التي قامت عليها كل الهياكل التي كانت تتمتع بسلطات هامة، خاصة المنتخبة منها. طبعا، كان بالإمكان الاكتفاء بتنقيح القانون الانتخابي المتعلق بالانتخابات البلدية من دون حلّ جميع المجالس، خصوصا مع قرب انتهاء مدتهم. غير أنّ الرسالة السياسية تتمثل في الإصرار على إذلال الأعضاء الذين وقع انتخابهم قبل 25 جويلية، سواء وطنيا أم محليا. بعبارة أخرى، أراد الرئيس الحرص على ألاّ يخرج المنتخبون المحليون من الباب الكبير من خلال تسليم العهدة الى مجالس منتخبة بصفة طبيعية، بل من الباب الصغير عن طريق إجبارهم على مغادرة بلدياتهم قبل مدة قصيرة من انتهاء عهدتهم. من وراء الأعضاء المنتخبين، وجه الرئيس رسالة الى المواطنين والمؤمنين بمشروعه مفادها أنه “على العهد باق” وأن “المسيرة لا زالت مستمرة حتى يعيش الشعب التونسي حياة كريمة”، في محاولة للترويج لفكرة أن حل المجالس البلدية كان مطلبا شعبيا استجاب له وأنّ هذا القرار سيكون له تأثير إيجابي على حياة المواطنين.

من جهة أخرى، تتمثل الرسالة الثانية في تشبث رئيس الدولة بتمشيه القائم على إصدار المراسيم من دون أي فضاء سابق للنقاش، بل يكتفي المهتمون بالشأن العام بالتعليق على مضامينها بصفة لاحقة لإصدارها من دون وجود أي قدرة على التأثير عليها. غير أن ما يميز المراسيم الثلاثية هو صدورها قبل مدة قصيرة جدا من البداية الفعلية لأعمال مجلس نواب الشعب. يعكس ذلك النظرة التي يحملها رئيس الجمهورية “للوظيفة التشريعية” ورسالة الى الأعضاء المنتخبين حديثا محتواها أنه سيواصل بعد انتصاب المجلس الجديد لعب الدور المحوري في الحياة التشريعية سواء عن طريق المراسيم أو المبادرات التشريعية. يتدعّم هذا الرأي خاصة بما راج خلال المدة الأخيرة من بعض النواب المنتخبين من ضرورة أن يخضع أي تعديل للقانون الانتخابي إلى التداول تحت قبة البرلمان. غير أن رئيس الجمهورية استبق الجلسة الافتتاحية من خلال مصادرة التداول البرلماني بمرسوم أحادي الإعداد رئاسي الهوى.

بحلّ المجالس البلدية بمقتضى مرسوم رئاسي صادر خلال الوقت بدل الضائع أشهرا قليلة قبل النهاية الطبيعية للمدة النيابية البلدية وأياما معدودة قبل انعقاد الجلسة الافتتاحية لمجلس نواب الشعب، يوجه رئيس الدولة رسالة دقيقة المضمون مفادها أن الرئيس يطبق ما يقرر، وأنه ماضٍ لا محالة في تنزيل مشروعه الشخصي ولو بصفة تدريجية.

أصرّ الرئيس على إذلال المنتخبين قبل 25 جويلية سواء وطنيا أم محليا

نشر هذا المقال في العدد 26 من مجلة المفكرة القانونية-تونس.

لقراءة العدد كاملا اضغط هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، مرسوم ، قرارات إدارية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني