إلحاق الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية: إعلان نهاية مسار اللامركزيّة؟


2021-11-17    |   

إلحاق الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية: إعلان نهاية مسار اللامركزيّة؟

أفصحتْ نجلاء بودن، في 11 أكتوبر 2021، عن تركيبة حكومتها التي تضمّنت 25 وزيراً ووزيرة. ولئن كان الإعلان عن حكومة الدولة التونسية خبراً منتظراً وضرورياً، فإنّ حذف وزارة الشؤون المحلّية، والإبقاء على وزارة البيئة في المقابل، بدون التنصيص عن مآل ملفّ الشؤون المحلّية أو الإعلان عن إدماجها تحت أيّ وزارة أخرى، يثير عديد التساؤلات لدى متابعي مسار اللامركزيّة ويفتح الأبواب أمام تأويلات يتراوح أقصاها بين التخلّي عن اللامركزيّة في تونس وإمكانيّة الإبقاء على الشؤون المحلّية تحت إشراف وزارة البيئة أو الداخلية، بخاصّة في ظلّ مشروع البناء القاعدي لقيس سعيِّد.

تساؤلات وتأويلات حسمها المجلس الوزاري المنعقد في تاريخ 4 نوفمبر 2021، الذي تداول في مشروع أمر رئاسي يتعلّق بإلحاق هياكل وزارة الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية، من دون أن يَصدُر إلى حدّ تاريخ صياغة هذه المقالة.

 

جدل مفتوح… أنهاه إلحاق الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية

تأسّست وزارة الشؤون المحلّية في تونس سنة 2016، وكان يوسف الشاهد أوّل وزير يتقلّد هذا المنصب صلب حكومة الحبيب الصيد. وإلى حدود ذلك التاريخ، كانت الشؤون المحلّية تُسيَّر صلب الإدارة العامّة للجماعات المحلّية العمومية، وذلك تحت إشراف وزارة الداخلية. وقد كان هذا الخيار حينها مفهوماً، إذ لم تكن الدولة التونسيّة قد اتّخذتْ بعد الخيار الدستوري اللامركزي.

وفي موفّى 2016، تمّ التوجّه نحو إدماج وزارتَيْ الشؤون المحلّية والبيئة ليتقلّدها رياض الموخّر ومن بعده مختار الهمامي، قبل أن تُفصلا مجدّداً مع حكومة الياس الفخفاخ، ليتقلّد حقيبة الشؤون المحلّية لطفي زيتون. وقد قرأ البعض إيلاء كلّ من البيئة والشؤون المحلّية وزارةً خاصّة بها كأفضل القرارات التي اتُّخذت خلال العشريّة الأخيرة، حيث كان مُتَوقَّعاً أن يلقى كلّ من الملفَّيْن الاهتمام الكافي، خصوصاً أمام اختلاف وأهمّيّة كلَيهما.

من حيث الدلالة، يبدو أنّ حكومة بودن، بحذفها وزارة الشؤون المحلّية، أفصحت عن كون هذا الملفّ ليس من أولويّات الدولة التونسية التي تعيش تدابير استثنائية متواصلة منذ 25 جويلية الفارط. ولعلّ هذا “التحجيم” المفاجئ لهذا الملفّ يجد أساساً له في خطاب الرئيس قيس سعيِّد، الذي ما انفكّ منذ 25 جويلية وقبله، بالإفصاح أو التلميح، يشير إلى سوء فهم البلديّات لمبدأ التدبير الحرّ، ومشاركتهم في الإجرام في حقّ الشعب التونسي من خلال الامتناع عن رفع الفضلات. ولعلّ أبرز مثال على ذلك توجيه أصابع الاتّهام للبلديّات في ملفّ مصبّ عقارب معتبراً أنّ مَن لفظهم التاريخ، يبحثون عن المزابل، لأنّهم في مزبلة التاريخ”، مشيراً مجدّداً إلى سوء فهم البلديّات مبدأ التدبير الحرّ، ومعلناً أنّ تونس ليست “مقاطعات يحكمها كلّ واحد كما يشاء”.

إذا أضفْنا إلى ما سبق إمكانيّة توجُّه قيس سعيِّد فعليّا نحو بنائه القاعدي الذي يمرّ عبر انتخاب مجالس محلّية، وفق التقسيم الإداري للعمادات والمعتمديّات لا للبلديّات، فإنّ حذف وزارة الشؤون المحلّية كلاعب أساسي لإرساء مسار اللامركزيّة في دستور 2014، ينذر منطقياً بسيناريو جدّي للتراجع عن اللامركزيّة في تونس.

 

إلحاق الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية: في جدليّة “المرافَقة” و”الإشراف”

لا جِدال في كون إلحاق هياكل الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية كان السيناريو الأكثر شيوعاً في أوساط متابعي الشأن المحلّي لمدّة أسابيع، وذلك لكونه ينسجم مع خطاب رئيس الجمهوريّة المناهض للامركزيّة، على الأقلّ بشكلها الحالي، من جهة، ومع تاريخ الدولة التونسية في إناطة هذه الشؤون بوزارة الداخلية على مرّ عقود من جهة أخرى.

في الواقع بدأت الدولة التونسية منذ سنوات قليلة، وبفضل الباب السابع من دستور جانفي 2014، تتخلّص من إرثها المركزي الثقيل، الذي رزحت في ظلّه البلديات تحت وطأة “سلطة الإشراف” التي كانت تقودها وزارة الداخلية كهيكل تنفيذي على المستوى المركزي، وممثّلوها على المستويَيْن الجهوي والمحلّي. توجُّهٌ أثبت فشله لمدّة عقود طويلة في تحقيق التنمية المحلّية والحدّ من التفاوت بين الجهات. 

اليوم، بإلحاق هياكل وزارة الشؤون المحلّية مجدّداً بوزارة الداخلية، نعود، على الأقلّ من حيث الدلالة، إلى نقطة الصفر، إلى ما قبل دسترة السلطة المحلّية وإلى الفترة التي كانت مَرْكَزةُ القرار هي الخيار السياسي المُعتمَد. وهو ما يثير التساؤل حول وجاهة إرجاع ملفّ الشؤون المحلّية إلى وزارة مُجرَّدة من أيّ بعد تنموي. والحال أنّ مسار اللامركزيّة تأسّس على فكرة أن تكون الجماعات المحلّية قاطرة للتنمية، بشكل يحول دون السقوط في أخطاء الماضي التي قامت ضدّها الثورة على غرار التفاوت المُجحِف بين الجهات.

إنّ إلحاق هياكل وزارة الشؤون المحلّية بوزارة الداخلية، يطرح تساؤلات جدّية حول الدور الذي ستلعبه هذه الوزارة. فهل ستكون وزارة الداخلية وزارة مرافقة لمسار اللامركزيّة، من خلال تثبيته ودعمه ومواصلة بنائه كما رسمه الدستور، أي بإجراء انتخابات جهوية وإقليمية ودعم الموارد البشرية والمالية للبلديّات؟ أم أنّها ستكون وزارة إشراف على الجماعات المحلّية على غرار الدور الذي كانت تلعبه سابقاً، بما يُنذِر بالتراجع عن مسار اللامركزيّة المؤسَّس بدستور 2014؟ فلا جدال في أنّ الاختيار اللامركزي الحالي القاضي بالتدبير الحرّ، من خلال إسناد استقلاليّة مالية وإدارية للجماعات المحلّية، يتعارض جوهرياً مع فلسفة الإشراف، الدور الذي أدّته وزارة الداخلية على مدى عقود، والقائم على الرقابة المسبقة على أعمالها. فكيف يمكن تصوُّر استقلاليّة مالية للجماعات المحلّية يدافع عنها الوزير المُشرِف على ممثّلي السلطة المركزية، على المستويَيْن الجهوي والمحلّي؟ وكيف يمكن أن تؤدّي وزارة الداخلية بإشرافها على الشؤون المحلّية دورَيْ الخصم والحكم؟

 

من جهة أخرى، تطرح طبيعة وزارة الداخليّة استفهامات حول ما إذا كانت حكومة بودن تتوجّه، بإلحاقها الشؤون المحل ية بوزارة الداخلية، نحو الضرب “بِيَد التعليمات” على الجماعات المحلّية؟ وإذا كانت الحال كذلك، يجدر التساؤل عن مصير البلديّات إذا رفضت الانصياع إلى “سلطة الإشراف الجديدة”، باعتبارها تتعارض مع مبدأ التدبير الحرّ المُسنَد لها، فهل سيتمّ اللجوء إلى حلّها؟ وفي حال تمّ ذلك، هل سيكون قيس سعيِّد قادراً على تعيين لجان مؤقّتة للتسيير تحلّ محلّها، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصعوبات التي واجهها في تعيين الولاة؟

 

خطوة أولى نحو حلّ المجالس البلدية؟

منذ إعلان رئيس الجمهوريّة الحالة الاستثنائية، أصبحت فرضيّة حلّ المجالس البلدية مطروحة في النقاش العامّ، وتتبلور سواء من خلال دعوات بعض رؤساء البلديّات، أو من دعوات بعض المتدخّلين في الشأن المحلّي لإيقاف العمل بمجلّة الجماعات المحلّية، بالأخصّ من خلال قراءة خطاب رئيس الجمهوريّة. ولعلّ ما يعزّز هذه الفرضيّة أنّ المجالس البلديّة هي السلطة الوحيدة المُنتخَبة التي لا تزال حاضرة في الميدان، بعد تجميد عمل البرلمان إلى غاية إشعار آخر، بدون أن ننسى التمثيل الهامّ لحركة النهضة داخل المجالس البلدية وفي رئاساتها.

على الرغم من ذلك تبدو هذه الفرضيّة مُستبعَدة، باعتبار أنّ الرئيس قيس سعيِّد أصدر الأوامر الرئاسية المتعلّقة بدعوة الناخبين إلى المشاركة في الانتخابات الجزئية، نتيجة انحلال مجالس بلدية بفعل الاستقالة الجماعية المتزامنة، على غرار الدعوة إلى الانتخابات في بلديَّتَيْ طبرقة وعميرة الفحول. ومن المفارقات أنّ مواصلة دعوة الناخبين إلى الانتخابات الجزئية في البلديّات المُنحلَّة، في مقابل عزوف القائمات عن الترشّح إلى الانتخابات، على غرار بلديّة أزمور والقلعة الكبرى اللتَيْن سجّلَتا ترشّح قائمة واحدة إلى الانتخابات إلى حدود غلق باب الترشّحات، من شأنه إضفاء مصداقيّة على الخطاب المشكِّك في مسار اللامركزيّة واستنزاف البلديّات، بدون اللجوء إلى حلّها.

إنّ التساؤل عن مصير الشؤون المحلّية في إثر إلحاقها بوزارة الداخليّة ليس من باب الترف الفكري، بل يُعَدّ اليومَ ضرورة حتمية، باعتبار أنّ مسار اللامركزيّة يسير بدون بوصلة واضحة، خصوصاً أمام تأخُّر إصدار القانون التوجيهي الذي يحدّد الأهداف والوسائل المُسَخَّرة لدعم المسار ووضعه موضع التنفيذ، واستمرار تجميد مجلس نوّاب الشعب، ورواج الخطاب السياسي المتحامل على البلديّات، بالأخصّ من منبر قصر قرطاج.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، سلطات إدارية ، قرارات إدارية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني