حرب ضدّ الأرض


2024-01-15    |   

حرب ضدّ الأرض
أشجار محترقة في علما الشعب

تقول الأرقام والوقائع الموثّقة للعدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان تزامنًا مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنّها إسرائيل على غزة منذ 7 تشرين الأوّل 2023، إنّ إسرائيل لا تتعمّد استهداف المدنيين والصحافيين والصحافيات فقط، بل تعمد إلى تدمير سبل عيش الناس. فالعدوان يحرق أراضي الجنوبيين ويقضي على مواسمهم الزراعية الآنية والمستقبلية ومؤسّساتهم والأحراج التي يستفيدون منها لتربية المواشي والنحل، عدا عن وظيفتها في التوازن البيئي والطبيعي وفي استكمال الغطاء النباتي الكثيف الذي يتميّز به الجنوب. وهو ما يضعنا أمام جرائم بيئيّة شبيهة بما دأبت إسرائيل على ارتكابه في فلسطين منذ النكبة لغاية اليوم.

خطورة هذه الجريمة تؤكدها أيضًا أرقام وزارة الزراعة التي زوّدت بها “المفكرة القانونية” لجهة أنّ إسرائيل لم تستهدف الرعاة ومواشيهم فقط،  بل تسببت بحرائق طالت 6 آلاف و820 دونمًا من أراضي المناطق الحدودية مع فلسطين المحتلة نتيجة القصف بالفوسفور والذخائر المختلفة، عدا عن الخسائر الكبيرة في القطاع الزراعي من مواشٍ ومزروعات ونحل ودواجن. كما أكّد مصدر في الوزارة لـ “المفكرة” استحالة دخول المساحات المتضرّرة لخطورتها على الناس والمواسم مشيرًا إلى أنّه “لا يمكن لأهالي الجنوب والمزارعين والعاملين في القطاع الزراعي بنواحيه كافة (مناحل ومواشٍ ودواجن وزراعة) دخول المساحات الحرجية والزراعية التي استهدفتها إسرائيل بالقصف الفسفوري والذخائر المختلفة في نطاق 55 بلدة حدودية مباشرة وخلفية لغاية اليوم”. ولفت إلى أنّ الجيش اللبناني وحده مخوّل الكشف عليها لتحديد بؤر الاستهداف وخطورته بشكل مباشر ودقيق بعد وقف إطلاق العدوان، ليأذن للجنوبيين بدخولها من عدمه.

وقد صنّف استديو أشغال عامّة الجريمة الحاصلة “إبادة بيئية” خلال توثيقه “التأثير التراكمي للعدوان على بيئتنا المبنيّة والطبيعية، وعلى مقوّمات حياتنا كسكان”.

تعطيل وظائف الأرض واستعمالاتها

أكّد مزارعون عدّة لـالمفكرة أنّ الجيش اللبناني نصحهم بعدم الاقتراب من الحقول الملاصقة للشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة خلال هدنة 24 تشرين الثاني الماضي، لاحتمال أن تكون قد تعرّضت للقصف بالقنابل العنقودية التي تنفجر لدى الدوس عليها أو احتكاكها بأيّ جسم صلب آخر. إلّا أنّ مصدرًا في الجيش اللبناني أكّد لـ”المفكرة” أنّ “لا أدلّة لغاية اليوم على استخدام إسرائيل للقنابل العنقودية في العدوان الحالي”، مضيفًا أنّ عناصر الجيش قاموا بتفجير ذخائر غير منفجرة في بعض المناطق التي تمكّنوا من الوصول إليها.

يشار إلى أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي كان أعلن في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ في الإمارات العربية المتحدة (COP28)، أنّ الانتهاكات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان، بما في ذلك استخدام الأسلحة المحرّمة مثل الفوسفور الأبيض، قد ألحقت أضرارًا “لا يمكن إصلاحها بأكثر من خمسة ملايين متر مربع من الغابات والأراضي الزراعية وآلاف أشجار الزيتون، مما أدى إلى تدمير سبل العيش ومصادر الدخل وتهجير عشرات الآلاف من اللبنانيين واللبنانيات”.

ويبيّن تحديث لوزارة الزراعة في 12 كانون الأوّل الجاري أنّ الاعتداءات الإسرائيلية طالت 55 بلدة حدودية، وأدّت إلى نشوب أكثر من 584 حريقًا قضى على أكثر من 63 ألف شجرة زيتون. كما أجهزتْ النيران التي سبّبها القصف الإسرائيلي على أكثر من 6820 دونمًا من الأراضي موزّعة على 1620 احترقت بالكامل و5200 تضرّرت بشكل جزئي. وتحتوي 55% من هذه المساحات على أشجار السنديان والملّول والغار، و35% منها هي أراضٍ زراعية، إضافة إلى 10% مراع وأعشاب. كما تؤكّد مصادر وزارة الزراعة لـ “المفكرة” أنّ إسرائيل اعتدت بالفوسفور على هذه المساحات على اختلاف أنواعها إضافة إلى أسلحة وذخائر أخرى. وتشير إلى أنّ النيران الناجمة عن القصف بالفوسفور الأبيض فتكت بأكثر من 340 ألف طير دجاج، وأدّت إلى نفوق أكثر من 950 رأس ماشية، وتضرّر 310  قفران نحل و82 خيمة زراعية، فضلًا عن قصف مستودع أعلاف بمساحة 600 متر مربع وتدميره، لغاية الساعة. 

وإثر عودتها من جولة في جنوب لبنان، نقلت النائبة الدكتورة نجاة عون صليبا لـ “المفكرة” مأساة أهله وسكانه: “حلو الحكي والتنظير.. العالم متروكة بكلّ معنى الكلمة. لا دولة ولا حدا يسأل شو صاير فيهن أو يطّمن ع مصيرن.. ما كأنْ في دولة ونواب ووزراء…”. وسجّلت بأسف شديد استنكارها: “إذا اليوم زرعنا، أيمتى بيقطف المزارع؟ بعد 20 سنة؟ حدا سأل كيف بدها تعيش الناس لوقتها؟ مين بيعوّض عليها؟”. وعن ضرر الفوسفور تقول: “لقد قضى على مواسم الناس ورزقهم وحتمًا ألحق أذى بالتربة.. وهو يتحلّل بمياه الشتاء ليتحوّل حمضًا فوسفوريًا. أما على المدى البعيد، فلا يمكننا حسم أثره، إذ يتطلّب ذلك فحوصات مخبريّة دوريّة دقيقة إلى أن نتخلّص من كلّ ترسّباته”.

دخان الحرائق في علما الشعب

الفوسفور يهدّد الأرض والماء والكائنات

وتُعرّف د.ة صليبا الفوسفور بأنّه مادة كيميائية يتمّ التعامل معها بحذر عند استخراجها من الصخور وتصنيعها، نظرًا لخطورتها والسبب أنّها: “سريعة وشديدة الاحتراق ويصعب إطفاؤها، كونها تشتعل بمجرّد التعرّض للأوكسيجين، وتسبّب أضرارًا جسيمة لكلّ ما يلامسها، إذ تصل حرارتها إلى أكثر من 800 درجة، كما تولّد مع الضوء دخانًا كثيفًا”.

ويلفت الباحث أنطوان كلّاب، من مركز حماية البيئة في الجامعة الأميركية في بيروت، إلى خطورة اشتعال الفوسفور من جديد ولو بعد أسابيع من نشره الأصلي، في كلّ مرّة يتعرّض فيها للأوكسجين سواء على المساحات والأراضي أو على جسم الإنسان. وقد حصل، وفق كلّاب، أن اشتعل جسم أحد المصابين ثانية، لمجرّد تعرّض جرحه للهواء أثناء تغيير الطبيب للضمادات. كما أنّ المخاطر مفجعة، حيث يتفاقم وضع الجروح تبعًا لطرق التعامل مع الشظايا وتنظيفها: “الجسم نفسه لا ينفجر، ولكن يمكن أن يتفاعل بعنف مع المركّبات الكيميائية الأخرى… مما يتسبّب بما يعرف بخطر انفجار هامشي”. ويستعرض كلّاب، مخاطر تهديد الفوسفور الأبيض لوجود جميع الكائنات الحيّة، وإمكانية وصول ترسّباته إلى الأنهار والمياه الجوفية، ما يؤثر على الثروة النهرية أو البحرية ويزيد من نموّ الطحالب بشكل مفرط.

وتحرص الأمينة العامّة للمجلس الوطني للبحوث العلمية، د.ة تمارا الزين، ألّا يقتصر التوثيق على الوفسفور الأبيض: “فالقصف المكثّف بالقذائف العادية لا يقلّ خطورة لناحية تلويث التربة، إذ أنّ كلّ مواد التفجير تحتوي على معادن ثقيلة مثل Cadmuim  وStrontuim، وتواجدها بنسب كبيرة يسمّم التربة ولا تعود صالحة للزراعة”. وتنبّه الزين إلى أنّ “تحاليل اليوم تبقى عاجزة عن حسم جودة التراب، بل هناك حاجة لتكرارها بشكل دوري وعلى الأمد البعيد.. بخاصّة وأننا على عتبة الشتاء وعوامل عديدة كالمتساقطات والرياح ستؤثر بالمنحى الذي ستأخذه المواد في التربة”.

وعن تلوّث المياه الجوفية، تحذّر د.ة الزين “كلّ ما يذوب بالمياه ويتسرّب للمياه الجوفية.. مرتبط بطبيعة التربة نفسها سواء كانت تربة حمضية، أو كلوية… أكرر: عوامل عدة ستؤثر”. وتتابع: “نعم سمعت من خبراء عدّة في علم التربة أنّ الفوسفور يبقى بعمق 20 مترًا عن السطح”. أما عن الأسماك والطيور وخطورة نقلها التلوّث للإنسان، توضح الزين: الكائنات التي تعرّضت مباشرة للفوسفور الأبيض، قد نفقت ولن تصل للمستهلك، أما التي ما زالت على قيد الحياة رغم إصابتها، فستراكم الفوسفور وتصبح مسمّمة نوعًا ما. ولكن الضرر يتعلّق بالكمّيات المتراكمة، علميًا لا يمكنني الحسم قبل أن يصبح لدينا تقييم لمجمل الكمّيات التي تركّزت”.

وتوجزُ الزين العراقيل باستمرار القصف العدواني، ما يحول دون تمكّن الفرق المختصّة من الوصول لكافة الأراضي وبالتالي يعيق أخذ العيّنات.

سياسة الأرض المحروقة

يدق رئيس جمعية “الجنوبيون الخضر” الدكتور هشام يونس ناقوس الخطر، ويحذّر من فداحة الكارثة: “نشهد اليوم إبادة بيئية، وليس مجرّد تدمير للغطاء الأخضر، إنّه تدمير منهجي وإخلال بالنظام البيئي، إضافة إلى المحاصيل الزراعية والمواشي”. ويعتبر أفعال إسرائيل تندرج ضمن سياسة الأرض المحروقة وهي سياسة تهجير ممنهجة، لافتًا إلى أنّ أيّ تقييم للمشهد البيئي يجب أن يأخذ في عين الاعتبار تنوّع وكثافة المناطق الحرجية المحروقة وأشجار الزيتون المعمّرة ومئات الهكتارات التي تضرّرت بشكل مباشر وغير مباشر: “الفوسفور يؤدي حتمًا إلى الإخلال بالنظام البيئي… وهناك حاجة لدراسات وسيرورة عمليات معالجة جدية، الناس مذعورة وليس لديها قدرة على التأهيل”.

نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لقراءة العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، الحق في الحياة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني