العدوان على الزراعة جنوبًا: أبعد من ضرب اقتصاد الناس، من يعالج التربة؟


2023-12-06    |   

العدوان على الزراعة جنوبًا: أبعد من ضرب اقتصاد الناس، من يعالج التربة؟
صور كروم وأشجار محترقة في علما الشعب

يشارف العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان، والمتزامن مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنها إسرائيل على غزة، على ختم شهره الثاني، وما زال المزارع نعمة الله عبدالله، من منطقة الوزاني الحدودية (قضاء مرجعيون) مرغمًا على ترك مواسمه الزراعية. لا تقف خسارة عبد الله عند نحو 20 ألف دولار أميركي لغاية الساعة، بل تمنعه القذائف العدوانية من تحضير أرضه للموسم المقبل، لتصبح الخسارة خسارتين. ولم يتمكّن عبدالله من تفقّد أراضيه حتى خلال الهدنة ولا قطف بعض زيتونه، أو تحضير بعضها للعام المقبل بعدما نصحه الجيش اللبناني بعدم الاقتراب من الحقول الملاصقة للشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة بسبب احتمال أن تكون قد تعرّضت للقصف بالقنابل العنقودية التي تنفجر لدى الدوس عليها أو احتكاكها بأي جسم صلب آخر.

ويعتبر تحذير الجيش للمزارع عبدالله الإشارة الرسمية الأولى إلى احتمال استعمال الاحتلال الإسرائيلي سلاح القنابل العنقودية في عدوان 2023، على غرار ما فعل في عدوان 2006 حين أمطرت إسرائيل لبنان يومها، وخصوصًا الجنوب وبعض البقاع، بنحو مليون قنبلة عنقودية. وقد أدّت تلك القنابل بعد انتهاء العدوان إلى سقوط 44 شهيدًا بعدما انفجرت بهم قرب بيوتهم وفي حقولهم وعلى الطرقات، وإصابة ما يزيد عن 300 مواطن بجروح أدى العديد منها إلى بتر أطراف، وفق المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام والقنابل العنقودية. وأدى العدوان الإسرائيلي بالعنقودي يومها إلى مسارعة 107 دول إلى تبنّي معاهدة تحظر استخدام القنابل العنقودية في مؤتمر استضافته العاصمة الإيرلندية في العام 2008، بعد سنتين من عدوان تموز. وعليه تُضاف القنابل العنقودية المحرّم استعمالها دوليًا ضدّ المدنيين والأراضي الزراعية، في حال ثبُت استعمالها، إلى القصف بالفوسفور حيث استهدف العدوان الإسرائيلي لبنان أيضًا بعشرات القذائف الفوسفورية (أكثر من 50 قذيفة) متسببًا بإصابة 100 مواطن جنوبي على الأقل، وتضرّر أكثر من 1120 دونمًا من الأراضي الزراعية. هذه الجرائم أشار إليها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ في الإمارات العربية المتحدة (COP28)، بالقول “لقد تسببت الانتهاكات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان، بما في ذلك استخدام الأسلحة المحرمة مثل الفوسفور الأبيض إلى استشهاد المدنيين وإلحاق أضرار لا يمكن إصلاحها بأكثر من خمسة ملايين متر مربع من الغابات والأراضي الزراعية وآلاف أشجار الزيتون، مما أدى إلى تدمير سبل العيش ومصادر الدخل وتهجير عشرات الآلاف من اللبنانيين واللبنانيات”.

ولم يتمكّن المزارع عبدالله من قطف أكثر من 650 شجرة من ثمار القشطة يُقدّر مردودها وحدها بـ 8 آلاف دولار، كما نحو طنّين من فاكهة “الصبّار الرجعي” التي يقول إنّ ثمنها يصل إلى 10 آلاف دولار، ومعهما نحو 600 زيتونة بقي زيتونها على أمه. وحال عبدالله تنسحب على مزارعي نحو 38 قرية وبلدة حدودية ممتدة على 79 كيلومترًا، هي طول الحدود اللبنانية مع فلسطين، حرموا من قطف مواسمهم وعلى رأسها الزيتون الذي يشكل مصدر دخل أساسي وداعم للعائلات الجنوبية، ولم يتمكّنوا من تحضير أراضيهم للمواسم المقبلة من حبوب وخضار وتبغ، ليفتح الواقع على خسائر إضافية مضاعفة. ويقول المزارع عبدالله إنّه لم يتمكّن من تشحيل كروم العنب، ما يؤثر على إنتاجها في العام المقبل، كذلك ما زال أكثر من 30 دونمًا يزرعها بالخضار الموسمية بورًا لأنه عجز عن حراثتها. وبسبب خلوّ المنطقة من العمّال لم يجد من يعاونه في الاعتناء بالأراضي القريبة بسبب نزوح المياومين أيضًا “عندي أكثر من 40 عامل هربوا”.

كل هذا، ولن تعوّض الدولة لغاية الساعة على المزارعين، سواء من خسروا مواسمهم أو قطعان مواشيهم من أبقار وأغنام أو مزارع الدواجن وقفران النحل، كما فعلت في عدوان 2006، وهو ما أكده رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر لـ “المفكرة القانونية” قائلًا إنّ “تعويضات المجلس المستندة إلى قرارات مجلس الوزراء لا تشمل القطاع الزراعي، وتقتصر التعويضات على الشهداء والجرحى والوحدات السكنية والمنشآت”. توجّه من شأنه أن يقوّض حياة اقتصادية كاملة في الجنوب الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة مع الوظائف والمتفرّغين الحزبيين. فقد بيّنت النتائج العامة للإحصاء الزراعي الكامل الصادرة عن وزارة الزراعة بالتعاون مع منظمة الأغذية العالمية (فاو) ومشروع التعاون الإيطالي في 2012 أنّ أكثر من 40% من أراضي الجنوب وخصوصًا تلك الواقعة على الحدود مع فلسطين المحتلة مستغلّة في الزراعة سواء المرويّة منها أو البعلية، لتبلغ المساحة المزروعة في محافظة الجنوب 256.211 ألف دونم، منها  أكثر من 50% مروي والباقي بعلي، فيما تبلغ المساحات المزروعة في محافظة النبطية  260.949 دونم منها 49.385 ألف دونم مروي.

تنشر “المفكرة” تحقيقًا من جزئين الأوّل يسلّط الضوء على خسائر القطاع الزراعي من المحاصيل وموسم التبغ مع استكمال لخسائر تربية الحيوانات منذ 8 تشرين الأول إثر بدء العدوان الإسرائيلي على غزة وعلى جنوب لبنان، فيما يُخصّص الثاني لخسائر مزارع الدواجن والمناحل، بعد أن كانت “المفكرة” قد ألقت الضوء على خسائر موسم الزيتون، وأضرار مربّي المواشي في الجنوب.

استهداف كروم الزيتون في خراج ميس الجبل بقذائف المدفعية

غياب آليّة التعويض عن خسائر القطاع الزراعي

يعتبر الاستهداف الإسرائيلي للقطاع الزراعي وموارد رزق المزارعين استهدافًا مباشرًا لصمودهم، إذ يرغمهم على النزوح من قراهم وطبعًا خسارة مورد عيشهم مع أسرهم، وتأتي قرارات الحكومات المتعاقبة باستثنائهم من التعويضات لتزيد الطين بلّة، وتصعّب عليهم استمرار دورتهم الإنتاجية والنهوض من جديد. ويبرّر رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر الأمر بالقول إنّ مسح الأضرار الزراعية “شائك” وغير مُقنّن، أي لم توضع أي آلية لكيفية احتساب الخسائر الزراعية التي سيتم التعويض على أساسها، “يعني ما في نص بيقول كل شجرة مثمرة هلقد تعويضها أو مندفع هالقد ع كل دونم، بخلاف التعويض عن الأرواح والوحدات السكنية”.

وبيّن المسح الأوّلي الذي باشره المجلس استهداف العدوان 16 مزرعة مواشي ودواجن بشكل مباشر وأربع آليات زراعية، ولم تُمسح أي من البساتين والحقول الزراعية والأحراش المتضرّرة. ويختلف مسح وزارة الزراعة عن مسح مجلس الجنوب، حيث تمّ تفصيل الأضرار، وتفيد الأرقام التي حصلت عليها “المفكرة” أنه منذ بداية العدوان ولغاية 24-11-2023، نشب أكثر من 438 حريقًا جرّاء القصف الإسرائيلي، وتم استهداف حوالي 53 قرية في محافظتي الجنوب والنبطية، وطاول الحريق أكثر من 1120 دونمًا لبلدات حدودية لا تبعد أكثر من 5 كلم عن الحدود مع فلسطين المحتلة. كما بيّنت الأرقام أنّ 60% من المساحة المحروقة هي منطقة حرجية تحتوي على أشجار الملول والغار، 30% منها هي أشجار مثمرة وحمضيات، وتمّ استهداف أكثر من 53 ألف شجرة زيتون، هذا عدا عن الثروة الحيوانية حيث نفق 230 ألف طير، 700 رأس ماشية، 65 خيمة زراعية و270 قفير نحل حتى الآن.

من جهتها شرعت مؤسسة “جهاد البناء” التابعة لحزب الله بإجراء مسحها الخاص والذي يشمل الأضرار في كل القطاعات، وأكد مدير المؤسسة في الجنوب، سليم مراد، لـ”المفكرة”، أنّ هناك تعويضات للمتضررين في القطاع الزراعي، والتي طالت بالدرجة الأولى مزارع الدواجن والمناحل والمواشي، ثمّ الأشجار المثمرة على رأسها أشجار الزيتون، تأتي بعدها الأشجار المثمرة والزراعات الموسمية.

وكانت خسائر القطاع الزراعي حُدّدت خلال عدوان تموز 2006 بالنسبة إلى الأشجار والمزروعات بنحو  140 مليونًا و971 ألف و590 دولارًا، فيما قُدِّر عدد الأشجار التالفة أو المتضرّرة بنحو 960720 شجرة، تم التعويض على قلّة من مالكيها عبر جمعيات أو جهات خاصة.

ويؤكد المزارع خليل ديب على استثناء المزارعين ومن بينهم مزارعي التبغ من تعويضات عدوان 2006، وكان الموسم في مرحلة قطاف التبغ والشك حينها، أي أنّ الخسارة كانت كبيرة. ويقول ديب إنّه على الرغم من تسمية شتلة التبغ  بـ”شتلة الصمود” إلّا أنّ أحدًا لم يدعم المزارع لا في الحرب ولا في السلم.

ويأمل المزارعون ألّا يتم إهمالهم واستثناؤهم من التعويضات كما حصل خلال عدوان تموز 2006، ويعتبر المزارع عبد الله سرور أنّه على الرغم من تعرّض أرضه للقصف المباشر بالفوسفوري خلال عدوان 2006 ما أدى إلى احتراق زيتونه المعمّر، فإنّ أحدًا لم يعوّض عليه،  ولم يقدّم له أي إرشادات أو علاج و حتى وصفة لمعالجة تربته، مؤكدًا أنّ سلاح الفوسفوري المستعمل اليوم هو أشد “أذى” من الذي استخدم خلال حرب تموز.

في المقابل، يقول وزير الزراعة عباس الحاج حسن في اتصالٍ مع “المفكرة” إنّ الوزارة شرعت بعد أيام من بدء العدوان بإحصاء الحرائق والاعتداءات والخسائر في القطاع الزراعي، ليؤكد أنّ البحث ما زال جاريًا مع مجلس الوزراء لوضع خطة لمساعدة المزارعين، وصرف التعويضات من خلال الحكومة أو من خلال الجهات المانحة، علمًا أنّ تعويضات الحكومة تتمّ عبر مجلس الجنوب وحده الذي أكد رئيسه حيدر لـ “المفكرة” أنّه لا يعوّض الأضرار الزراعية. علمًا أنّ الحكومة قد أقرت نهار الأربعاء 29 تشرين الثاني 2023 مبدأ التعويضات على المتضرّرين ولم يتمّ لحظ القطاع الزراعي، بل اقتصرت الوحدات السكنية والجرحى وأهالي الشهداء.

صور كروم وأشجار محترقة في علما الشعب

خسائر قطاعات مرتبطة بالزراعة

لا تقتصر الخسائر في القطاع الزراعي “بالنسبة للمزروعات” على المزارع أو أصحاب البساتين ومزارعي التبغ، بل تشمل دائرة واسعة من “المهن” المتعلقة بالقطاع، لتشمل أصحاب الجرارات والتراكتورات، وبائعي البذور والمعدات الزراعية وأصحاب المشاتل الزراعية، كما العمال والمحال التجارية، وأصحاب الخيم الزراعية. وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، تضرر أيضًا الأهالي الذين ينتظرون شتلة البندورة قرب منازلهم ومساكب البقدونس والروكا والبازلاء والفول وغيرها في حيازات زراعية صغيرة، يستهلكونها ويخزّنونها مؤونةً لعائلاتهم توفّر عليهم أعباء مالية كثيرة.

وبحسب المزارعين فعند بدء العدوان، كان المزارع في مرحلة قطف الثمار مثل الزيتون والقشطة و الأفوكادو والحمضيات وغيرها، وكان مزارع التبغ في مرحلة تسليم إنتاجه لشركة “إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية” لقبض مستحقاته السنوية التي تشكل عمادًا أساسيًا في اقتصاد الأسر الجنوبية، وهو ما وجدت حلًا له إدارة التبغ والتنباك (ريجي) عبر تحديد مراكز خارج مناطق الاستهداف لتسلّم بالات الدخان وهو ما خفف من خسائر المزارعين وتلف محاصيلهم من موسم التبغ.

بدورهم كان أصحاب المشاتل الزراعية  قد حضّروا طلبيّاتهم استعدادًا لتلبية حاجة الموسم الشتوي الذي كان سيبدأ التحضير له تزامنًا مع نشوب العدوان، حيث كان المزارع يستعد لتجهيز التربة للزراعات الموسمية. وكانت الأراضي تنتظر الفلاحة (فلاحة أولى وثانية وثالثة بالنسبة للتبغ مثلًا). وهذا ما لم يتمكّن الجنوبيون من إنجازه إلى اليوم. وفي حال لم يتوقف العدوان ولم يتمكّنوا من فلاحة أرضهم، فلن يكون هناك محاصيل آتية، ولا زراعة في شهر شباط  لحبوب القمح والعدس والشعير والحمّص إضافة إلى فواكه البطيخ والشمّام والخضار من بطاطا وغيرها، كما لن يتمكّن مزارع التبغ من زراعة مشاتله الخاصة.

خسائر زراعة تجارية وبيتيّة على طول القرى الحدودية

يعتاش المزارع سامر الأحمد في منطقة الوزاني من الزراعة بعدما اعتاد ضمان (استئجار) الأراضي كونه لا يملك أرضًا، ويدفع 100 دولار مقابل الدونم الواحد في السنة. وكان الأحمد ضمن هذا العام (في شهر آب الفائت) حوالي 27 دونمًا ودفع 2700 دولار بدلًا لاستثمارها. وبسبب العدوان الإسرائيلي، لم يتمكّن من زراعتها لغاية اليوم، حيث يستهدف العدو الإسرائيلي جراره الزراعي، وكل الجرارات، حسب ما يقول لـ “المفكرة” فلم يتمكن حتى من فلاحة الأرض، ليقدّر أن خسائره “تتجاوز ثلاثين ألف دولار”.

ويفيد رئيس بلدية طير حرفا، قاسم حيدر، “المفكرة” أنّ المزارعين في القرية خسروا مواسمهم من زراعات الفليفلة والباميا وحتى الملوخية، التي كان من المفترض قطفها مع بدء العدوان، فتركوا أرزاقهم و”تاهوا” (نزحوا)، كون طير حرفا مستهدفة بقوّة سقط فيها شهداء من بينهم الزميلان فرح عمر وربيع معماري. كذلك لم يتمكّن المزارعون من قطاف أشجار الحمضيات والقشطة. للدلالة على عنف استهداف العدوان لطير حرفا، أكد حيدر، قصف إسرائيل محطة الطاقة الشمسية في البلدة والمؤلفة من 250 لوحًا، وكذلك مضخّة المياه التي تزوّد القرية بـ 50 مترًا مكعبًا من المياه في الساعة، ما سيؤثر على المزارعين والمواسم الزراعية في فصل الصيف.

آثار القصف على ألواح الطاقة الشمسية في طير حرفا

بدوره، أكد نائب رئيس بلدية علما الشعب، وليم حداد، أنّ أصحاب كروم الزيتون في القرية  خسروا هذا العام ما يقارب 2500 صفيحة زيت (يتجاوز ثمنها 350 ألف دولار، إذا احتسبنا ثمن صفيحة الزيت على الحد الأدنى، أي 130 دولارًا) بعدما تضرّر جزء منها بالقصف المباشر، فيما لم يتمكّن المزارعون من قطف القسم الآخر.

وعلى صعيد خسائر الخيم الزراعية، يؤكد المزارع حسين عطايا عدم تمكّنه من الوصول إلى خيمه المزروعة بخضار البندورة والفليفلة بسبب العدوان، مقدّرًا خسارته بأكثر من خمسة آلاف دولار للخيمة الواحدة، حيث بلغ إنتاجه في العام الماضي من زراعة البندورة وحدها حوالي 3 أطنان، فيما يباع كيلوغرام البندورة العنقودية اليوم بـ 130 ألف ليرة لبنانية (ثمنها نحو 400 مليون ليرة)، عدا عن تكلفة الشتول والأسمدة والأدوية والمبيدات.

لا تقاس خسائر الزراعة فقط بمردودها التجاري بل بمقدار الحاجة إليها وكذلك التعب والكلفة للاعتناء بها من الحقول والبساتين والكروم إلى الشتلة الواحدة المزروعة قرب المنزل، إذ أنّ البحصة تسند خابية. ففي ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ خريف 2019 ومعها ذيول جائحة كورونا، عاد الأهالي في الجنوب إلى الزراعة، ومعهم من نزحوا من المدن نحو قراهم لأسباب اقتصادية، وحاولوا الإفادة حتى من أمتار الأراضي القليلة قرب منازلهم لتخفيف الأعباء الاقتصادية عبر تأمين جزء من الاكتفاء الغذائي الذاتي. وفي اتصالٍ تقول الحاجة فاطمة، النازحة من قرية عيترون، لـ “المفكرة” إنّها بدأت منذ سنوات عدة زراعة أرضها قرب المنزل، وهي تؤمّن مؤونتها من “البندورة خلال الصيف ومن رب البندورة وعصيرها للمؤونة، إضافة لحاجتها طوال العام من البازلاء والفول والبصل. كانت الحاجة لا تقصد بائع الخضار، تؤمن أيضًا ما تحتاجه عائلتها من الخس والملفوف والقرنبيط والروكا: “أنا بالضيعة ما بطلع من الأرض، بهتمّ فيها حتى تعطيني خيرات، ولو على قد حاجتي”، تقول.

وتتحسّر زهر توبيا من بلدة علما الشعب على أشجار الزيتون التي ورثتها عن جدها وطالتها الحرائق الناجمة عن القصف، ويتجاوز عددها 40 زيتونة عمرها أكثر من 200 عام تقريبًا، وهي تعطي سنويًا حوالي 50 صفيحة زيت زيتون، “خسرنا ثروة ومصدر رزق أساسي”.

وكما المزارعين الآخرين، يعيش مزارعو التبغ القلق على موسمهم، إذ كان عليهم البدء منذ أسابيع عدّة  بحراثة الأرض وتجهيزها لزرع المشاتل من جهة، وكذلك للشتل لاحقًا، بما أن زراعتهم تتطلب ثلاث فلاحات متتالية لتصبح صالحة لشتل التبغ، وهو ما سيقضي على موسم العام المقبل في حال استمرار العدوان الإسرائيلي وعدم تمكّنهم من الوصول إلى حقولهم. 

ويقول المزارع عبد الله سرور، أمين سر سابق نقابة مزارعي التبغ بالجنوب، إنّه قام بتسليم محصوله كما الأكثرية الساحقة في اليومين الأولين من الهدنة، مقابل 6 دولارات للكيلوغرام الواحد، كذلك دفعت “الريجي” بدل نقل دولار ونصف الدولار لكلّ بالة دخان. وأشار سرور إلى أنّ زراعة الموسم المقبل تبدأ في شهر شباط، إلاّ أن تجهيز الأرض وزراعة المشتل، تنتهي في شهر كانون الأول كحدٍ  أقصى، “الناس ما قدرت تفلح الأراضي، المزارع ما عم يقدر ينزل بيخاف يقوّصوا عليه”، معتبرًا أنه في حال استمرار العدوان هناك صعوبة بزراعة موسم جديد.

استهداف بستان من الكرمة في سهل الوزاني

خسائر المشاتل الزراعية بالآلاف

كما المزارعين كذلك أصحاب المشاتل الزراعية الذين يعتمدون على الموسم لبيع منتجاتهم وتحصيل رزقهم وتأمين حاجة السوق. يفسّر مدير مشاتل المنى في صيدا محمد معروف لـ “المفكرة” أنّ لكلّ منطقة في لبنان موسمها الزراعي الخاص بها، والذي يختلف باختلاف الطقس. وأشار إلى أنّه مع بدء العدوان كان من المفترض البدء بالزراعات الموسمية في الجنوب، إلّا أنّ حوالي 95% من المزارعين – زبائنه في تلك المنطقة لم يحجزوا أي طلبيات، ما أدى إلى تلف الشتول التي حضّرها استعدادًا للموسم. وكان مشتل معروف يزوّد منطقة الوزاني وحدها بحوالي 300 ألف شتلة ملفوف وخس وقرنبيط، لم يتمكّن هذا العام من بيع شتلة واحدة منها. ويقدّر معروف خسارته من شتول الملفوف وحدها بأكثر من 8 آلاف دولار، و”اليوم من المفترض البدء بالتجهيز لموسم البطيخ والشمام، إلّا أنني لم أفعل خوفًا من تكبّد المزيد من الخسائر”، وبالتالي فإنّ مردوده من المشتل معدوم للفترة المقبلة.

بدوره يقول محمد الحريري، صاحب مشتل الهبة، إنّ المزارعين ألغوا طلبياتهم، ممّا كبّده خسائر كبيرة ومنها شتول البطيخ التي جهّزها كما كل عام، وعددها 500 ألف شتلة بطيخ تبلغ قيمتها الشرائية حوالي 250 ألف دولار، لم يتمكّن من تصريفها. وجهّز الحريري أيضًا ما يقارب 700 ألف شتلة ملفوف وقرنبيط تلَفَت بدورها وتُقدّر قيمتها بآلاف الدولارات. 

خسائر في بساتين الكرمة في الوزاني

أبعد من العويضات، من يعالج سلامة التربة وصلاحيتها؟ 

يؤكّد القصف بالفوسفور مع ما يتركه من آثار بيئية سامّة على التربة والمحاصيل، واحتمال استعمال إسرائيل للقنابل العنقودية في عدوانها الحالي على جنوب لبنان، أنّ التعامل مع خسائر القطاع الزراعي وأضراره على المزارعين وحياة الناس وأمنها الحياتي وعلى مجمل الحياة الاقتصادية في الجنوب، لا يتعلّق فقط بحجم الخسائر المادية المباشرة لتلف المحاصيل ولا بتعويض الخسائر المالية المترتبة عن تلف الموسم الحالي ولا حتى عن نتائج عدم تمكنهم من التحضير للموسم المقبل، بل يتعدّاه إلى ضرورة معالجة آثار العدوان على التربة والمزروعات وتداعيات الجرائم البيئية التي ارتكبها. فقد وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير لها استخدام العدو الإسرائيلي للسلاح الفوسفوري الحارق على أرض الجنوب، ما ترك تداعيات كارثية على التربة والأشجار. وأكدت النائبة والخبيرة البيئية الدكتورة نجاة صليبا، في مقابلة في إطار تحقيق لـ “المفكرة” أنّ “السلاح الفوسفوري قضى على مواسم المزارعين وحتمًا ألحق الأذى بالتربة فهو يتحلل بمياه الشتاء ليتحوّل حمضًا فوسفوريًا”، وتابعت نّه “لا يمكن حسم أثره على المدى البعيد لأنّ ذلك يتطلّب فحوصات مخبرية دقيقة للتخلّص من الترسّبات”، وكان مصدر في وزارة الزراعة قد أكد لـ”المفكرة”، أنّ معالجة أضرار التربة من الفوسفوري تحتاج إلى الوصول إلى الأراضي المتضررة، مع أخصائيين يقومون بأخذ العيّنات وإجراء الاختبارات لتحديد العلاج الأنسب، وهذا إجراء لا يمكن القيام به إلّا مع انتهاء العدوان والتمكّن من الوصول إلى الأراضي المتضرّرة كونها محاذية للحدود وطبعًا توفير التمويل اللازم لخطوات مماثلة.

أما رئيس بلدية الضهيرة، عبد الله سالم، التي طالها القصف بالفوسفوري فيشرح لـ”المفكرة” أنّ التربة والأراضي التي استهدفت عبارة عن كتلة من الغبار، وإلى اليوم هناك بقع ترابية لا تزال قابلة للاشتعال بمجرّد العبث بها. وخاصية تجدّد اشتعال الأراضي المحترقة عند تعرّضها للهواء تأتي بسبب الفوسفور، وفق ما أكد الباحث أنطوان كلّاب، من مركز حماية البيئة في الجامعة الأميركية في بيروت لـ “المفكرة”: “هناك خطورة اشتعال الفوسفور من جديد في كلّ مرّة يتعرّض فيها للأوكسجين سواء على المساحات والأراضي أو على جسم الإنسان”.

إضافة إلى الفوسفوري أدى استعمال العدو القنابل المضيئة إلى احتراق واشتعال مساحات شاسعة من الأراضي، وكانت قرية علما الشعب من أكثر القرى المتضرّرة. ويفيد نائب رئيس البلدية ويليم حداد، “المفكرة” أنّ الحريق طال مساحات من الأحراش ومن الكروم 90% منها مزروعة زيتونًا، إضافة إلى ثمار القشطة والأفوكادو والحمضيات.

صورة مأخوذة من دراسة “مركز حماية البيئة في الجامعة الاميركية” حول الأثر الاجتماعي والبيئي لذخائر الفسفور الابيض.
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني