جرائم نظام من دون عقاب


2022-04-05    |   

جرائم نظام من دون عقاب

وجد اللبنانيّون أنفسهم بعد 17 تشرين، أكثر من أي وقت مضى، في موعدٍ شبه يوميّ مع نظام الإفلات من العقاب. هذا الموعد المُتكرّر حصل بدايةً في القضايا المتّصلة بالانهيار وسط مطالب متزايدة بردّ حقوق المودعين واسترداد الأموال المنهوبة، وعاد ليمتدّ لفترة أطول في سياق التحقيق في جريمة تفجير المرفأ. وقد شكّلت تلك المواعيد مُناسبات استثنائيّة لتعزيز الوعي العام بشأن نظام الإفلات من العقاب ومقوّماته ومدى ارتباطِه العضويّ بنظام الحكم، وهو وعي من شأنه، بفعل تمحْوره حول مبادئ العدالة، أن يأخذ طابعاً توحيدياً عابراً للقوى الطائفيّة المهيمنة. وعليه، وجدتْ تلك القوى نفسها أمام تهديد غير مسبوق، قوامه نشوء رأي عام وازن من شأنه زعزعة نظام الحصانات والإفلات من العقاب أو على الأقل تحميلها مسؤولية تبعاته مع ما لذلك من أكلافٍ سياسيّة. وعليه، لم تكتفِ تلك القوى بالتدخّل في المحاكم أو في كواليسها كما دأبتْ عليه من قبل، بل خصّصتْ طاقاتٍ مُضاعفةً لمواجهة تنامي الوعي العام والمساحة المُشتركة التي ولّدها بهدف طمس ذلك الوعي وإغراقه مجدّداً في كمّ من الاعتبارات السياسية والطائفية تمهيداً لنسف تلك المساحة المُشتركة بالكامل. فكأنّما تلك القوى وجدت ضالّتها في الدفاع عن نظام الإفلات من العقاب لإعادة فرض الشمولية السياسيّة الحاجبة لأيّ وعي عام: فلا صوت يعلو على قرقعة التناحر العصبي وصِراعات المحاور، ومنتهى أيّ قضية قضائية رفعت أو سترفع هو أن تتحوّل إلى ساحة جديدة لهذه القرقعة.

وانطلاقاً من ذلك، يصبح من الضروريّ لفهم نظام الإفلات من العقاب والإحاطة به، ليس فقط مُراقبة ما يحصل داخل المحاكم أو في كواليسها، بل بالأخصّ ما يبرز في الخطاب العامّ من سرديّات وسرديّات نقيضة. وهذا ما سنحاول إنجازه في هذا الملفّ الذي تعمّدنا أن نجمع فيه قضايا مُتباينة بهدف استكشاف المُشترك ما بينها بمعزل عن المعطيات الخاصّة بأيّ منها.

وما يزيد من أهمية إنجاز هذا الملفّ، هو قناعتنا بمحوريّته في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان. فكما لا يمكن فهم الماضي وانزلاقاتِه بمعزل عنه، لا يمكن بناء دولة تتوفّر فيها أدنى مقوّمات المساواة والعدالة من دون تجاوزه. فأنْ نعيش في نظام إفلات من العقاب يعني أنّنا نعيش في نظامٍ تسوده القوّة بمعزل عن أيّ بُعد أخلاقيّ، وتالياً في نظام تهيمن فيه مصالح فئوية لا يعقلها شيء وتضمحلّ فيه تماماً المصلحة العامة. وبذلك، تصبح اللامبالاة حيال احتمال تدمير الاقتصاد أو احتمال تفجير العاصمة نتيجة متوقّعة، طالما أنّ الكلّ مسكونٌ بالخطر الذي قد يتهدّد مصالح الأقوياء في موازاة تسفيه أيّ خطر قد يتهدّد المجتمع برمّته. وبذلك، يكون من المتوقّع أن نتحوّل إلى مجتمع من الضحايا، مجتمع يخضع لنظام لا يُعاقَب ولا يعاقِب.

بيداغوجيا الواقع

تمثّلت أوّل صدمات ما بعد 17 تشرين في اكتشاف اللبنانيين تحوّل المصارف من مُحترف بخدمتهم إلى سلطة تتحكّم بودائِعهم فلا يستفيدون منها إلّا بالقدر الذي ترتضيه، وهي سلطة لا تحدّها أيّ سلطة أخرى. وعليه، بَدَت المصارف وكأنّها تحجُب إفلاسها كشركة تجارية، بجبروتها كسلطة أمر واقع. وقد تضاعفت الصّدمة حين اكتشف الرأي العامّ أنّ هذه السلطة عمدتْ في موازاة حجز ودائعهم إلى إجراء حوالات إلى الخارج لصالح عددٍ من أصحاب النفوذ، بعدما فُهم أنّ ثمّة استحالة في تحديد هوية هؤلاء بفعل قواعد “السرّية المصرفية”. بمعنى أنّ هؤلاء لا يبقون فقط بمنأى عن المحاسبة القضائية وحسب، بل أيضاً بمنأى عن الضوء بحيث تبقى خطاياهم كلّها مخفيّة. فكأنّما السرّية المصرفيّة تخفي كمّاً هائلاً من جرائم الفساد، تماماً كما أخفَتْ المقابر الجماعيّة في الحرب كمّاً هائلاً من جرائم القتل.

في ظلّ هذا الواقع، وحيال المطالب الشعبية بكفّ يد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بصورة فوريّة تمهيداً لمحاسبته على دوره في التسبّب بالانهيار، لمَعَ مفهوم “التّدقيق الجنائي”. وقوامُ هذا المفهوم هو تكليف شركة تدقيق (لا يتخيّل إلّا أنّها عالميّة) التّدقيق في حسابات مصرف لبنان كشرط مُسبق لبدء المحاسبة الإدارية والقضائية للحاكم وسائر القائمين على مصرف لبنان فضلاً عن مدراء المصارف. وقد أسهم هذا المفهوم عمليّاً في تمكين القوى السياسية كافة من إعلان تمسّكها بضرورة محاسبة هؤلاء ومن دون أن تحصل أيّ محاسبة فعليّة. وهنا أيضاً برزتْ ذريعة السرّية المصرفيّة كخاتم سحري لنسف المحاسبة أو على الأقل عرقلتها. فبِفعل هذه الذريعة، تمّ إفشال عمل الشركة المدقّقة المُختارة من حكومة حسّان دياب وإنهاء العقد معها وذلك في 26/11/2020. وقد احتاجتْ السلطات العامّة بعد ذلك إلى قرابة شهر لوضع القانون رقم 200/2020 بتعليق أحكام السريّة المصرفيّة لحاجات التّدقيق الجنائي. وفي حين حدّد هذا القانون مدة تعليق السرّية المصرفية بسنة واحدة (انتهت في 30 كانون الأوّل 2021)، فقد تعيّن انتظار منح الثقة لحكومة نجيب ميقاتي (أي تسعة أشهر أخرى) ليُعاد إحياء عقد التّدقيق الجنائي بذريعة عدم جواز تحقيق ذلك في ظلّ حكومة تصريف أعمال. وهي ذريعة واهية طالما أنّ المجلس النيابي الذي يمنح الحكومات الثقة أو يحجبها عنها، أعلن صراحة أولوية التدقيق الجنائي بما يمنح الضوء الأخضر لإنجازه من قبل أيّ حكومة حتى ولو كانت حكومة تصريف أعمال. ويُخشى أن يكون هذا التأخير قد تسبّب في نسف إمكانية التدقيق الجنائي وبخاصة أنّ مدة تعليق السرّية المصرفية انتهتْ في أواخر سنة 2021 بعد أسابيع من إعادة إحيائه من دون أن يتسنّى للهيئة العامّة لمجلس النوّاب النظر في اقتراح قانون بتمديد مهلة تعليق السرّية المصرفية على الرغم من توفّر الأكثرية المؤيّدة لمنحِه صفة العجلة.[1] [2] 

بقي أن نشير في هذا الخصوص إلى أنّ السرّية المصرفية لا تستخدم فقط كذريعة لإعاقة التدقيق الجنائي كما حصل خلال السنة السابقة، بل قد تؤدّي إلى تفْريغ التّدقيق الجنائي من مضمونه وتجريده من الغايات التي يفترض أنّه وُجدَ أصلاً من أجلها. وتتأتّى هذه الخشية بشكل خاص من تعليق السرّية المصرفيّة لحاجات التّدقيق الجنائيّ حصراً، من دون أن يكون للقضاء أن يستفيد منه، ولا حتى بما يتّصل بالملاحقة القضائية التي قد تستوجبُها نتائج هذا التدقيق. وقد بدا إذ ذاك أنّه على فرض تمّ التدقيق الجنائي في تجاوز تامّ لمجمل العوائق القانونية والفعلية، فإنّ النتائج التي سيُسفر عنها ستبقى مشمولة بالسرّية ولا يمكن استخدامها في أيّة ملاحقة قضائية إلّا بموجب قانون آخر قد لا يصدر أبداً.

وهكذا لا يزال التدقيق الجنائيّ الذي لم يبدأْ فعليّاً إلّا بعد سنتيْن من انفضاح الانهيار عالقاً في زجاجة السريّة المصرفيّة، في حين يبقى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة متربّعاً في مركزه رغم كلّ الشبهات التي تُحيط به، مُمْسكاً بزمام التصرّف بما تبقّى فيه من ذخيرة.

سيتكرّر المشهد نفسه بعد بدء التّحقيقات في قضية تفجير المرفأ حيث سيكتشف اللبنانيون سبباً آخر بالغ الخطورة للإفلات من العقاب: الحصانات. والملفت أنّ قوى سياسيّة كانتْ أعلنَتْ في 2019 عشيّة الانهيار ومن بعده التزامها الحدّ من الحصانات ضماناً للمساءلة والمحاسبة، عادَتْ لتنقلب على ذاتها فور بروز شبح ملاحقة مقرّبين منها في قضية تفجير المرفأ. المثال الأبرز على ذلك هي مواقف النائب حسن فضل الله. فإذ تقدّم هذا النائب في سنة 2019 بمعية النائب هاني قبيسي باقتراحيْ قانون[1] لتمكين القضاء من ملاحقة أيّ وزير شارك في أي حكومة منذ 1992 في حال الاشتباه به في دعاوى هدر المال والفساد المالي، فإنّه عاد ليشترك في مساعِي النّواب الحثيثة لإنكار اختصاص المحقق العدلي في التحقيق مع أيّ من الوزراء السابقين المُشتبه بهم بحجة أنّ الجهاز الوحيد صاحب الصلاحية لمحاكمة الوزراء هو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وهذا الأخير هو مجلس وهميّ لم ينعقدْ يوماً بالنظر إلى صعوبة توفير الغالبية المطلوبة للاتهام أمامه (وهي ثلثي العدد القانوني للنواب). الاتّجاه نفسه نستشفّه من حملات التمجيد بمدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم التي انطلقتْ فور الإعلان عن الاشتباه به، وذلك بشكل خاصّ في الضاحية الجنوبية ومناطق واسعة من الجنوب، وذلك تهيئة لرفْض إعطاء الإذن بملاحقته. وقد ذهبتْ هذه الحملات ومآلُها أيضاً في اتّجاه معاكس لاقتراح القانون[2] الذي كان تقدّم به النائب فضل الله بتعديل المادة 61 من قانون الموظّفين العامّين بهدف تمكين القضاء من ملاحقة أيّ منهم من دون الحاجة إلى استِئذان أحد.

وعليه، سقط خطاب حزب الله بضرورة رفع الحصانات بالكامل ليحلّ محلّه على العكس من ذلك تماماً خطاب حول أهميّة التمسّك بالحصانات المكرّسة في القانون والدستور، حصانات لم يتردّد البعض في إضفاء ما للدّستور من قدسيّة عليها ومن شنّ حروب دفاعاً عنها وصولاً إلى تعطيل الحكومة بالكامل. ومن هذا المنطلق، أمكن للرأي العام أن يتبيّن ليس فقط خطورة الحصانات في منع المحاسبة، ولكن أيضاً باطنيّة خطاب القوى السياسيّة في مُقاربة مسائل الحصانات وتالياً المحاسبة بشكل عامّ.

وقد أعادتْ تداعياتُ الانهيار والتفجير تظهير كمّ كبير من الجرائم التي بقيَتْ بدورها بمنأى عن أيّ ملاحقة، بعضها جرائم مستمرّة منذ عقود كجرائم إشغال الأملاك العمومية وبخاصّة البحرية وجنْي ثروات من استثْمارها من دون تسديد أيّ مقابل للدّولة. كما عاد حديثٌ نشِطٌ عن الاحتكارات وصفقات الفساد في مسعى لشرح أسباب تبديد الموارد العامّة وصولاً إلى الانهيار أو لشرح أسباب الإذلال الذي تعرّض له المواطنون من جرّاء تخزين السلع والأدوية المدعومة. والمُشترك في إثارة هذه القضايا هو طابعها الإعلاميّ الذي قلّما قابلته تحقيقاتٌ قضائيّة وهي تحقيقاتٌ انتهتْ في حال حصولها إلى نتائج هزيلة قوامها حجب المسؤولية أكثر من كشفها أو إغراق القضايا في خزانات العدلية. وفضلاً عن الحصانات القانونية، اكتشفَ الرأي العام عمُوماً في هذه المناسبات كافّة، الإشكالات العارمة التي تتحكّم بتنظيم النيابة العامّة وبخاصّة في قضايا الفساد والتي تجعلُها حكراً على عددٍ قليل من الأشخاص (وبخاصة النائبيْن العامّين التمييزي والمالي)، يكفي ضمان ولائهم للتحكّم بالنظام الجزائي برمّته ولتوْسيع دائرة الحصانات لتشمل ليس فقط أصحاب الحصانات القانونية ولكن أيضًا وربما قبل كلّ شيء أصحاب الحصانات الفعلية. كما اكتشف الرأي العامّ مفهوم الصفة والمصلحة في المداعاة والذي غالباً ما يؤدّي إلى إنكار صفة المواطنين في الطّعن في العديد من القرارات الصادرة عن السلطات العامة وعملياً إلى تحصينها حيال أي رقابة قضائيّة مهما أخلّت بقواعد الشرعية أو اعترتها شبهات فساد.

وقد أدّت كلّ هذه المناسبات كما سبق بيانه إلى تعزيز الوعي العام بنظام الإفلات من العقاب ومقوّماته وتالياً إلى توسيع المساحات المشتركة للمطالبة بتحقيق العدالة. وليس أكثر دلالة على ذلك بروز شعار استقلالية القضاء على رأس مطالب انتفاضة 17 تشرين وأيضاً الدّعم غير المسبوق الذي عبّرت عنه حشود 4 آب 2021 للمحقّق العدلي طارق بيطار والإجراءات المتخذة منه والأهمّ لإسقاط الحصانات.

الوعي في محضر العصبية

أمام تنامي الوعي العام حول خطورة نظام الإفلات من العقاب، سرعان ما استشعرتْ القوى المستفيدة منه محدودية التخفّي وراء الأحكام القانونيّة (السرّية المصرفية) أو الدستور (حصانات النوّاب أو الإجراءات الخاصّة بملاحقة وزراء) بفعل التعارض الفادح بين الغايات المتوخّاة من إثارتها لهذه الأحكام والحدّ الأدنى من مبادئ العدالة. وقد تجلّت هذه المحدودية في حملات سخط عارم ضدّ خطاب هذه القوى بالدّفاع عن الحصانات برز بشكل خاصّ ضدّ ما أسمتْه “المفكرة القانونية” المناورات الاحتيالية[3] لمنع المسّ بالحصانات. درءاً لذلك، غالباً ما رأتْ هذه القوى في سياق تصدّيها للمُلاحقة القضائيّة الحاصلة ضدّ أركانها أو مؤيّديها ضرورة الانتقال من الدفاع إلى الهجوم من خلال برمجة تدخّلات واسعة ومتنوّعة في الخطاب العامّ، كل ذلك بهدف إغراق الوعي العام في بحر من الاعتبارات السياسية والطائفية والتشويش عليه.

فبفعل هذا التشويش، تأمل هذه القوى في إضعاف أيّ حراك حقوقي جامع ضدّ منظومة الإفلات من العقاب وتالياً تحقيق غاياتها بأقلّ أكلاف سياسيّة مُمكنة وعمليّاً تحويل القضيّة المطروحة من قضيّة تحرجُها إلى وسيلة لشدّ عصب أتباعها وبشكل غير مباشر لشدّ عصب المجموعات التي تُخاصمها وتغذّيها بقدر ما تتغذّى منها. وبذلك، وفي حين تشكّل القضايا الحقوقية المطروحة مناسبات لإجماع وطني يؤمل أن ينتهي بتطوير المؤسسات وتعزيز عمل العدالة، ترى القوى المستفيدة من منظومة الإفلات من العقاب (على اختلافها) تجْهد بشكل منتظم لجعلِها محور انقسام جديد تتواجه في معرضها عصبيّات متناحرة.

ولعلّ أهمّ الوسائل المستخدمة في هذا الخصوص اللجوء إلى فرض سرديّات مناقضة عن القضايا المطروحة مؤداها تقويض مشروعيّة الملاحقة فيها. وهذا ما نستشفّه بشكل فاقع في متابعة الخطاب العام في قضيّة تفجير المرفأ بهدف تحويل معركة إسقاط الحصانات إلى معركة حول كفاءة المحقق العدلي بيطار ونزاهته وارتباطاته السياسية وصولاً إلى تحويلها إلى معركة ضدّ تعزيز دور القضاء في محاسبة الجرائم. وبذلك، يصوّر بيطار ليس على أنّه قاضٍ يقتضي الامتناع عن استخدام وسائل الضغط ضدّه أو التدخّل في عمله، بل على أنّه طرف سياسيّ من المشروع مواجهته بالوسائل السياسية المتاحة بمعزل عن أيّ ضوابط قانونية أو أخلاقية.

في الاتجاه نفسه، نقرأ الهجوم ضدّ القضاة الذين سعُوا إلى خرق تفلّت المنظومة المصرفية من العقاب. ففي حين تكتسي مداهمة المصارف (كما حصل مع المحامي العام جان طنّوس عند مداهمة مصارف عدة في قضية الإثراء غير المشروع المتصلة بحاكم مصرف لبنان وشقيقه في 11 كانون الثاني 2022) أو شركات الصرافة (كما حصل مع النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون في قضية مكتّف في نيسان 2021) رمزية هامّة على صعيد استعادة الدولة لسيادتها، عمد خطاب الجهات المتضررة من هذه المداهمة إلى تصوير هذه المداهمات على أنها تخرج تماماً عن العمل القضائي السوي وتتهدّد القطاع المصرفي وعالم الأعمال برمّته. وليس أكثر دلالة على ذلك من تصريح[4] رئيس الحكومة ميقاتي الذي ذهب في 12 كانون الثاني 2022 إلى حدّ تشبيه مداهمة ستة مصارف في قضية الأخوين سلامة والحاصلة بمؤازرة أمنية على أنّها اعتداء مُسلّح ضدّ القطاع المصرفي، ولم يتردّد عن التصريح بأنّ حتى إسرائيل لم تقم باعتداء بهذه الخطورة. وقد اعتبر إذ ذاك تدخّله لوقف المداهمة تصحيحاً لمسار خاطئ وليس تدخلاً في القضاء. الأمر نفسه نستشفه من خطابات رجال الدين[5] والعديد من المراجع السياسية ومعدّي أخبار وسائل الإعلام احتجاجاً على خلع الباب في شركة مكتّف من دون أن يتوقّف أي منهم أمام خطورة إغلاق الباب في وجه النيابة العامة وخطورته. 

وعليه، غالباً ما يتمّ قلب مشهد القضيّة رأْساً على عقب بحيث تصبح مسألة الحصانات أو الإفلات من العقاب مسألة قليلة الشأن مقارنة بالخطر النّاشئ عن الملاحقة نفسها. بل غالباً ما تترافق هذه الحملات ضدّ القضاة مع التشكيك في مشروعيّتهم بحجّة أنّهم مسيّسون أو تابعُون أو فاسدُون أو ساذجون أو شعبويّون أو طائفيّون وما إلى ذلك من نعوت. ولعلّ أخطر ما في هذه الحملات أنّها تشترك بشكل فاقع في تكريس ممارسات من شأنها تمكين أي شخص نافذ من تقويض أيّ عمل قضائيّ والأهمّ تحويل أيّ قضيّة حقوقيّة مهما بلغت أهميتها، إلى ساحة للتناحر السياسي الذي قد يصل إلى مستوى التناحر العصبيّ أو صراع المحاور. وعليه، يُصبح إسقاط الحصانات عن الوزراء أو الموظّفين مسألة غير مجدية طالما أنّه على فرض حصوله، فإنّ محاكمة هؤلاء ستتمّ من قبل مراجع غير موثوقة وستتحوّل تالياً بصورة شبه حتميّة إلى مناسبات للكيديّة والمُماحكة السياسية من دون أن يؤْمل منها بحال من الأحوال الوصول إلى الحقيقة أو العدالة. وبذلك، لا بأس في إسقاط اقتراح القانون برفع السرّية المصرفية[6] لصالح النيابات العامة بحجّة أنّ لا ثقة في القضاء. ولا بأس في إسقاط اقتراح القانون بمنح نواب إمكانية الطعن أمام مجلس شورى الدولة[7] بالقرارات الإدارية المضرّة بالأمْلاك والأموال العامة بما قد يضعها بمنأى عن أيّ مراقبة قضائية بحجّة أنّ القضاء في وضعه الحالي غير جدير بأيّ صلاحية إضافية ولا بأس أخيراً في التمسّك بالحصانات على اختلافها وبحصْر الاختصاص بمحاكمة الوزراء بمجلس يفترض أنّ الكلّ يعلم علم اليقين بأنّه وهميّ لم ينعقد يوماً، فضلاً عن كون تركيبته سياسيّة وذلك على خلفية شكوك بأنّ القضاء مسيّس. ولا بأس بالنتيجة (وهنا قمّة العبث) من استمرار نظام الإفلات من العقاب على حاله من دون أي تغيير.   

هذا هو المشهد الذي أردنا دراسته بكلّ تعقيداته على طول هذا الملف.


[1] المرصد البرلماني لبنان، سباق نيابي يقابله سبات قضائي لرفع حصانات غير موجودة: اقتراحا قانون يؤكدان اجتهاد التمييز حول حصانة الوزراء (جلسة تشريعية نيسان 2020)، المفكرة القانونية، 19/4/2020.
[2] المرصد البرلماني لبنان، إبقاء حصانة الموظفين مجمّلة، المفكرة القانونية، 11/11/2019.
[3] فادي إبراهيم، الحريري يقترح تعديل الدستور لرفع الحصانات: مناورة احتيالية ثالثة لعرقلة التحقيق في مجزرة المرفأ، المفكرة القانونية، 28/7/2021.
[4] منير الربيع، ميقاتي لـ”المدن”: انهيار البلد والحكومة ممنوع.. والصراعات مستمرة حتى الانتخابات، المدن، 12/1/2022.
[5] نزار صاغية وفادي إبراهيم وعماد صائغ، فتح علبة باندورا بمناسبة قضية مكتّف: من حوّل الأموال إلى الخارج؟ وكيف؟، المفكرة القانونية، 24/9/2021.
[6] المرصد البرلماني لبنان، كامل نتائج الجلسة التشريعية أيار 2020: محاصصة العفو العام تطيّر الجلسة بعد مناقشة 11 من أصل 37 مقترحا “مظلومية” النوّاب وخوفهم من كيدية القضاء غير المستقل تصون سريتهم المصرفية، المفكرة القانونية، 30/5/2020,
[7] المرصد البرلماني لبنان، كامل نتائج الجلسة التشريعية نيسان 2020 (2): ضجيج مكافحة الفساد يتخلله تعزيز لفساد الزبائنية؛ المحاسبة تحت راية العفو العام، المفكرة القانونية، 25/4/2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مصارف ، مجلة لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني