تونس مجدّدًا أمام مجلس حقوق الإنسان (2): التنكيل بالقضاء في مرآة جنيف


2023-03-14    |   

تونس مجدّدًا أمام مجلس حقوق الإنسان (2): التنكيل بالقضاء في مرآة جنيف

تلقت تونس أثناء الاستعراض الدوري الشامل 30 توصيّة تعلقت باستقلالية القضاء والمحاكمة العادلة قبلت 17 منها، وأرجأت موقفها من 12 توصية وأعلنت أنها توصلت فقط بتوصية واحدة. وبالنظر في هذه التوصيات، نلحظ أن التوصيات المقبولة بصفة أوّلية تعلقت بتوصيات عامة حول دعم استقلال القضاء وإرساء المحكمة الدستورية وإقرار حماية القضاة عبر تبنّي نظام أساسي خاص بهم ودعم الإعانة العدلية[1]. أمّا التوصيات التي أرجأت تونس الإجابة عليها، فتتعلق كلّها بالقضاء العسكري ودوره في محاكمة المدنيين بما في ذلك الإعلاميين والإعلاميات والمدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان. كما لم تجب تونس عن توصية واحدة تقدمت بها بلجيكا تتعلّق بإعادة المجلس الأعلى للقضاء السابق المجلس “الشرعي” في 12 فيفري 2022.[2]

وبالتدقيق في هذه التوصيات نلاحظ أنها تعلّقت بأغلب المسائل ذات العلاقة بالقضاء عموما والقضاة ونظامهم الأساسي.

توصيات حول استقلاليّة القضاة

وردت على تونس مجموعة من التوصيات العامة والتفصيلية ذات العلاقة المباشرة باستقلاليّة القضاء ومختلف مؤسساته: أوصت كل من كوستاريكا وإسبانيا وفنلندا والولايات المتحدة بدعم استقلالية القضاء والفصل بين مختلف السّلط وخاصة بين التنفيذي والقضائي. وتأتي هذه التوصيّات ردّا على ما يعيشه القضاء في تونس منذ 25 جويلية 2021 من تدخّل متواصل وممنهج في الشأن القضائي عموما وفي التأثير على مجرى الدّعاوى. فقد أسند الرئيس في خطاب 25 جويلية 2021 لنفسه صلاحية رئاسة النيابة العمومية، ثم عدل عن ذلك في النصوص التي أصدرها لاحقا وخاصة الأمر عدد 117 لسنة 2021. إلا أنه ومن حيث الواقع تواصل التدخل في الشأن القضائي ليتبلور في مجموعة من الإجراءات الرئاسية التي تتالت بعد 19 جانفي 2022 إلى حين صدور الدستور الجديد ورفض الحكومة تنفيذ قرارات القضاء المتعلقة بالقضاة المعزولين.

وكان أول الإجراءات ضدّ استقلالية القضاء والمجلس الأعلى للقضاء حصل بصدور المرسوم عدد 4 المؤرخ في 19 جانفي 2022 والذي نقّح القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء. وبمقتضى هذا التنقيح، علّق رئيس الجمهورية كلّ الرواتب والمنح التي تسند للمجلس، ثم كان المرسوم عدد 11 المؤرخ في 12 فيفري 2022 والذي بمقتضاه حلّ رئيس الجمهورية المجلس المنتخب وسمّى مجلسا مؤقتا للقضاء… وانتهى بذلك المسار الذي أحدثه دستور 2014 وقانون 2016 فيما يتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء لتصبح لرئيس الجمهورية الصلاحيات الواسعة وليصبح ” الرئيس الفعلي” للسلطة القضائية وليكون لوزارة العدل كلمة فصل في مسار القضاة والتحكم في المسار التأديبي خاصة. أعقب هذه الخطوة اتّخاذ الرئيس إجراءً خطيرًا جدًّا تمثل في إصداره الأمر عدد 516 في الأول من جوان 2022 يتعلّق بإعفاء 57 قاض.

وكان ذلك أبشع مظهر من مظاهر التدخل في الشأن القضائي وكان دونما استشارة المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي كان عينه الرئيس في 12 فيفري 2022، وهو ما يتنافى مع أبسط مبادئ الفصل بين السلط وحصانة القضاة.

وتأكّد هذا الاعتداء على القضاء برفض رئيس الجمهورية ووزارة العدل تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية القاضية بإيقاف تنفيذ أمر إقالة القضاة الصادر عن رئيس الجمهورية في حقّ ما مجموعه 49 من القضاة في قراراتها الصادرة في 10 أوت 2022. ولم تصدر المحكمة قراراتها بإيقاف التنفيذ في بقية قرارات الرئيس (في حق 8 قضاة) نظرا لوجود قضايا أو إجراءات متعلقة بهم/بهن أمام القضاء.

إلا أن قرارات المحكمة بقيتْ دونما تنفيذ. لا بل أن وزارة العدل أمعنتْ في الاعتداء على استقلالية القضاة من خلال مباشرة دعاوى ضدّ القضاة المستفيدين بقرارات المحكمة وهو ما يمثل تلاعبا خطيرا بالإجراءات والقوانين ومبادئ المحاكمات العادلة ويؤكد أن قرارات الإعفاء الصادرة في الأول من جوان 2022 لم تستند إلى أي ملف عدلي أو أي اتهامات جدّية ومستندة إلى وثائق أو قرائن.

دعم المؤسسات القضائية: شبح المحكمة الدستورية وأنقاض المجلس الأعلى للقضاء

ارتبطت أغلب التوصيّات المتعلّقة بدعم المؤسسات القضائية بوجوب إرساء كلّ من المحكمة الدستورية ودعم المجلس الأعلى للقضاء.

فبالنسبة للمحكمة الدستورية، تلقّت تونس 6 توصيات من كوستاريكا ومالطا ولوزوتو والجبل الأسود (مونتنغرو) وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وإذ ذكّرت هذه التوصيات كلّها بوجوب إرساء المحكمة الدستورية وشروط نجاعتها، فهي أكّدت في الوقت نفسه على وجوب استقلالية المحكمة وتسمية أعضائها ودعمها بالموارد الكفيلة بجعلها مستقلة وناجعة. وتأتي هذه التوصيات في ظرف دقيق جدّا حيث لم يتمّ إرساء المحكمة الدستورية رغم تنصيص دستور 2014 عليها وصدور قانونها الأساسي منذ 2015 ( القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 مؤرخ في 3 ديسمبر 2015). وفيما لم تنجحْ الأطراف السياسية الممثلة في البرلمان في انتخاب أعضائها، بقي الأمر على ما هو عليه إلى أن كان إعلان الحالة الاستثنائية في 25 جويلية 2021 وحلّ الهيئة الوقتية لرقابة دستورية القوانين بموجب الأمر الرئاسي 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021.

تبعا لذلك، تم تغييب أي هيكل لرقابة الدستورية، بما منح رئيس الجمهورية صلاحية مطلقة في إصدار نصوصه القانونية (المراسيم والأوامر) دونما أي رقابة ويتواصل الأمر إلى اليوم. ورغم تنصيص الدستور الجديد على إحداث محكمة دستورية، إلا أنه لم يتمّ إصدار النصّ القانوني الذي سينظمها ولا تعيين أعضائها أو تعيين هيئة وقتية للإشراف على رقابة الدستورية في انتظار إرساء المحكمة الدستورية. إلاّ أن التوجه العام ومنذ 25 جويلية 2021 هو عدم إخضاع أعمال الرئيس لأيّ رقابة كانت، حيث جاء في الأمر عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 والمتعلّق بتدابير استثنائية، أنه “لا تقبل المراسيم الطعن بالإلغاء”.

أمّا بالنسبة لدعم المجلس الأعلى للقضاء، فقد تلقّت تونس توصيتيْن: الأولى تقدّمت بها سويسرا وهي تتمثل في وجوب أن يؤسس المجلس الأعلى للقضاء القادم (والذي سيخلف المجلس الأعلى المؤقت للقضاء) على مبادئ استقلالية القضاء وحماية القضاة من تدخل السلطة التنفيذية في عملهم ومسارهم المهني، حسب ما تقتضيه الأحكام والمبادئ الدولية. وإذ قبلت تونس هذه التوصية، فإن قبولها يرشح عن مغالطة كبرى، ولا سيما أن الدستور الجديد نفسه ينتقص من استقلالية هذا المجلس وسلطته. أول المؤشرات على ذلك هو عنوان الباب الخامس من الدستور ومضمونه. فلئن تمّ عنونتُه “الوظيفة القضائيّة” (بما يؤشّر إلى قطع مع دستور 2014 الذي اعتبر القضاء سلطة)،  اكتفى هذا الفصل بأن أحال على القانون تنظيم القضاء وتنظيم مجالسه العليا العدلي والإداري والمالي بعدما ألغى المجلس الأعلى المكون من هذه المجالس الثلاثة. وعليه، وفي حال استمرار السلطة الحالية، يرجّح أن يأتي القانون مفرغا من مبادئ استقلالية المعمول بها دوليا، على غرار ما شهدناه منذ 25 جويلية. ويتأكد ذلك ليس فقط في تعنت السلطة السياسية في رفض تنفيذ قرارات وقف تنفيذ إعفاءات القضاة، إنما أيضا في رفضها إقرار الحركة القضائية السنوية للقضاة وهو الأمر الذي لم تشهده تونس منذ يوم استقلالها.

ومن البدهي أن هذه المعطيات كلها تشير إلى رفض تونس ضمنا توصية بلجيكا بإعادة المجلس الأعلى للقضاء المنتخب والسابق لتاريخ 12 فيفري 2022.

في وضعية القضاة وحمايتهم: الهشاشة

تلقّت تونس يوم 8 نوفمبر 2022 مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى حماية القضاة ودعم تكوينهم وإصدار قانونهم الأساسي. وردت هذه التوصيات من سويسرا ورومانيا والبرازيل ولوكسبورغ وبلوروسيا وبوراندي وقد قبلتْها تونس كلّها. هذا القبول التامّ لكلّ هذه التوصيات والتي أكّدت على وجوب حماية القضاة من تدخل السلطة التنفيذية في عملهم ودعم حصانتهم، يتناقض تماما مع واقع الحال وفق ما بيناه أعلاه. ولا نبالغ إذا قلنا أن تدخّل السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية في الشأن القضائي تكاد تكون يوميّة، سواء في الخطب والمجالس التي يرأسها والتي لا تكاد لا تخلو من اتّهام القضاة سواء قضاة النيابة أو القضاء الجالس بالتقاعس عن القيام بعملهم ومن الفساد والتورّط في مختلف أنواع التجاوزات[3]. هذا فضلا عن أنه رغم  مرور 7 أشهر على المصادقة على دستور 25 جويلية، لم تتم أي مبادرة حكوميّة حول وضع نصّ قانوني ينظم سلك القضاء ويضمن استقلاليته وحماية القضاة خلافا لما دعتْ إليه التوصيات التي سارعت تونس إلى قبولها.

حماية المدنيين من “المنظومة القضائية العسكرية”؟

وردت في إطار المراجعة الدولية 11 توصية تتعلّق بعدم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري (الولايات المتحدة 7.16 سويسرا 7.17، رومانيا 7.18، سلوفاكيا 7.19، ألمانيا 7.20، كوستاريكا 7.21، 7.22 المملكة المتحدة، 7.23 الترويج، 7.24 جنوب أفريقيا، استونيا 7.25 النمسا 7.26). وقد جاءت هذه التوصيات إثر موجة المحاكمات العسكرية للمدنيين، حيث تمّت إحالة 16 مدنيا على القضاء العسكري من بينهم صحفيين ومدنيين ومواطنين على خلفية تصريحاتهم أو تفاعلاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الممتدة من 25 جويلية 2021 إلى مارس 2022. هذه الإحالات الكثيفة تجاوزت كل الإحالات التي تمت على مدى عشر سنوات حيث لم تتم إحالة إلا 10 مدنيين على القضاء العسكري من 2011 إلى 2021، وهو إجراء خطير يضع الحياة المدنية المبنية على الحرية ضمن نظام استثنائي وضع للعسكريين وهو نظام مبني على الانضباط. وما يزيد من قابلية هذه الإحالات للانتقاد أن العقوبات المضمّنة في مجلة الإجراءات والعقوبات العسكرية أكثر صرامة وشدة من العقوبات المضمّنة في المجلة الجزائية، ممّا يضرب مبدأ الأمان بالنسبة للمدنيين ويرهبهم ويزرع فيهم/ فيهن الخوف والرقابة الذاتية.   

والملاحظ أن تونس أرجأت التعبير عن موقفها من هذه التوصيات إلى جلسة 24 مارس 2023، مما يدّل على أن هذه المسألة لم تحسم بعد وأن السلطة القائمة غير مقتنعة تماما بعدم إحالة المدنيين على القضاء العسكري. لا بل على العكس، لا تجد السلطة حرجا في مواصلة إحالة مدنيين أمام القضاء العسكري، وقد سجل أبرزها في الآونة الأخيرة في تاريخ 20 جانفي 2023[4]. كما يلحظ أن دستور 25 جويلية 2022 قد لزم الصمت تماما حيال المحاكم العسكرية، منحيّا تماما ما كان ورد في الفصل 110 من دستور 27 جانفي 2014 لجهة أن “المحاكم العسكرية محاكم متخصّصة في الجرائم العسكرية ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها”. ومن شـن تنحية هذا الفصل أن يؤشر إلى إرادة واضحة لإبقاء القضاء العسكري على ما هو عليه والإبقاء على مجلة الإجراءات والعقوبات العسكرية الصادرة منذ 10 جانفي 1957.

الحق في الإعانة العدلية

قدمت كل من بوتسوانا والكاب فار توصيتين هامتين لتونس تتعلّقان بجعل الإعانة العدلية متاحة للفتات الأكثر “هشاشة” وخاصة النساء وذوي وذوات الإعاقة. وتأتي هذه التوصية في ظرف تعمل فيه منظمات المجتمع المدني للدّفع على تبني سياسة جديدة وحديثة للإعانة العدلية تبني بالأساس على الوضعية الآنيّة للمستفيدين منها وليس بربطها فقط بالموارد المالية لهم/لهن من ذلك مثلا حق الانتفاع الآلي للنساء والأطفال ضحايا العنف وكذلك كل الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة والمهاجرات والمهاجرين وضحايا الإتجار والتعذيب وغيرها من الوضعيات التي تجعل من هؤلاء الأشخاص في وضعيات استضعاف. كما يؤمل من السياسة الجديدة المقترحة تبسيط إجراءات الانتفاع بالإعانة والإعلام حول وجودها وكيفية الولوج إليها دونما تعقيدات قانونية ومادية.


[1] توصيات 6.17- 6.52- 6.53 – 6.54 – 6.59-6.20-6.21-6.22-6.23-6.53-6.54-6.55-6.57-6.58-.6.60-6.78-6.79-6.64

[2] التوصية عدد 8.38

 

المفكرة القانونية, هو الرئيس هو القاضي هو السجان, بتاريخ 20 02 2023 الرابط: [3]

https://legal-agenda.com/%d9%82%d8%b6%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b7%d8%a7%d8%b1-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85/

[4]

محاكمات المطار: أنظر محمد العفيف الجعيدي. القضاء العسكري في قضية المطار: قراءة في مسار إجرائي نصّب الاستثناء مبدأ، المفكرة القانونية بتاريخ 16 فيفري/ شباط 2023، الرابط.:

https://legal-agenda.com/%d9%82%d8%b6%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b7%d8%a7%d8%b1-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85/

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، منظمات دولية ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني