تونس مجدّدًا أمام مجلس حقوق الإنسان (1): مطالبات بالعودة إلى النظام الدستوري


2023-03-10    |   

تونس مجدّدًا أمام مجلس حقوق الإنسان (1): مطالبات بالعودة إلى النظام الدستوري
صورة من كلمة رئيسة الحكومة نجلاء بودن أمام مجلس حقوق الإنسان، نوفمبر 2022، من موقع بزنس نيوز

بعد ان استعرضت تونس تقريرها الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الإنسان[1] في 8 نوفمبر 2022، تمّ نقاشها وتقديم التوصيات لها من قبل 113 دولة فيما مجمله 283 توصيّة. وبصفة أولية، تفاعلت تونس إيجابيا مع 185 توصية، وأجّلت الإجابة عن موقفها بشأن 44 توصية إلى أجل أقصاه الدورة 52 لمجلس حقوق الإنسان (المبرمجة بين 27 فيفري و4 أفريل 2023 وحدّدت جلسة تونس ليوم 24 مارس 2023) كما أعلنت أنها أحيطت علما بـ 45 توصية قد تتفاعل معها يوما أو قد تبقيها على ما هي عليه. والملاحظ أن التوصيات التي قدمت إلى تونس من قبل 113 دولة من مختلف المجموعات السياسية والثقافية والجغرافية قد شملت غالبية مجالات حقوق الإنسان.

هذه التوصيّات وتفاعل تونس معها، تمثل بالنسبة لنا مصدرا هامّا من مصادر المعلومات التي تبيّن من ناحية قراءة مختلف الدول (المجتمع الدولي) لواقع حقوق الإنسان في تونس، ومن ناحية أخرى أولويات الدولة التونسية في مجال الحقوق الإنسانية وموقفها من بعض الحقوق والحريات التي لا تزال تطرح إشكالا بالنسبة لها وخاصة في هذه المرحلة التي تمرّ بها منذ 25 جويلية 2021 وبعد الاستفتاء على الدستور الجديد في 25 جويلية 2022 وإصداره في الرائد الرسمي بتاريخ 18 أوت 2022 ثم القيام بالانتخابات التشريعية في دوريتها الأولى بتاريخ 17 ديسمبر 2022 والثانية في 29 جانفي 2023.

فقد أعربت عديد الدول عن انشغالها فيما يتعلّق بالحالة السياسية وتأثيرها على حقوق الإنسان. إلا أن الدول التي توجهت لتونس بتوصيات لم تكتفِ بالوضع الراهن في تونس بل قدمت توصياتها في جميع المجالات: الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق البيئية والحقوق في التنمية إلى جانب حقوق مختلف المجموعات المميّز ضدها.

Restore Constitutional Order

لقد تمّ استعمال عبارة “العودة إلى النظام الدستوري أو التنظيم الدستوري” من قبل دولة جنوب إفريقيا في توصيتها لتونس « Restore Constitutional order » (التوصية رقم 8.25). وكانت أوضح توصية فيما يتعلّق بالتنظيم السياسي التونسي بعد 25 جويلية 2021 وبعد الاستفتاء على الدستور في 25 جويلية 2022.

وهو ما لم تحذُ حذوه بقية الدول التي كانت تتابع بدقة ما يحصل في تونس خاصة بعد صدور الدستور الجديد والإعلان عن تنظيم الانتخابات التشريعية عند مناقشة تقرير تونس في 8 نوفمبر 2022.  فكأنه لم يعد من المجدي طلب العودة إلى التنظيم الدستوري السابق لأنها مسألة “تجاوزتها الأحداث” ولم تتمسك بها إلا دولة جنوب إفريقيا صراحة. حيث أوصت تونس ودعتها إلى العودة إلى التنظيم الديمقراطي السابق بما في ذلك عودة البرلمان السابق والمؤسسات الدستورية التي علّقت أو ألغيت مع إعلان حالة الاستثناء (التوصية 8.25).

إلا أن الدعوة إلى عودة تونس إلى المسار الديمقراطي جاء من خلال عديد التوصيات التي لم تدعُ إلى عودة التنظيم السابق لـ 25 جويلية إنما أكدت على وجوب أن يتمّ أي تغيير أو”إصلاح” في احترام للضوابط المتوافق عليها ديمقراطيا ودوليّا. وهذا ما نقرأه في العديد من التوصيّات العامة أوالتفصيليّة.  

ومن أهم هذه التوصيّات، التوصية بإنهاء حالة الاستثناء والطوارئ (توصية كندا عدد 7.13)، والتوصية بإرساء المحكمة الدستورية والهيئات الديمقراطية (توصيات عديد الدول منها البرتغال عدد 6.16، السودان عدد 6.19 وزمبيا 6.26، إيرلندا 6.27، ناميبيا 6.28، كوت ديفوار عدد 6.29، أوزباكستان عدد 6.30، نيبال عدد 6.31، أثيوبيا عدد 6.48… وغيرها من التوصيات : 6.32 ، 7.14 ، 7.15، 8.26، 6.33).

ما يلفت النظر هو التفاعل الايجابي للدولة التونسية (بصفة أولية) مع هذه التوصيات. إذ أنها قبلت أغلب التوصيات المتعلقة بإرساء المؤسسات الديمقراطية بما في ذلك المحكمة الدستورية. إلا انّ هذه المؤسسات تعاني منذ صدور الدستور في 18 أوت 2022 من مجموعة من المشاكل :

اولا، عدم دسترة أغلب الهيئات الدستورية باستثناء هيئة الانتخابات ممّا يفقد هيئات مثل هيئة حقوق الانسان وهيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة مكافحة الفساد، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، المكانة الدستورية التي كانت لها صلب دستور 2014،  

ثانيا، إضعاف المؤسسات المتبقية في الدستور وخاصة المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية، حيث تمّ إضعاف صلاحيّاتها وتشديد الرقابة عليها من حيث اختيار أعضائها وجعلها هياكل تقنية فقط.

ثالثا، ورغم مرور أكثر من 6 أشهر على صدور الدستور، لم يتمّ إرساء أيّ من المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء رغم السهولة الإجرائية لإرساء كلّ منهما حيث لم تعدْ التّسميات تخضع للإجراءات المشدّدة التي أقرّها دستور 2014 والقوانين المطبقة له وخاصة قانون المحكمة الدستورية لسنة 2015 وقانون المجلس الأعلى للقضاء لسنة 2016.

فضلا عن التوصيات العامة المشار إليها أعلاه، أبدتْ عدد من الدول توصيات تفصيليّة للعودة إلى المسار الديمقراطي: هذه التوصيات عديدة جدّا حيث تعلقت بالانتخابات ووجوب استجابتها للقواعد المتفق عليها دوليا (توصية تشيكيا عدد 6.66 وتوصية إيطاليا عدد 6.73)، وإرساء نظام قائم على فصل السلط والتوازن بينها (توصية إسبانيا 6.52، وفنلندا 6.53، والولايات المتحدة الأمريكية 6.54)، وكذلك باستقلال القضاء عموما وخاصة المجلس الأعلى القضاء. ومن اللافت هنا أيضا أن تونس قبلت 17 توصية تتعلّق بوجوب إرساء مجلس أعلى مستقلّ يضمن استقلال السلطة القضائية.

كما أحيطت تونس علما بمجموعة من التوصيات التي تعلقت بإعادة إرساء المجلس السابق (التوصية عدد 8.38 بلجيكا). وهو ما يؤكد الرّفض المطلق لكل مؤسّسات ما قبل 25 جويلية 2021. إلا أن القبول بالعدد الكبير للتوصيات المتعلقة باستقلال القضاء لم يترجم لا في النصوص القانونية وبخاصة في دستور 2022 ولا في الواقع حيث تواصل السلطة التنفيذية وخاصة رئيس الدولة قيس سعيّد ووزيرة العدل ليلى جفّال التدخّل في الشأن القضائي بصفة لا تضمن استقلاليته بل تؤدي إلى تخويف القضاة وترهيبهم ممّا يؤثر حتما على استقلاليتهم لتجعل منهم إمّا طيّعين لذوي السلطة التنفيذية (القضاة المنسجمين) أو قضاة تقنيين فقط لا دور لهم في الشأن العام.

موقف المجتمع الدولي من وضع الحقوق المدنية والسياسية:

فضلا عن ذاك، تلقّت تونس عشرات التوصيات المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية.

بعض هذه التوصيات حثّت تونس على مواءمة تشريعاتها مع الدستور ومع الالتزامات الدولية من ناحية وعلى الانضمام والمصادقة على الاتفاقيات الدولية.

مواءمة التشريع الداخلي

فعلى مستوى المواءمة، تلقّت تونس قرابة العشرين توصية من قبل عديد الدول من بينها دول من المنطقة العربية والقارة الأفريقية (الجزائر، اليمن، كينيا، ملاوي، ساموا، ماليزيا، النيجر، أستراليا، سويسرا، كندا، أوكرانيا، جنوب السودان، فلسطين، رومانيا، أوزباكستان، إيرلندا…). وقد أكدت أغلب هذه التوصيات على وجوب مواءمة المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية مع المعاهدات الدولية، وكذلك مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية فيما يتعلّق بمحاكمة المدنيين، وتفعيل دور لجنة المواءمة وأخذ آرائها بعين الاعتبار من قبل الدولة التّونسية.

وإذ أعلنت تونس قبول التوصيات المتعلقة بمواءمة المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية،   فإن هذه الإيجابية لا تتطابق مع واقع الحال: فعلى الرغم من انتهاء اللجنة التقنية من مشروع مجلة الإجراءات الجزائية الجديد منذ سنة 2019 ومصادقة مجلس الوزراء عليه، فإنه لم يعرض أبدا على مجلس نواب الشعب قبل 25 جويلية 2021 ولم يلقَ أيّ اهتمام من رئيس الجمهورية بعد استيلاء هذا الأخير على ملكة التشريع. الأمر نفسه نسجله بشأن مشروع المجلة الجزائية الجديدة، حيث أن اللجنة المكلفة بوضعه منذ 2014 لم تعمل في إطار الشفافية ولم يصدر في شأنها أيّ نصّ قانوني ولم تقدّم للعموم إلا جزءا واحدا من عملها يتعلّق بباب المبادئ العامة في 2018. ومنذ ذلك التاريخ لم نعد نعلم إن كانت اللجنة موجودة أو لا، بنتيجة التعتيم على العمل الحكومي وبخاصة نشاط وزارة العدل.

في الاتّجاه نفسه، نقرأ إيجابية تونس بشأن توصية  دعم اللجنة الوطنية لمواءمة النصوص القانونية مع أحكام الدستور والاتفاقيات المصادق عليها، حيث أنّ اللّجنة لم تعد تجتمع منذ ماي 2022 أي قبل الاستفتاء على الدستور. والملاحظ أن هذه اللجنة كانت قد قدّمت قراءتها ومقترحاتها لمجموعة من النصوص ذات العلاقة بحقوق الإنسان إلى رئاسة الحكومة تعلقت خاصة بمجلة الجنسية وقانون النهوض بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ومجلة الأحوال الشخصيّة… وهو ما استشهدت به الحكومة عند تقديمها لتقرير تونس أمام مجلس حقوق الانسان في 8 نوفمبر 2022. إلاّ أنّ التغيرات المتعاقبة على الحكومات التونسية وخاصة بعد 25 جويلية 2021 أثرت كثيرا على اللّجنة وعملها، حيث تغيّر ارتباطها إداريّا من الوزارة المكلفة بحقوق الإنسان إلى رئاسة الحكومة بعدما قضتْ فترة لم تعلم خلالها بمن ترتبط إداريا وصولا إلى إلحاقها برئاسة الحكومة. هذا فضلا عن قلة موارد هذه اللجنة وعدم نشر أعمالها.

وإلى ذلك، أرجأت تونس الردّ فيما يتعلّق بمجلة العقوبات العسكرية، بما يعكس ترددها حيال حصر دور القضاء العسكري. كما أنها لم تتفاعل مع التوصية المتعلقة بوجوب مواءمة مجلة الأحوال الشخصية (توصية أستراليا 8.43)، بما يعكس ترددها هنا أيضا في تحقيق المساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال.

توصيات بالمصادقة على اتفاقيات حقوق الإنسان:

تلقّت تونس مجموعة 15 توصية تدعوها إلى المصادقة أو الانضمام إلى معاهدات ونصوص دولية متعلقة بحقوق الإنسان، من أبرزها (1) اتفاقية أسطنبول حول العنف المنزلي (اتفاقية مجلس أوروبا) وكذلك الاتفاقية عدد 190 لمنظمة العمل الدولي، لسنة 2019 المتعلقة بالعنف والتحرش في أماكن العمل. و(2) الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمّال المهاجرين وأفراد عائلاتهم (وهو مطلب اجتمعت عليه كل من مالي والمغرب والكوت ديفوار وبنين وبنغلاديش). كما أوصت النرويج بالمصادقة على (3) اتفاقيات منظمة العمل الدّولية عدد 97 و143 حول العمال المهاجرين. تأتي هذه التوصيات مع وجود القانون عدد 7 المؤرخ في 8 مارس  1968 المتعلق بوضع الأجانب في تونس وهو قانون لا يتماشى تماما مع أي من القواعد والأحكام الدولية المنظمة لحقوق الأجانب عموما. وهو ما دعت كل المنظمات إلى تغييره وتعويضه بنص قانوني أكثر ملاءمة لحقوق الإنسان. يضاف إلى ذلك توصيات بالمصادقة على (4) الاتفاقيات المتعلقة بمنع الإتجار في الأسلحة ومنع انتشار الأسلحة النووية (مالاوي) و(5) اتفاقية حقوق الشعوب الأصلية، لمنظمة العمل الدولية عدد 169 (الدانمارك). ويلحظ أن تونس لم تبين موقفها من هذه الاتفاقية والتي قد تفرض المصادقة عليها الاعتراف بحقوق المجموعات الأثنية أو اللغوية المختلفة وخاصة حقوق الأمازيغ، وهو ما لم تقبله تونس منذ توصيات مجلس حقوق الإنسان في 2008 وتواصل إنكارها لهذه المجموعات إلى حدود تقرير 2017 حيث قبلت فقط بتوصيّة تدريس اللّغة الامازيغية ضمن النوادي المدرسية فقط وليس في إطار المقرّرات العادية والرسمية للتربية والتعليم.

وبالنظر في تفاعل تونس مع مختلف التوصيات فإننا نلاحظ أنها لم تقبل إلا توصية واحدة متعلّقة بالمصادقة على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الاعاقة، (توصية غامبيا عدد 6.1). وهو قبول يرشح عن مغالطة كبرى إذ أن تونس صادقت منذ 2008 على هذه الاتفاقية من دون أن تفعلها في القوانين الداخلية (تنقيح القانون الوطني التوجيهي عدد  83 لسنة 2005 مؤرخ في 15 أوت 2005 المتعلق بالنهوض بالأشخاص ذوي الإعاقة). وعليه، لا تزال تونس تتعامل مع هذه المجموعة الاجتماعية في إطار مقاربة الإعانة والإحسان وليس في إطار مقاربة حقوق الإنسان والتي تجعل من ذوي/ذوات الإعاقة أصحاب حقوق.

بالنسبة لبقية التوصيات فإن تونس أرجأت موقفها لتاريخ 24 مارس القادم وهو ما يعكس خشيتها من الإقرار بها، ولكن ننتظر أن تعيد نفس مواقفها السابقة لجهة رفض الانضمام إلى الاتفاقيات الخاصة بالمهاجرين وباللجوء حتى لا يتم فتح الباب أمام الالتزام بها خاصة وأن البلاد التونسية لم تضبط بعد موقفا واضحا من هذه المسائل. فمن ناحية هي لا تريد إقرار الحقوق الإنسانية للمهاجرين (خاصة غير النظاميين) على أرضها ومن ناحية أخرى لا تريد منح صفة اللاجئ/ اللاجئة حتى تحافظ على علاقاتها مع عديدي الدول التي يمكن أن تكون مصدرا لطالبي اللجوء وخاصة من منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وهو ما يفسّر عدم إصدار قانون وطني يتعلّق بهذه المسألة رغم وجود مشروع منذ 2014.


[1] وحيد الفرشيشي, الاستعراض الدوري الشامل للمغالطات, المفكرة القانونية 08/11/ 2022 الرابط: https://legal-agenda.com/%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3-%d8%a3%d9%85%d8%a7%d9%85-%d9%85%d8%ac%d9%84%d8%b3-%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3/

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، منظمات دولية ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني