القانون الجنائي في مواجهة جرائم العنف ضد النساء: الحلقة المفقودة


2022-08-23    |   

القانون الجنائي في مواجهة جرائم العنف ضد النساء: الحلقة المفقودة

جاءت حادثة مقتل سلمى بعد حادثة مقتل نيرة بأقل من شهريْن لتدق ناقوس الخطر على اتّخاذ قضايا العنف ضدّ النساء في المجال العام منعطفًا خطيرًا. فبعد حوادث التحرّش المتكرّرة والمستمرّة منذ سنوات، والتي أصبحتْ خبرًا متكررًا من دون أي رادع قوي رغم كل الجهود خلال السنوات الماضية، ثم ابتزاز الفتيات بصور وفيديوهات مقابل “خدمات جنسية”، يُخشى أن يتكرر الأمر ذاته مع حوادث قتل النساء.

هذا ويُشار إلى أن قضايا العنف ضدّ النساء في المجال الخاص، مثل ضرب الزوجة والبنات، وحبسهن أو منعهن من استكمال دراستهن، أو التحرّش بهن من أقارب، أو العنف المعنوي والعاطفي، حتى الوصول إلى القتل فيما يعرف بقضايا “الشرف” تمّ الاعتياد عليها في المجتمع المصري منذ عقود، حتى أصبحت بمثابة أمور اعتياديّة في الأقسام والنيابات والمحاكم.

ومع القراءة الاجتماعية والجندرية لهذه الجرائم باعتبارها جرائم ضد النساء على أساس النوع الاجتماعي أو بعبارة أخرى تستهدفهن لأنهنّ نساء، نقترح هنا أن نتناول الموضوع من زاوية أخرى، هي زاوية القانون الجنائي وبالأخصّ السياسيّة الجنائية في مواجهة هذه الجرائم، مع التأكيد على أهمية الزوايا الأخرى بل وضرورة النظر إليها وأخذها بعين الاعتبار لوضع سياسة متكاملة لمواجهة هذه الظواهر.

دأب المُشرّع المصريّ خلال السنوات الماضيّة على تجريم بعض الأفعال بصورةٍ واضحةٍ مثل التحرّش، وتغليظ العقوبات بالنسبة لجرائمَ أخرى مثل الختان. كما يقوم القاضي الجنائيّ بتطبيق عقوباتٍ مشدّدة عند نظر قضايا تهديد الفتيات بنشر صورٍ فاضحةٍ لهن لابتزازهن للدخول في علاقة، وطبعًا قضايا القتل التي تعاقب بالإعدام، كما سنفصل في هذا المقال. ولكن نلاحظ أنّ تغليظ العقوبة وتطبيق أقصاها لا يأتيان بثمارهما. فهذه الأفعال مازالت مستمرة، بل أن العنف ضدّ النساء بأشكاله المختلفة مستمرّ ويأخذ أشكالًا أكثر حدّة كلّ يوم، حتى وصل الأمر إلى وجود فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو إلى قتل الفتاة والنفس، إذا استحال الزواج[1]. هذا التطبيع مع العنف ضد النساء بصورة خاصّة، والقتل بصورة عامّة، يدعونا إلى تأمّل السيّاسة الجنائيّة للدولة المصريّة لمواجهة العنف ضدّ النساء، كدراسة حالة يمكن أن تعطينا بعض المؤشرات للسياسة الجنائية بشكلها العام.  

لوم الضحية وإفلات الجاني من العقاب

تبع حوادث القتل الأخيرة، لوم الضحايا، النساء، على أفعالهن، في إشارة لكون هذه الأفعال السبب وراء مقتلهن، في محاولة لتبرير القتل والتعاطف مع القاتل. وحقيقة أن ثقافة لوم الضحية (عندما تكون امرأة) ليست جديدة على المجتمع المصري، بل ونجد لها سندًا قانونيًا أحياناً، على رأسها، على سبيل المثال، ما يُعرف ب “جرائم الشرف”.

فقتل الرجل لزوجته إذا تيقّن من خيانتها، يُعتبر سببًا من أسباب تخفيف العقوبة في جريمة القتل حسب المادة 237 من قانون العقوبات التي تنص على: “من فاجأ زوجته حال تلبّسها بالزنا وقتلها في الحال هي ومن يزني بها يعاقب بالحبس”. وهذه الفلسفة التشريعية، تروّج، ولو ضمنيا، لثقافة لوم الضحية. ففعلها، الزنى، هو ما أدى إلى مقتلها، لدرجة تستدعي تخفيف عقوبة جريمة القتل على الجاني، والحكم أحيانا، حسب تقدير القضاة، بوقف تنفيذها. بالإضافة إلى التعاطف مع الجاني، باعتباره انتصر لشرفه. وهو الأمر الذي يدلّل عليه عدم النصّ على تخفيف العقوبة على المرأة إذا وجدت زوجها مع امرأة أخرى.

وهو الأمر الذي يتكرّر كذلك في جرائم مثل ضرب الزوجة والأبناء، الذي خضع، وما زال، لجدل حول جواز عقابه وفقاً للشريعة الإسلامية تحت شعار “تأديب المرأة”، والذي قد يفلت الجاني من العقاب عليه، لأن الضحية – الزوجة أو الأبناء وخاصة الفتيات – فعلتْ ما يستحق التأديب. بالتالي فليس على الجاني، الذكر، أي حرج.

ونفس الأمر نجده في أسباب الامتناع حتى الآن عن تجريم الاغتصاب الزوجي. فالمدافعون عن عدم التجريم يذهبون إلى أنّ المرأة في هذه الحالة امتنعتْ عن أداء واجبها الشرعي تجاه زوجها، وهو حق له. بالتالي أخذها رغماً عنها لا يمكن اعتباره بأي حال جريمة، فهي من أخلت بواجباتها: مجدداً لوم الضحية لفرار الجاني من المسؤولية الجنائية.

تعكس هذه الأمثلة نظرية فكرية تشير إلى أن القيم الاجتماعية التي يحميها القانون الجنائي هي قيم الفئة المسيطرة على المجتمع[2]، التي ستكون، في هذه الحالة، الذكور.

صورة من مجلة لبنان العدد 63

تغليظ العقوبات: التدخّل لعقاب المجرم

“تشريع قانون هو من أكثر الوسائل الاقتصادية[3] لتأكيد أن مشكلةً ما تمّ الاهتمام بها”[4].

تهدف السياسة الجنائيّة في أيّ دولة إلى أمور عدّة، على رأسها محاولة منع وقوع الجريمة، وعند وقوعها عقاب الجاني وإعادة الأمان للمجتمع وتعويض الضحية.

لكلّ هدف من هذه الأهداف أدبيات تنفيذه، ولكن تأتي العقوبة لتخدم كلاهما. فالعقوبة تُساهم في منع وقوع الجريمة أو ردع الجاني المحتمل من خلال خوفه من تطبيق العقوبة عليه، بالتالي عدم القيام بالفعل المجرم. وفي الحالة الثانية، هي أداةٌ لعقاب الجاني، أو منعه من ارتكاب جرائم أخرى[5]، وإعادة الأمان للمجتمع من خلال سجن الجاني وبالتالي إبعاده ونفيه عنه. كما تمثّل شكلًا من أشكال تعويض الضحية من خلال رؤية عقاب الجاني يتحقق، مما يولّد شعوراً برجوع الحق، ويأتي التعويض المالي ليكمّل ذلك. ولكن العقوبة ليست كافيّة للردع، ولا يمكن أن تكون الأداة الوحيدة لمواجهة جريمة أو ظاهرة متكرّرة. ورغم ذلك، نلاحظ أن المُشرّع المصريّ يفضّل اللجوء لتغليظ العقوبة كوسيلةٍ لردع الجناة عند استمرار الظاهرة، في رسالةٍ لاهتمام الدولة بالمشكلة، من دون مواجهة المشكلة باستراتيجيّة أوسع لحلّها من جذورها.

فقد قام المشرع المصريّ خلال السنوات القليلة الماضية بتغليظ عقوبة جريمة التحرّش الجنسيّ لتصل حالياً، وفقاً لأخر تعديل في 2021، إلى الحبس بين سنتين وأربع سنوات، مع تغليظ العقوبة لتصل إلى السجن 7 سنوات في حال كون الجاني من أصول المجني عليه/ها، أو المتولّين تربيته/ها، أو ذا سلطة دراسية، أو أسرية أو وظيفية على المجني عليه/ها[6]. وسبق هذا التعديل تعديل أخر في 2014 لعقاب فعل التحرش الجنسي بعقوبة الحبس لمدة لا تقلّ عن ستة أشهر، من دون النص على تغليظ العقوبة في حال وجود صلة قرابة أو صلة أخرى بين الجاني والمجني عليه/ها.

على نفس النهج، تمّ تغليظ عقوبة الختان في 2016 ثم مرة أخرى في 2021، لتصل إلى السجن مدّة لا تقلّ عن خمس سنوات لمن قام بالختان، مع تشديد العقوبة إذا كان الفاعل طبيبًا أو مزاولاً لمهنة التمريض، بالإضافة إلى توسيع إطار التجريم ليشمل كلّ من طلب أو دعا أو روّج أو شجّع على الختان.

ونأخذ هاتيْن الجريمتيْن على سبيل المثال هنا، لنناقش دلالة تكرار إجراء تعديلات في مدة زمنية قصيرة وما يمكن أن نستنبطه عن السياسة الجنائية لمكافحة جرائم العنف ضد المرأة.

تشريع قانون بشكل عام هو شكلٌ من أشكال تعامل الدّولة مع مشكلة مجتمعيّة، وتغليظ العقوبة أو وضع عقوبة مشدّدة من أول مرة، هي أداة من أدوات ردع الجاني بلا شكّ، ولكنها ليست الأداة الوحيدة، ويمكن أن تمثّل العقوبة المشدّدة عاقبةً أمام الإبلاغ عن الفعل، خاصة إذا وقع داخل إطار العائلة مثل جريمة الختان. وهو ما أشارت إليه بعض التقارير الصادرة عن منظّمات غير حكوميّة، داعية الحكومة لإعادة النظر في عقاب كلّ من دعا أو طلب الختان، لأنه قد يمنع الأهل من الإبلاغ عند حدوث مضاعفاتٍ خلال عملية الختان، لاحتمالية عقابهم والزجّ بهم في السجن. وهذا الامتناع يؤدّي إلى هروب كل الفاعلين من المسؤولية الجنائية، مما يأتي بنتائجَ معاكسةٍ تمامًا للنتائج المرجوة من التشريع.

أما بالنسبة للتحرّش، فإن استمرار الظاهرة رغم تغليظ العقوبة يعني أنه ليس كافياً لمواجهة هذه الظاهرة. ولا نرجو أن يؤدي استمرارها لتغليظ العقوبة مرة أخرى، وكأن التشريع الجنائي هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة الجرائم، فجريمة التحرش تستدعي تغيير النظرة المجتمعية للمرأة، وملبسها والخطاب الديني. كما نلاحظ غياب العقوبات غير الاحتجازية، مثل خضوع الفاعل لدورة عن حقوق النساء في المجتمع، واحترام المجال العام…إلخ لإعادة تأهيله وإدماجه في المجتمع[7]، وتفادي قيامه بذات الفعل مرة أخرى.

بالإضافة إلى أن حوادث قتل النساء الأخيرة تأتي لتضع نجاح هذه الاستراتيجية موضع تساؤل. فجرائم القتل العمد معاقبٌ عليها بالإعدام[8]، أو السجن المؤبّد أو المشدّد[9]، ويتمّ الحكم بالإعدام وتنفيذه في مصر. بالتالي، لا يوجد أيّ سبب لدى الجناة للاستخفاف بهذه العقوبة. وعليه، علينا أن نتساءل إذا كانت عقوبة الإعدام نفسها لم تردعْ الجاني، فما الذي يمكن أن يردعه؟  الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال، هو أنه لا يوجد في خانة العقوبات ما يمكن أن يردعه بعد الإعدام. بل، إن الدعوات التي ظهرت من الرأي العام، والمحكمة نفسها في قضية مقتل نيرة، بإذاعة تنفيذ حكم الإعدام، لردع الجناة المحتملين، قد تأتي بنتيجة عكسية. وهو ما تناوله مفكرون مثل بكاريا وفوكو[10] منذ سنوات طويلة، ملاحظين ومحلّلين تعاطف العامّة مع الجاني عندما كانت تُنفّذ أحكام الإعدام في الساحات العامة في الماضي.

بالتالي علينا أن نلتفت إلى النظريات الأخرى في علم الجريمة والعقاب والتي تقرّ بأن النتيجة المضمونة للعقوبة، هي عقاب الجاني ومنعه من تكرار الجريمة (لمدة زمنية محدّدة على الأقل، حيث يمثل العود مثالًا قويًّا على إمكانية أن تكون العقوبة غير رادعة بالقدر الكافي للمحكوم عليه نفسه[11])، وأن من شأن العقوبة مهما كانت درجة شدّتها، أن تساهم في منع ارتكاب الجريمة، إذا تيقّن الفاعل المحتمل من تطبيق القاضي لها وتنفيذها، اتّباعًا لنظرية بكاريا[12]، ولكن يجب أن يصاحبها أدوات أخرى تعمل على الردع العامّ، وعدم تهيئة المجال للجريمة، بالتالي حماية المجتمع عن طريق منع الجريمة من الحدوث من الأساس.

دور القاضي الجنائي في تطبيق القانون  

في ظل جرائم جسيمة مثل القتل، يلتفت المجتمع إلى القاضي الجنائيّ مطالباً إياه بالقيام بدور ردعيّ عن طريق المحاكمة العاجلة وتوقيع أقصى العقوبة، كوسيلة لإنصاف الضحية وتعويضها، ولردع أيّ جانٍ محتملٍ عن ارتكاب جريمته. ويتمّ ذلك مع تناسي أنّ دور القاضي الأول هو تطبيق القانون وتحقيق العدالة، مع حماية حقوق المواطنات والمواطنين وحريّاتهم، مع التزامه بمبدأ الحياد. والردع يتحقق من خلال تطبيقه للقانون.

وقد لاحظنا، في الفترة الأخيرة، في قضايا قتل النساء على سبيل المثال، وليس الحصر، قيام القضاة بتوبيخ المتّهمين. فقام رئيس هيئة المحكمة بتوجيه كلمة للمتّهم (حينها) في جلسة إحالة أوراقه بمقتل نيرة إلى فضيلة المفتي، في محاولة لتعريفه بجسامة فعله، ولإرسال رسالة للمجتمع. وهي الكلمة التي أحدثتْ جدلُا كبيرًا بسبب تعبير المحكمة عن رأيها واستحقاق المتّهم للإعدام قبل المداولة، وقبل إجماع الآراء على إعدامه[13]. في قضية أخرى، قام رئيس المحكمة بلوم المتهم بقتل شقيقته حرقًا لخلاف على الميراث، ثم أمره بالخروج من قفص الاتهام وتقبيل يد أمه لشكرها على تنازلها عن الدعوى المدنية وعن شهادتها التي استعطفت فيها هيئة المحكمة أن ترأف بحالها كأمّ فقدت ابنتها ولا تحكم بإعدام ابنها الثاني. وهو ما استجابت له المحكمة حيث حكمت عليه بالسجن المؤبد. وتكرّر الأمر في قضية هتك عرض لفتاة على يد شقيقها حيث وجّه القاضي كلمةً يُعرّف بها الجاني بجسامة فعله قبل الحكم عليه بالسجن المشدّد 10 سنوات. وقد اعتبر القاضي، في هذه الكلمة، الفعل الذي أقدم عليه الجاني إمارة على خلل جسيم بقيم المجتمع مطالبًا بالتكاتف للأخذ بالناس لقيم الدين الحنيف وقيم ومبادئ المجتمع.

وتدلّل هذه الأمثلة على ميل القضاة للقيام بتوجيه المجتمع، بل وتوبيخ المتّهمين ولومهم بأقسى العبارات، في محاولةٍ لردع الجريمة. وهو ما يخرج عن دور القاضي المنوط به تطبيق القانون والالتزام بمبدأ الحياد.

كما يمكن لهذا الضغط المجتمعي على القضاة باعتبارهم المسؤولين عن ردع الجريمة، الإسراع في جلسات المحاكمة، لتحقيق العدالة الناجزة، مما قد ينتج عنه تشكيك البعض في مدى اتّباع إجراءات المحاكمة وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية، والتي تحمي حقوق المتهم، ولكن تُعدّ حماية لحق الضحية كذلك، حيث إن اتّباعها قد يقي من نقض الحكم، من محكمة النقض.

حماية المجتمع والضحايا المحتملين: كيف تمنع الدولة وقوع الجرم؟

الشرطة: الحلقة الأولى لمواجهة التهديد وإنفاذ العقوبة

في قضيّة مقتل سلمى، انتشرتْ بشكلٍ واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، صورةٌ كان نشرها الجاني قبل قيامه بفعلته يهدّدها بالقتل بشكل صريح. وقد يتساءل البعض لماذا لم تقم المجني عليها بالإبلاغ عنه؟ مع عدم إمكانية الجزم بعد قيامها بذلك، من المهم أن نذكّر أنّ إبلاغًا كهذا في حال حصوله، كان يمكن أن ينتج عنه محضر في قسم الشرطة يتعهّد فيه الجاني بعدم التعرّض لها. ولكن هل هذا المحضر يكفي لمنع الجريمة؟

جاء في حكم محكمة جنايات المنصورة في قضية مقتل نيرة، أن الضحيّة قامتْ بتحرير محاضرَ ضدّ الجاني بعد تهديده لها بقتلها ذبحًا، بالإضافة إلى عقد جلسة عرفية بين الأسرتيْن لمنعه من مضايقتها، وتوقيعه لتعهد بعدم التعرّض لها بعد محاولة التعدي عليها سابقاً أمام الجامعة.

في هذه الحالات، نطرح سؤالًا حول جدوى محاضر “عدم التعرّض” التي تُحرر في أقسام الشرطة، عدا عن كونها وسيلةً لإثبات النيّة وسبق الإصرار إذا تمّ ارتكاب الجريمة وصولًا إلى تغليظ العقوبة، فهل تمثّل أداة حمايةٍ حقيقيةً للضحية المحتملة، ولا سيّما أنّ قانون الإجراءات الجنائيّة لا ينظّم حالات هذا المحضر وآثاره؟ هذا مع العلم أنه ليس للشرطة فيما عدا ذلك أيّ دورٍ آخر يذكر.

على الجانب الآخر، تشير بعض المقالات إلى أنّ الشرطة لعبتْ أحيانًا دورًا سلبيًا في مكافحة جرائم العنف بشكل عامّ، وفي جرائم التحرّش والعنف الأسريّ بشكل خاصّ. فقد تمّ توثيق حالاتٍ عدّة نجحتْ فيها مساعي الشرطي المسؤول في إقناع الضحية بعدم تحرير محضر الشكوى أو التنازل عنه، على نحو حال دون التحقيق مع الجاني وإفلاته من العقاب. وإذا تم التحقيق، يظهر عائق الإثبات المادي الذي ينتج عنه حفظ المحاضر في النيابة من دون تحويلها إلى المحكمة.  وعليه، يفقد تشريع العقوبة قيمته الردعية، فحسب نظرة بكاريا المذكورة أعلاه، ضمان العقاب هو الذي يضمن الردع وليس شدة العقوبة.

جهود الدولة لمكافحة العنف ضد المرأة

كما سبق بيانه، لا تكفي العقوبة وحدها لمنع الجريمة، بل أن القانون الجنائي يعتبر جزءًا من سياسة جنائيّة أوسع لمكافحة الجريمة، تتكامل مع رفع المستوى التعليمي والثقافي، والاقتصادي، على سبيل المثال للمواطن. وقد تتحقّق مكافحة الجريمة عن طريق إضاءة شوارع يرتفع فيها معدّل الجريمة لبُعدها عن الأنظار أو إعمارها ومدّها بوسائل مواصلات وخدمات حتى لا تكون وكرًا للجريمة، القضاء على العشوائيات وغيرها من الخطوات التي تقوم بها الدولة لمكافحة الجريمة، بعيدًا من السيّاسة العقابيّة[14].

وفيما يخصّ المرأة، تأتي عدة عوامل لتتكامل في سبيل مكافحة الجريمة، مع النصوص العقابية وإنفاذها، منها الخطاب الدينيّ الخاصّ بالمرأة، في دولة مثل مصر، يتأثر مواطنوها ويتبعون الأحكام الدينية. فعلى سبيل المثال، تمّ لوم الضحيتين، نيرة وسلمى، لعدم التزامهنّ الديني، الأولى لعدم ارتدائها الحجاب والثانية لوجود علاقة صداقة أو زمالة سابقة مع الجاني ثم الدعوات التي انتشرت على أثر الحادثة لمنع الاختلاط بالجامعات. يعكس هذا الخطاب ضرورة تغيير الخطاب الديني الخاصّ بالنساء، وتفعيل المادة 53 من الدستور التي تنصّ على اعتبار التمييز والحضّ على الكراهية جريمة. وبالتالي، يمكن اعتبار الخطابات الصادرة من أشخاص ذي تأثيرٍ أو سلطة، على وسائل الإعلام، والتي ترمي لاحتقار النساء أو التبرير للذكور بارتكاب أفعال التحرش أو لوم الضحية على قتلها، خطابات تحريض على العنف والتمييز، وهو ما قد يستوجب وضع تشريع لمواجهة خطابات التمييز والكراهية. فمع مراعاة حرية الرأي والتعبير، لا يمكن اعتبار خطابات الكراهية وتبرير العنف تمثيلًا لهذه الحريّة، إذ أنّها تؤدّي لارتفاع معدّل الجريمة في المجتمع، هذا مع العلم أنه يمكن الاكتفاء باعتماد تدابير متناسبة مع خطورة الفعل كمنع الظهور الإعلاميّ مثلًا من دون وضع عقوبات جنائيّة.

ونشير هنا إلى أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة العنف ضد المرأة التي تمّ إطلاقها في 2015، نصّت على وجوب تصحيح الخطاب الديني كأداةٍ من أدوات الوقاية من العنف ضد المرأة. وهو ما نتساءل حول مدى تحقّقه خلال 7 سنوات. فإذا كانت دار الإفتاء تقوم بنشر فتاوى تدعو لاحترام المرأة ولعدم ربط التحرّش بملبسها، يوجد “دعاة” أخرون يروّجون لخطابٍ مختلفٍ تمامًا بل ومحرّضٍ ضد المرأة.

جاء أيضا في هذه الاستراتيجية “مراجعة وتنقيح القوانين” التي تحضّ على العنف ضد المرأة، مع إصدار تشريعٍ متكاملٍ يتناول كلّ صور العنف ضدّ المرأة[15]، وتفعيل تنفيذ القوانين والتوعيّة بها وتبسيط الإجراءات وتبسيط الوصول للخدمات القانونية…الخ. ولكن حتى الآن لم يتمّ الوصول لتلك الأهداف التي تعتبرها الاستراتيجية وسائل وقاية وحماية من العنف ضد المرأة.

وتشير الحوادث الأخيرة والتفاعل المجتمعي معها على وسائل التواصل الاجتماعي، على عدم تغيّر الثقافة الشعبيّة ولا الخطاب الديني الدارج بخصوص المرأة، بالتالي، عدم تحقيق الاستراتيجية حتى الوقت الحالي لهذه الأهداف. ويترتب على ذلك ضرورة مراجعة أساليب تنفيذها في محاولة لتسريع مكافحة انتشار العنف ضد المرأة بكلّ صوره.

خاتمة

مسؤولية الردع تقع في المقام الأول على السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلال وضع وإقرار سياسة متكاملة لمكافحة الجريمة، يكون الشق الجنائي جزءاً منها، يتكامل مع جوانب أخرى، لتحقيق الردع العام وحماية المجتمع. بالإضافة إلى ضمان إنفاذ القانون وتطبيق العقوبة منذ أول خطوة، وهو قسم الشرطة، وتدريب العاملين فيه على التعامل مع النساء ضحايا العنف، وفي التحقيق كذلك، وتشريع موادّ تتلاءم مع خصوصيّة الجرائم، بالتالي النص على الأدلة المناسبة المطلوبة لإثبات أفعال مثل العنف الجسدي والمعنوي الذي يتمّ داخل إطار الأسرة.

وتبقى حماية المجتمع من ارتكاب الجريمة الهدف الأوّل من التشريعات الجنائية، حيث إنه من الأولى اعتماد وسائل ناجعة في اتّقاء الجرائم وحماية الأنفس والأموال من الإسراف في اللجوء إلى النظام العقابي في مسعى لتخفيف آثار هذه الجرائم بعد وقوعها.  


[1]  انتشر فيديو على صفحة speak up   على انستجرام وهي صفحة معنية بدعم ضحايا العنف بكل صوره، والفيديو لشاب ينصح آخر بالزواج بالفتاة التي يحب رغم رفض الأهل، وفي حال استحالة ذلك، أن يقوم بقتلها ثم قتل نفسه.

[2] MUCCHIELLI L., Sociologie de la délinquance, Armand Colin, 2014, p.50 et s.

[3]  المقصود هنا بالاقتصادي أي انه أقل كلفة.

[4] MUCCHIELLI L., Sociologie de la délinquance, Armand Colin, 2014, p.53.

[5] BECCARIA, Des délits et des peines, GF Flammarion, p.87. 

[6] المادة 306 مكرر أ من قانون العقوبات المصري.

[7] تغيب فلسفة إعادة التأهيل وإعادة إدماج الجاني عن فلسفة قانون العقوبات المصري، بشكل عام.

[8] المادة 230 من قانون العقوبات المصري.

[9] المادة 234 من قانون العقوبات المصري.

[10] FOUCAULT M., Surveiller et punir, Editions Gallimard, 1975, p.14-16

[11] BONIS E., PELTIER V., Droit de la peine, LexisNexis, 2019, p.2

[12] BECCARIA, Des délits et des peines, GF Flammarion, p.123.

[13]

[14] BONIS E., PELTIER V., Droit de la peine, LexisNexis, 2019, p.1-20.

[15]  تعمل المنظمات النسوية منذ فترة في سبيل إقرار هذا التشريع، ووجدت مشاريع قوانين من الحكومة واقتراحات من المنظمات غير الحكومية، ولكنها لم تقر حتى اللحظة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تحقيقات ، مصر ، أجهزة أمنية ، محاكمة عادلة ، محاكم دينية ، محاكم جزائية ، البرلمان ، قرارات قضائية ، تشريعات وقوانين ، الحق في الحياة ، فئات مهمشة ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني