العدالة العمرانية وضبط الشعب (2): هل تمّ تهجير ونقل 14% من سكان القاهرة الكبرى؟


2024-05-08    |   

العدالة العمرانية وضبط الشعب (2): هل تمّ تهجير ونقل 14% من سكان القاهرة الكبرى؟
منطقة المدابغ بمصر القديمة اثناء الهدم - تصوير أمنية خليل، اغسطس ٢٠١٩

في الجزء الأول من مقالي حول “العدالة العمرانية وضبط الشعب”، نشرت معطيات تفيد بتهجير 2.8 مليون شخص من القاهرة الكبرى عبر جدول يقدم ويشرح الأرقام المعتمدة وطرق احتسابها.  يهدف الجزء الثاني من المقال إلى مزيد توضيح الطرق الحسابيّة ، واستكمال بعض الأفكار وإضافة بعض المعلومات الجديدة. 

قضية اخلاءات الأهالي من مناطقهم، هي ظاهرة تعدّدت جوانبها منذ سبعينات القرن الماضي. ليس فقط في القاهرة، ولكن في جميع المدن الكبرى في العالم. أخذ بعضها في الظهور بشكل أقل عنفا، وأخذ البعض الاخر منحى عنيفا. يحيل الأول إلى الاخلاء غير المباشر للسكان، أو تغيير تركيبتهم على المدى الطويل، عبر تحسين ظروف المباني، ورفع الإيجارات، مما يسبب طردهم بشكل غير مباشر. وهو ما تسمّيه روث جلاس، عالمة الاجتماع البريطانية ب .Gentrificationهذه الكلمة يمكن تعريبها بالجنترة،  او كما يفضل البعض، بالإحلال الطبقي العمراني. ويعني ذلك إحلال طبقة أقل رفاها اقتصاديا بأخرى أعلي منها طبقيا واقتصاديا. وعليه يتمّ طرد وتعويض الأفقر بالأغنى، أيّا كانت مستوياتهم الطبقية والاقتصادية. هذا النوع من الإخلاءات حدث بأشكال مختلفة في معظم المدن في أنحاء العالم. في المدن الامريكية،  حدث ذلك عن طريق المحلات التجارية حيث يتمّ افتتاح ستاربكس الشهير الذي ترتاده فئة اجتماعية ميسورة الى حدّ ما وتُباع فيه القهوة بضعفيْ أو ثلاثة أضعاف ثمنها مقارنة بمحلّات أخرى . ستاربكس أصبح علامة للإحلال الطبقي العمراني في جميع أحياء مدينة نيويورك، لأنه يجلب طبقة مختلفة. وعليه يشرع بعض المستثمرين العقاريين في تجديد مبنى أو أكثر حول محل ستاربكس، وتدريجيا يبدأ السكان الموجودون في مغادرة مساكنهم المحاذية له لأسباب مختلفة، أولها عدم قدرتهم على تسديد الإيجار نتيجة لارتفاعه. ثاني أسباب رحيلهم هو شعورهم بالغربة، إذ يقدر أنه وبعد سنة ونيف من انتصاب المحلّ، يغادر جميع السكان القريبين منه منازلهم. ثالث وآخر الأسباب هو التغيير المستمرّ للحي فيما يعجزون عن التكيّف مع تغيير أسعار البضائع والخدمات، حتى لو كانت لديهم المقدرة المادية في دفع الإيجارات. 

الشكل الثاني للإخلاءات، هو الإخلاء القسري والذي يحصل مباشرة وبصورة عنيفة. وهو يحدث دائما ضد رغبة السكان، ودونما استطلاع آرائهم، حتى لو ترافق مع تعويض مادي أو مع منحهم وحدة سكنية بديلة. وقد يتمّ الإخلاء بغطاء قانوني من الإدارة العامة، مثل ادّعاء أنه سوف يتمّ تنفيذ مشروع للمنفعة العامة أو أن يتمّ الإخلاء في سبيل الاستثمار في الأرض بهدف جلب مشاريع اقتصادية لتغيير الوظيفة الاجتماعية للأرض، واستخدامها لبناء ناطحات سحاب، سواء للاستخدام السكني أو لتشييد مكاتب أو مرافق ترفيهية. 

هذه الفروقات بين معاني الإخلاء والتهجير كلها هامة للغاية، لأنها تعبّر عن أنواع عنف مختلفة متقاطعة في حياة السكان المهجرين من منطقتهم.  

القاهرة الكبرى

ما حدث في القاهرة من تغييرات عمرانية بالغة القسوة، تمّ بغطاء قانوني بهدف بعث مشاريع عمرانية مختلفة. سأخص بالذكر منها فقط ما تعلق بالإخلاءات تحت طائلة القانون. أولها إخلاء السكّان من أراضي الدولة، وذلك عبر قانون استحدثته الحكومة الحالية وشكّلت له لجنة تحت مسمّى “استرداد أراضي الدولة”. كما هي الحال مع إخلاء جزيرة الوراق، والذي أسفر عن اشتباكات عنيفة نتيجة لمقاومة الأهالي للإجراء وتدخّل قوات الجيش فقتل فيها سيد طفشان في صيف 2017. 

أما ثاني هذه المحدّدات القانونية، هو قرار الحكومة بإعلان “مصر بلا عشوائيات”. وقد اندرج هذا القرار ضمن خطّة أعلنت الحكومة عن تنفيذها بانتهاء عام 2022، وهي مرتبطة باقتراض مصر من صندوق النقد الدولي، وبرنامج الشروط الدولية في محددات التنمية. 

ويختلف الوضع ما بين المناطق المصنّفة كمناطق عشوائية أو غير آمنة، واسمها “مناطق بُني أهالي“. ففي رملة بولاق، وهي منطقة داخل حي بولاق أبو العلا، يتعلق الأمر بصراع طويل بين مالكي أبراج النايل سيتي، وسكان عشش الكفراوي في رملة بولاق، حيث تمّ إخلاء الأهالي من خلال إجبارهم ودفعهم لبيع بيوتهم للأبراج والرحيل عن المنطقة. أما في منطقة مثلث ماسبيرو الواقع في نفس الحيّ، فقد تمّ إخلاء سكّانه باتفاق مسبق معهم، شمل مشروع تطوير من الحكومة بالتعاون معهم، وتم تسديد تعويضات لهم سواء مادية أو من خلال تسليمهم وحدات سكنية بالمشروع الذي يراد تطويره في نفس المنطقة التي تم إخلاؤهم منها. إلا أنه في هذه الحالة، كان يتعيّن على الأهالي أن يدفعوا بدلات إيجار تفوق قدراتهم، مما جعل العديد منهم يختار أن يحصل على تعويض بدلا من العودة إلى المنطقة. لكن وعلى الرغم من الاختلاف في طرق الإخلاء في جزيرة الوراق كما في مناطق مثل مصر القديمة، فإن الإخلاء يعدّ إخلاء قسريا وعنيفا طبعته العديد من المخالفات والانتهاكات ضدّ الأهالي من قوات الشرطة. فما حدث في رملة بولاق ومثلث ماسبيروهو ما أسميته بالعامية المصرية “التطفيش بالتراضي” استمرّ لسنوات وشهد العديد من الانتهاكات ولا يمكن اختزال عملية الإخلاء في لحظة الرحيل الأخيرة للسكان من المنطقتين. لكنه في التحليل الأخير، لا يمكن اعتباره إخلاء قسريا، بل هو تهجير وإخلاء متعمّد ومقصود، بهدف الاستثمار في الأرض سواء من  قبل الحكومة المصرية، او من قبل أصحاب الأعمال بأموالهم الخاصة ولأجل مشاريع ربحية. 

أما ما يحدث في وسط البلد، فهو يصنف في خانة الإحلال العمراني الطبقي، الذي يعاضده التدخل الأمني. الإحلال العمراني الطبقي تمّ من خلال شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري والتي اشترتْ المباني ورممتها في منطقة وسط البلد، ثم أعادت تسويقها. وهو ما غير من  تركيبة السكان والمنتفعين من هذه البنايات. عزّز ذلك سياسة الحكومة المصرية التي منعت السيارات من الانتظار في منطقة وسط البلد لإجبار السائقين على استخدام موقف التحرير في ميدان التحرير المتعدد الطوابق وذي الكلفة العالية. كما تمّ إغلاق المقاهي الشعبية التي كانت ملتقي الثوار والمتظاهرين حيث تدور نقاشاتهم في شوارع وسط البلد. كما قامت وزارة الداخلية بحملات أمنية مستمرة على الشقق السكنية في وسط البلد لتجميع بطاقات ثبوتية الساكنين لمعرفة هوياتهم وفرض حظرحركة عليهم، بألا يخرجوا من بيوتهم في مواعيد بعينها، وأحيانا يتم القبض عليهم. وخلال الفترة الممتدة من فبراير 2011 حتى يوليو 2013، ترك العديد من أهالي وسط البلد وحداتهم السكنية نتيجة الغاز المسيّل للدموع، والتضييق الأمني، والاسوار التي حالت دون حركتهم. كل العوامل السابقة، إلى جانب التواجد الأمني المستمرّ لضباط الشرطة ومن قبلهم الجيش في ميادين التحرير وطلعت حرب ومصطفي كامل، أدّت إلى إحلال عمراني طبقي وتغيير الشريحة الاجتماعية السكّانية التي تستطيع الإقامة في هذه المنطقة على نحو سبّب إشكاليّات مستمرّة

هل يصل تهجير سكان القاهرة الكبرى إلي 2.8 مليون؟

نتيجة لتفاقم أعداد المهاجرين والمهجرات من مناطقهم في القاهرة الكبرى، كما توضح الخريطة التالية، تمّ احتساب أعداد المهجّرين، طبقا لصندوق تطوير المناطق العشوائية. فقد قررت الحكومة إعلان مصر بلدا بدون عشوائيات بنهاية عام 2022. وعليه أعلن هذا الصندوق وجود أكثر من 400 منطقة غير آمنة في القطر المصري، تمّ تصنيفها لدرجات أربع في سلم عدم الأمان على حياة سكانها. كما تمّ التصريح  بحدود هذه المناطق داخل الأحياء، وأيضا مساحاتها، ووحداتها السكنية. 

A map of a city

Description automatically generated

وعليه، تمّ احتساب مجموع الوحدات السكنية، ثم مضاعفاتها حسب تقديري باعتبار عدد السكان في هذه البنايات. يقدم الجدولان المنشوران أسفله (1و2) عدد الوحدات السكنية والمساحات التي تشغلها في القاهرة والجيزة طبقا لتصنيف صندوق تطوير العشوائيات الذي لا يحصر الوحدات السكنية أبدا في شقق سكنية، بل يعني بها عمارات أو وحدات أو بيوت. لذلك، لا يصحّ ضرب عدد الوحدات السكنية ب 5 (متوسط العائلات) لمعرفة العدد الإجمالي للسكان الذين تمّ تهجيرهم. فأن تكون “الوحدة السكنية” وفق الصندوق عمارة كاملة، يعني أنها تأوي ما بين 6 إلى 10 أسر، ما يعني 30 إلى 50 شخصا. (انظر جدول رقم 3 لتوضيح الحسابات).

Image
جدول 1
Image
جدول 2
Image
جدول 3

لماذا معدل متوسّط ب 50 شخص في الوحدة السكنية؟ 

حدّد صندوق تطوير المناطق العشوائية مساحات بعينها غير آمنة. لكن عند تطبيق عملية الإخلاء، شمل ذلك مساحاتٍ أوسع بكثير مما تمّ تحديده سابقا (انظر مثلّث ماسبيرو في خريطة 2). نفس الشئ حدث في حيّ مصر القديمة، ومنطقة المدابغ (انظر خريطة 3). فقد تمّ إخلاء مناطق أكبر بكثير من تلك المعلنة سلفا كمناطق غير آمنة. أما في حي مصر القديمة، فقد تمّ إخلاء مناطق خارج تماما نطاق المناطق غير الآمنة (خريطة 4)، محددة بدائرة بنفسجية، وهي منطقة تم اخلاؤها من دون تصنيفها كمنطقة غير آمنة. وعليه  فإن عدد سكانها لم يتمّ احتسابه ضمن الأرقام المقدّمة أعلاه. أما مناطق مثل جزيرة الوراق (خريطة 5) وأمثالها، فإنه لم يتمّ احتسابها بالمرّة في الجداول المرفقة أعلاه، والتي يبلغ عدد سكانها 90 ألف مواطن. لذلك، فإن المساحات المعنية بالتهجير هي أكبر بكثير من الأرقام المعلنة من قبل صندوق تطوير المناطق العشوائية، بمعنى أنّ المسطّحات المهدومة وعدد السكان الذي تمّ تهجيرهم وتشريدهم هم من مساحات أكبر. وعليه، فإن اختيار رقم خمسين كرقم حسابي، يبدو منطقيا وعادلا، حتى نستطيع إجراء حسابات ومراجعات أكثر دقة. 

ونظرا لعدد السكان الجملي للقاهرة الكبرى،  باحتساب محافظتي القاهرة والجيزة، أي حوالي 20 مليون شخص، فإنّه تمّ إخلاء حوالي 14% من مجمل سكان القاهرة الكبرى. 

A comparison of a city

Description automatically generated
خريطة 2 – مثلث ماسبيرو

A collage of different images of a city

Description automatically generated
خريطة 3 – منطقة المدابغ بحي مصر القديمة 

A comparison of a map of a city

Description automatically generated
خريطة 4 – حي مصر القديمة، ومنطقة كوم غراب (المحددة بالبنفسجي) وتم اخلاءها بدون إعلانها منطقة غير آمنة

A comparison of a river and a city

Description automatically generated
خريطة 5 – جزيرة الوراق

أين ذهب السكان؟

تدعي الحكومة المصرية أنّه تمّ إجلاء السكّان والتعويض لهم بوحدات سكنية في إطار الإسكان الاجتماعي. ويوضح الجدول التالي عدد الشقق السكنيّة المُعلن عنها حتى الآن (جدول 4). وبحسب هذا الجدول توجد 30170 شقة سكنية، قادرة على استيعاب 150 ألف شخص. وهذا بفترض أن المتوسّط الحسابي لعدد السكان في الشقّة السكنية هو خمسة أفراد. وعليه يوجد 2.65 مليون لا نعلم أين ذهبوا. وهو ما أحاول تتبعه في عملي، وسأوضحه  في مقال لاحق. 

الاسمرات15257
الاسمرات24722
الاسمرات 37298
المحروسة 13168
المحروسة 21607
معا3312
الخيالة2268
أهالينا 11536
مجموع30170
جدول 4

وعليه لا أرى أنه من قبيل الافتراء، أو الخطأ الحسابي أن نعتبر أن 14% من سكان القاهرة الكبرى قد تمّ تهجيرهم وتشريدهم، وهو ما يعادل 2.8 مليون نسمة من السكان. وهي جريمة عمرانية لا تغتفر يجب  مقاومتها  في الحاضر والمستقبل قام بها  النظام المصري الحالي في حق الفقراء والطبقات العمرانية المتوسطة والأقل منها. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني