العدالة العمرانية وضبط الشعب


2024-03-25    |   

العدالة العمرانية وضبط الشعب

لم يستطِع عقلي إدراك حجم الهدم. أنظر من حولي إلى المدينة التي أعرف ملامحها، وألتمس طرقها بسهولة، فأرى هدما، فقط هدما. أكوام من الطوب الأحمر، والقطع الخرسانية، وأكوام من التراب الأصفر. أتذكر أولى مشاهد هدم رأيتها، بخلاف الخرابة الموجودة على ناصية شارعنا في منطقة الهرم. أتذكر زلزال أكتوبر 1992، الذي خلف العديد من المواقع المهدمة والشروخ في كثير من هياكل المباني السكنية والعامة في مصر. ألاحق خطوات أبي، لقصر قامتي آنذاك، أحاول أن أدرك خطواته الواسعة، لنزور جدتي في داير الناحية في حي الدقي. حواري صغيرة وضيقة، بيوت من دورين وثلاثة تقع متراصة بجانب بعضها. في ثمانينات القرن العشرين، كنا نعيش في حي الهرم ذي الشوارع الهادئة المتقاطعة، وطابع الطبقة الوسطى من حيث التصميم، وارتفاعات المباني السكنية. يختلف عن داير الناحية حيث تربى أبي وتقطن عائلته، أو عن حي الجيزة الذي تقطن فيه عائلة أمي، رغم وقوع الثلاثة في محافظة الجيزة ضمن الحدود الرسمية للقاهرة الكبرى.

أسأل أبي في طريقنا إلى بيت أمه وإخوته، لماذا يسير الأطفال عراة، يقول لي انهم بسطاء ويعتبرون الشارع أمام منازلهم امتداد لبيوتهم لأنهم ما زالوا داخل مناطقهم وتوجد ألفة ومعرفة بين الناس.

 فزلزال 1992 الذي كان بقوّة 5.9 بمقياس رختر ودام لمدة 60 ثانية، وأدى الى وفاة 500 شخص، وتشريد حوالي نصف مليون من منازلهم، ضرب جميع المناطق على حد سواء. أحياء راقية مثل مصر الجديدة تضرّرت بالقدر نفسه للأحياء شعبية. بل وانهارت العمارات الخرسانية العالية مثل عمارة مصر الجديدة الشهيرة التي نجا منها بعضهم بعد 70 ساعة تحت الأنقاض.

وقتها حين حدث الهدم نتيجة لهذه الكارثة الطبيعية كان مفهومًا بعض الشيء لعقل الطفلة داخلي. فهزّة أرضية نتيجة لتحرّك صخور باطن الأرض وبعدها، تتصدع المباني وتنهدم. لكن منذ عام 2018، وأنا أشهد جرّافات الحكومة التي قرّرت هدم المباني، ثم الهدم، ثم الهدم، بادعاء البناء والتطوير في أنحاء مصر.

التخلّص من الفقراء

حين أعلنتْ حكومة السيسي عن خطة التنمية المستدامة في مصر بحلول عام 2030، لم نكن نعلم بتفاصيلها ولا بما تنصّ عليه من قرارات. فقد تضمّنت محاور عدّة للتنمية، خصص أحدها لتطوير مصر عمرانيًا.  يتعلّق واحد منها على تحويل مصر إلى بلد بلا عشوائيات. “مصر بلا عشوائيات” شعار تصدّر عناوين الصحافة وخطط مصر للتنمية. استند تعريف المناطق العشوائية، كما نص عليه في صندوق تطوير المناطق العشوائية، إلى تعريفات منظمة “موئل الأمم المتحدة” UN-Habitat التي أنشئت عام 2008. فأعلن في غضون سنتين عن مئات المناطق غير الآمنة. ثم تمّ تصنيفها ضمن أربع فئات وفق درجتها في سلّم الأمان. فئة الدرجة الأولى تشمل العشوائيات الموجودة في مسارات السيول أو الصخور القابلة للانهيار أو تلك الواقعة تحت كابلات ضغط عالٍ. أما فئة الدرجة الثانية، فتتعلّق بالمنشآت المؤقّتة وغير الآمنة مثل العشش والصفيح. وتضمّ فئة الدرجة الثالثة العشوائيات الواقعة في مناطق تهدّد الصحّة العامّة بفعل افتقارها لمياه نظيفة أو صرف صحّي، أو معرّضة لتلوّث صناعي. وتتعلّق الفئة الرابعة بالمساكن التي لا تتمتّع بحيازة آمنة للأرض أو موجودة على مسطحات أراضي الدولة.

لم تعتمد مصر في خطة التنمية العمرانية للقضاء على “العشوائيات” على مقاربة الفقر كمشكلة، بل اعتبرت أنّ الفقراء ومبانيهم التي شيّدوها بسواعدهم أو عن طريق مقاولين وبنّائين في مناطقهم هو التحدي الأكبر. كما ارتبطتْ خطة “مصر بلا عشوائيات”، بظهور مصطلح “الجمهورية الجديدة” سنة 2021 الذي روّج له عبد الفتاح السيسي آنذاك، معتبرًا أنّ الإعلان عنها مرتبط بافتتاح العاصمة الإدارية الجديدة التي امتدّت في مرحلتها الأولى على مساحات شاسعة من الأراضي قدّرت بحوالي 170 فدانًا. كما ضمّت عددًا من الأحياء الحكومية والتجارية، وأيضا حيًّا للسفارات. ونُقلت المباني الحكومية إليها، وافتتح قصر رئاسي ضخم بها. هذا إلى جانب عدد من الجامعات العليا ومبانٍ خدمية، ومعظمها ضمن مساحات يملكها مستثمرون كبار شيّدوا عليها مجمّعات سكنية فاخرة.

رغم أنّ خطّة تطوير العشوائيّات في مصر قد ظهرت كردّ فعل على كارثة عمرانية وهي انهيار صخرة الدويقة في عام [2]2008 وموت وتشريد المئات من المواطنين، غير أنّه لا يمكن عزلها عن السياق السياسي الذي أعقب انقلاب يونيو 2013. فتحليل السياسات المعمارية في مصر لا يمكن مقاربته بمعزل عن الحدثين المؤسّسين لها، وهما ثورة 2011 وانقلاب 2013. ففي يونيو 2014 بعد عام واحد على الانقلاب، نصّب عبد الفتاح السيسي نفسه رئيسًا للبلاد مطلقًا وعودًا بأنّ مصر ستكون واجهة للحضارة والثقافة والتطوّر. وأعلن في خضمّ ذلك عن عديد القرارات بخصوص إنشاء مشاريع كبرى من بينها توسيع قناة السويس، وبناء العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين الجديدة.

لكن ما يعنيني شخصيًا أكثر في هذا السياق هي التغيّرات الجغرافية داخل المدينة والتي تخصّ حياة قاطني المناطق التي بناها الأهالي بأنفسهم وهم يمثلون غالبيّة ساكني القاهرة، إذا تمّ ضمّ “المناطق الشعبية” إلى مناطقهم، مثل أحياء بولاق أبو العلا، السيدة زينب، شبرا، الحلمية، وأجزاء كبيرة من المعادي. وأعني بـ “منطقة شعبية” تلك الأحياء التي تسكنها بالأساس الطبقات الوسطى، والأقلّ منها، ذوو المستوى التعليمي المتوسّط، والمكوّنة بالأساس من موظّفين ذوي مهن حرّة، ينحدرون في غالبيتهم من طبقة الأفندية في أوائل القرن العشرين التي تدهورت أحوالهم.

مارستْ حكومة محمّد حسني مبارك سياسات الإخلاء إلى أطراف القاهرة الكبرى، كما هي الحال مع سكّان تل العقارب، ومصر القديمة، وغيرهم. وتمّ إعطاء بعضهم وحدات سكنيّة في أطراف المدينة مثل مدينة النهضة، أو مساكن “الأولى بالرعاية” في مدينة 6 أكتوبر. لكن خطط إعادة التسكين هذه باءتْ بالفشل في حالات عدّة بسبب غياب الخدمات الاجتماعية في المناطق الجديدة. فقد أعطيَت للمهجّرين شقّة سكنية في صحراء جرداء بلا عمل، وبلا مدارس، وبلا أسواق تلبّي احتياجاتهم الأساسية. وهي الخدمات المتوفّرة في كلّ أحياء الطبقات الوسطى في القاهرة، حيث لا يضطرّ قاطنوها للخروج من مناطقهم للتسوّق، بل يقضون كل حوائجهم في المنطقة نفسها، سواء احتياجات تخصّ الأكل والشرب اليومي، أو ملابس لزوم الشتاء أو إحدى المناسبات الخاصة.

في عام 2012، أجريتُ عددًا من المقابلات المطوّلة مع سكان مساكن عثمان أو “الأولى بالرعاية” في مدينة 6 أكتوبر. وصولي إلى البنايات لم يكن قط سهلًا إذ استلزم ذلك سؤال المارة عن الطريق. ومع ذلك كنتُ محظوظة لأنّ صديقًا اصطحبني بسيارته. تركنا العالم المعمور، وبدأنا التقدّم في صحراء جرداء مليئة بالكثبان الرملية على مدى الأفق. كانت الرحلة أشبه بسفر طويل، وليس بالذهاب إلى حيّ سكني داخل القاهرة. فجأة ظهر أمامنا عددٌ من البنايات السكنية المتشابهة، تميّز بعضها ألوان صاخبة وبعضها لا يختلف لونه كثيرًا عن الكثبان الرملية. ثم سلكنا طريق خدمة أصغر وأضيق من الطريق السريع الذي كنّا نسير عليه. تركنا السيارة وترجّلنا في شمس الصيف الحارّ الملتهبة، لا يحمينا شيء. سرتُ حتى وصلت إلى العمارات، أحاول العثور على أيّ شخص للتحدث معه. أول ما استرعى انتباهي هو امتلاء العديد من العمارات في أدوارها الأرضية بأثاث سكني من دواليب، أسرّة، مرتبات، كنبيات، قطع خشبية لدواليب المطبخ…  جميعها متروكة على رصيف البناية، وكأنّ أصحابها قد هجروها، وربما يعودون إليها مستقبلًا. لم يكن الأثاث متربًا أو مكسورًا، ولا يبدو أنّ أصحابه قرّروا التخلّص منه. لكنه كان متروكًا وحيدًا في الهواء الطلق.

بين بنايتين سكنيتين وفي ممر بينهما، يجلس ثلاثة أشخاص على كراسي بلاستيكية ملوّنة، امرأتان ورجل. ألقي السلام عليهم وأشرح لهم أنني أحاول اللقاء بأشخاص يقطنون هذه العمارات للتحدّث معهم عن جدوى الوحدات السكنية وظروف نقلهم لها. تتحمّس إحداهنّ، وتدعوني أن ننفرد في وحدتها السكنية، أسير وراءها، وكانت من سكان الطابق الأرضي، فلم نصعد السلالم. ندخل وحدتها السكنية لأجد مساحتها بالغة في الضيق، يتراصّ فيها أثاث كأنّه لا يستطيع التنفّس. تضطرّ السيدة إلى أن تأخذني إلى حجرة نومها لأنّها المكان الوحيد الذي يوجد فيه مسافة متر ونصف بيننا، ونحن جالسات أستطيع فيها إدارة الكاميرا الرقمية والتحدّث معها عن وضعها.

تشكو هانم، من ثلاث مشاكل بعينها، أوّلها اضطرارها استقلال “توكتوك” (آلية بثلاث عجلات) بخمس جنيهات يوميًا حتى تصطحب ابنتها إلى المدرسة، وبما أنّها لا تستطيع انتظارها أمام المؤسّسة التعليمية تحت الشمس، تضطرّ إلى العودة للمنزل. لكن انتهى بها الأمر لاحقًا إلى البقاء تحت لفح الشمس، بسبب عدم قدرتها على دفع 20 جنيهًا كلّ يوم في رحلاتها من المدرسة وإليها مرتين، مفضّلة أن تكون عشرة فقط. تروي لي هانم أنّ عدد الأطفال المنقطعين عن التعليم مرتفع جدًا، ليس بسبب مشاكلهم الدراسية، ولكن لأنّ أهاليهم لا يملكون المال لتسديد مصاريف التنقل ذهابًا وإيّابًا إلى المدرسة كما لا يستطيعون انتظارهم أمامها. تتعلّق شكواها الثاني ببطالتها. فمنذ تركتْ حي مصر القديمة، لم تعدْ هانم تجد عملًا في حيّها الجديد. تقدّمت بطلب وظيفة كعاملة نظافة في المبنى الحكوميّ القريب، وفي المستشفى القريب لكنها لم تحصل على ردود بالإيجاب أو الرفض. لذلك فهي تضطر أحيانًا إلى بيع الخضراوات أمام بنايتها إلى العدد القليل من سكانها، وبمبالغ زهيدة حتى تحصل على بعض المال. ثالث الشكاوى، كان اضطرارها للذهاب إلى منطقتها القديمة للحصول على العمل، وهو ما يعني توقّف أبنائها عن الذهاب إلى المدرسة. فثمن تنقلها وحده يكلّفها 20 جنيهًا، وهي لا تستطيع أن تدفع أكثر من ذلك. أسألها عن الأثاث الموجود خارج البنايات، فتشرح لي أنّه للسكان وأنّ الوحدات السكنية صغيرة جدًا بحيث لا يمكن وضع أثاثهم فيها. لذلك فهم يبقونه في الخارج في انتظار أن يأتي نجّار يساعدهم على تصغير الأثاث لإدخاله بالوحدات.

بعد ثماني سنوات من زيارتي “مساكن عثمان”، أجلس للتحدث مع أهالي من وحدة سكنية في حي الأسمرات في المقطّم الواقعة في شمال شرق القاهرة، حيث تمّ حديثًا نقل سكان منطقة في مصر القديمة إليها. نتزاحم في غرفة المعيشة الصغيرة، أنا والأم والأب وإحدى بناتهما. الوحدة السكنية صغيرة للغاية، مفروشة بأثاث وفّرته الدولة. إذ تمّ الاشتراط على الساكنين المحظوظين الذين حصلوا على وحدة سكنية في هذه البنايات، أن يأتُوا فقط بملابسهم، لا أثاث، ولا أيّ شيء آخر مسموح به. أشعرهم ذلك بقلّة قيمتهم، وكأنّ ما يملكون لا يُشرّف ولا يُحترم في هذا السكن الجديد. أثاث الوحدات الجديدة، ضخم رغم صغر المكان. تصيح الأمّ في ابنتها ذات السبع سنوات حتى لا تدخل معها المطبخ لأنّه بالكاد يكفيها. وينتابها خوف عليها من أن تكتوي بالمياه الساخنة. لم تلتحقْ الصغيرة في الحي الجديد بالمدرسة لأنّ هناك مدرسة واحدة فقط لا مكان فيها للصف المطلوب. “هتضيع عليها السنة”، تقول لي الأم. فعدم مزاولة عام دراسي في المرحلة الأولى شيء مرعب بالنسبة للأبوين لأنهما يخافان أن تعتاد الفتاة الجلوس في المنزل. الصغيرة تحب القراءة. تأتي إليّ بكرّاسها للعام الماضي. تكتب بعض الكلمات، وتريني أنّ لديها قدرة على كتابة اسمي. هي فخورة بنفسها. أشجّعها لأنّ والديْها لا يستطيعان القراءة والكتابة. تمكّنت الأم على عكس الكثيرين من الحصول على عمل كعاملة نظافة في مكان يقع على بعد 45 دقيقة من بيتها يستوجب التنقل إليه بالمواصلات. بينما لم يجد الأب عملًا وهو العامل القديم في المدابغ التي يتطلّب الوصول إليها أكثر من ساعة ونصف من التنقل يوميًا. يظلّ الأب في المنزل مع ابنته، فيما تذهب الأمّ للعمل. أما الأخوات الأكبر سنًّا، فقد قرّرن استكمال السنة الدراسية في منطقتهم القديمة لأنهنّ لا يستطعن ركوب المواصلات وحدهنّ، وهو ما يكبّد العائلة مزيدًا من المصاريف.

لا تستطيع الصغيرة قراءة الإنذارات التي تتلقّاها العائلة من وقت لآخر من إدارة الحي، وهي عبارة عن تعليمات وتحذيرات لا تنتهي تتعلّق بالنظافة أو المصعد أو مكان إلقاء القمامة، تشعرهم طوال الوقت بالغربة وأنّهم غير مناسبين للعيش في هذه الوحدات. هم يخافون كثيرًا من عجزهم عن دفع ثمن الكهرباء أو الغاز والإيجار الشهري للمسكن، إلى جانب تكاليف المخالفات التي قد يرتكبونها، وأيضًا مصاريف الدراسة والمواصلات. يخافون خصوصًا من التعثّر في سداد إيجار المسكن فيتمّ طردهم. هذا إلى جانب أنهم مجبرون شهريًا على تسديد دين اقترضوه لخلاص تكاليف تأمين منزلهم وارتشاء موظّف الحي حتى يحتفظ بأحقّيتهم في الوحدة السكنية في دفتر الكشوفات ولا يمحيهم منه، رغم حيازتهم على كل الأوراق المطلوبة التي تثبت استحقاقهم لها.

ما بين عامي 2012 و2020، تغيّر شيء ما في الوحدات السكنيّة التي بنتْها الحكومة المصرية. لا يتعلّق الأمر بقلّة الخدمات المقدّمة أو حتى انعدامها أو عدم توفّر وظائف لساكنيها. العامل الجديد يحيل إلى التحقير الدائم الذي يعانيه المتساكنون الجدد المنقولون لهذه الوحدات بدون ممتلكاتهم الشخصية، وبدون أيّة وثائق تثبت أحقيّتهم في هذه الوحدة السكنية ووضعهم في مجمّعات سكنية جديدة تحتوي على حدائق محاطة بأسوار حديدية، يمنعون من الدخول إليها، ومصاعد كهربائية غير مسموح لهم باستخدامها ومساحة مشتركة يعاقبون على عدم نظافتها عقابًا جماعيًا.

محاذير وتعليمات وعقاب، هي الكلمات التي تلخّص حياة السكان في هذه البنايات الجديدة.

نزع الأهلية العمرانية

الأهالي الذين يتم إيواؤهم في هذه الوحدات السكنية محظوظون مقارنة بسكان آخرين من أحيائهم القديمة المفرغة من أهلها. فقط ثلثُ السكان تقريبًا يحصلون على مثل هذه الوحدات بينما يحرم منها الثلثان. فبالرجوع إلى المسح الذي قمتُ به في سنة 2019 لعدد من الأسر في منطقة المدابغ في مصر القديمة، تبيّن لي أنّه وعلى كلّ 12 أسرة، لا تحصل سوى 3 أسر على وحدة سكنية.[3]

إذا كانت هذه الظاهرة سائدة منذ أيام مبارك، ما الجديد اليوم؟

الجديد هو شراسة وسرعة الإخلاءات القسرية في القاهرة الكبرى. ففي عام 2011، أعلنت محافظة القاهرة عن نقل 13500 أسرة إلى مناطق جديدة، أي ما يعادل حوالي 67500 فرد.  تتخلّل هذه الإخلاءات القسرية العديد من الانتهاكات المتعدّدة ضدّ السكان، سواء حين إبلاغهم بقرار الإخلاء أو في طريقة الإخلاء أو في ترك هؤلاء السكان بلا مأوى يسكنون الشوارع، أو في طردهم من المنطقة بعد هدم بيوتهم، وإبلاغهم أنّهم لا يستحقون وحدة سكنية ضمن الوحدات المخصّصة لهم.

كيف توسّعت هذه الظاهرة، وما حجمها؟

جدول إحصائي يكشف عن عدد الأسر التي تمّ إخلاؤها من مناطقها.

الحيعدد الوحدات السكنية
القاهرة – 54 منطقة
السلام6078
المرج248
المطرية513
مدينة نصر أول وثان2770
منشأة ناصر13608
حدائق القبة1945
الشرابية1714
الساحل300
بولاق أبو العلا1198
الخليفة1179
مصر القديمة12909
السيدة زينب983
روض الفرج400
حلوان5679
التبين570
اجمالي50094
إجمالي عدد السكانبمتوسط  2504700  فرد، يفترض أن هناك متوسط 50 فرد في كل وحدة سكنية
الحيعدد الوحدات السكنية
الجيزة – 31 منطقة
الدقي1169
العجوزة769
الهرم735
الوراق654
بولاق الدكرور466
جنوب الجيزة1120
شمال الجيزة651
أوسيم200
الحوامدية250
البدرشين85
أبو النمرس800
العياط350
إجمالي7249
إجمالي عدد السكانبمتوسط 362450 فردًا، يفترض أنّ هناك متوسط 50 فردًا في كل وحدة سكنية

هذا يعني أنّه وفي إجمالي محافظة القاهرة والجيزة، تمّ هدم ما يعادل 57343 وحدة سكنية، وعليه إخلاء ما يقارب 2867150 فرد من مناطقهم الأصلية. وباعتبار أنّ عدد سكان المحافظتين يقدّر بـ 20 مليونًا، فهذا يعني أنه تمّ إجلاء 10% منهم من منازلهم.

وبالتالي تمّ تشريد وإجلاء أكثر من مليوني مواطن من مساكنهم ومناطقهم، وتمّ تغريبهم وفرض مصير مجهول عليهم. ورغم أنّه تمّ خلق وحدات الإسكان الاجتماعي التي كانت من المفروض أن تمثل تعويضًا لكلّ سكان المناطق التي تمّ إخلاؤها، لم يتمّ إعادة إسكان المليونين في هذه البنايات الجديدة. في المقابل، تمّ إرسال رسالة واضحة إلى 20 مليون مواطن ومواطنة في القاهرة والجيزة مفادها أنّ لا أهلية عمرانية لهم وأنّ لا حرية لهم في اختيار البيت والمسكن والمنطقة وأنّ حياتهم العمرانية وعلاقتهم بالمدينة والسكن مقيّدة.

أعتقد أن جزءًا صريحًا من إصرار الدولة على إفقاد الشعب أهليّته وإرادته واختياراته العمرانية، يعود إلى رغبتها في تأديبه. رسالة الدولة واضحة: الشعب لا يملك حق تقرير وجوده العمراني والمديني في المجال الحضري المصري. وهو ما يعني كذلك التخلّص من صورة القاهرة الكبرى كمدينة حاضنة، مدينة “الصباح الباكر والفول والطعمية”، والليل والسهر والتسكّع الدائم في شوارعها وعلى ضفاف نيلها. الهدف هو إحلال صورة جديدة لمدينة ينتعش فيها الخوف والقلق، والحذر ممّا هو آتٍ، ومن المراقبة بغرض الإخلاءات. فصارت علامة “إزالة” الحمراء اللون معروفة، يرصدها المارة، والساكنون في أنحاء القاهرة بخوف. وهي علامة يتمّ وضعها على مداخل الوحدات السكنية كلغة للتواصل بين لجان الهدم، وبين البلدوزر القادم للهدم.

بعثت حكومة السيسي برسالة واضحة لسكان القاهرة. فأصبحوا ينامون الليل مفزوعين ومراقبين الصباح بقلق، يتمنّون أن يجدوا العمران نفسه وألّا تتغيّر في الصباح الباكر الملامح الجغرافية لمناطقهم. هذه الرسالة موجّهة إلى الملايين ممّن ثاروا واحتلوا شوارع القاهرة ما بين يناير 2011، ويونيو 2013، اعتراضًا على سياسات ظالمة، وسعيًا منهم إلى حياة أفضل، ومستقبل أكثر حرية. يتمّ بعث رسائل يومية، واحدة منها من خلال الحياة العمرانية مفادها أنّ العدل لن يتحقق فيها، بل وحتى الملامح المادية وجغرافية المناطق السكنية يمكن محوها في الليل أثناء نومنا، بدون القدرة على الاعتراض عليها. وعليه يمكن ضبط الشعب وتأديبه من خلال حياة عمرانية منضبطة.

لقراءة الجزء الثاني من المقال

لقراءة المقال باللّغة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني