“الحقّ العامّ” بيد شخص واحد


2022-04-05    |   

“الحقّ العامّ” بيد شخص واحد
رسم رائد شرف

تماماً كما تمّ إيداع الأسرار المصرفيّة لدى شخص واحد (هو حاكم مصرف لبنان)، انتهى تنظيم النيابات العامّة إلى منح شخص واحد هو النائب العام التمييزي هامشاً واسعاً جداً في التحكّم بالحق العامّ وما يمثّله من حقوق للمجتمع.

وقد أمكن ذلك ليس فقط من خلال منح هذا الأخير صلاحيّات قانونية واسعة جدّاً ولكن أيضاً من خلال المُمارسات المعتمدة التي ذهبت في اتّجاه تعزيز هذه الصلاحيّات بدل حصرها. ومؤدّى هذا الأمر هو تمكين السلطة الحاكمة من ضبط إيقاع الملاحقات الجزائية من خلال ضمان ولاء شخص واحد بإمكانها تعيينه في منصبه وعزله منه متى شاءتْ. وهذا ما تبدّى بوضوح في مناسبات عدّة وعلى طول العقود الماضية وأسهم بشكل كبير في حماية منظومة الحصانات والإفلات من العقاب.  

ولعلّ الحقبة[1] الأشهر في تاريخ النيابة العامّة التمييزية كانت الفترة التي تولّى فيها القاضي عدنان عضّوم هذا المنصب. وقد بلغ حضوره درجة نُعت فيها القضاء برمّته بـ “القضاء العضّومي”. كما أُطلقت عليه ألقاب عديدة كـ “الفرعون”، و”حاكم لبنان القضائي”، و”الفاصل بين حدّ تحقيق العدالة وحد السياسة” و”سوبر ستار العدلية”. كما أنّ الصحف استخدمت كلمة “ديوان” للإشارة إلى مكتبه الذي أضحى محجّة للسياسيين وأصحاب النفوذ، ما أشّر إلى الدور الذي أداّه كلاعب أساسي في النظام السياسي في لبنان. وقد نجح [2] عضّوم في العام 2001 من خلال قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد في منح المنصب الذي كان يشغله صلاحيات واسعة جداً، أهمها سلطة شاملة للتحقيق في أي قضية يريدها وتوجيه تعليمات خطية أو شفهية وعامّة أو متّصلة بملفّات معيّنة وممارسة رقابة مسبقة على مجمل النيابات العامّة في كلّ الملفّات الخطيرة بحيث يقتضي إعلامه بها قبل اتّخاذ أيّ تدبير. كما أناط القانون بالنائب العام التمييزي صلاحية شخصية للبتّ بأيّ طلب ملاحقة لأيّ شخص (موظف عام مثلاً) تستوجب ملاحقته موافقة مرجع غير قضائيّ عند رفض هذا الأخير، ليصبح بذلك المرجع الأخير للنظر في إمكانيّة ملاحقة هؤلاء. ومن شأن هذه الصلاحيّات أن تمنح شاغل هذا المنصب قدرة هائلة في ما يتّصل بممارسة الحق العام أو الامتناع عن ممارسته.   

في هذه المقالة، سنتناول آخر تجلّيّات هذه الصلاحيات الواسعة وانعكاساتها على نظام العدالة في لبنان وبخاصّة في ظلّ الممارسات المعتمدة من النائب العام التمييزي الحالي القاضي غسّان عويدات. وكانت “المفكرة القانونية” رصدتْ توجّه هذا الأخير إلى توسيع سلطته الهرميّة بعد أيام من تولّيه منصبه.

عويدات يعزّز سلطته الهرمية في قضايا الفساد والشأن العامّ

في غضون أيام قليلة من تعيينه في منصبه، وتحديداً في 23 أيلول 2019، سارع غسّان عويدات إلى توجيه مراسلة[3] للمدّعين العامّين كافة، طلب فيها منهم إعلامه مسبقاً بكلّ إجراء قضائي يتناول الهيئات العامّة والإحالة بواسطته لكلّ طلب للحصول على إذن بالملاحقة من أجل إعمال المادة 13 أ.م.ج (تمكينه من إعطاء تعليماته) مع وجوب رفع تقرير إليه بنتيجة رفض إعطاء إذن بالملاحقة. وقد لاقاه بعد 3 أيام رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري بإصداره تعميماً (رقم 31) طلب فيه من جميع الإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديات واتّحادات البلديات حصر مراسلة قضاة النيابات العامّة على اختلافها، من خلال النائب العام التمييزي. وبفعل هذين التعميميْن المتناسقين في التوقيت والأسلوب والتعليل، اكتملت الحلقة: النائب العام التمييزي يأمر النيابات العامّة بالتقيّد بتوجيه مراسلاتها إلى الهيئات العامّة من خلاله وتبعاً لتوجيهاته، ليعود الحريري ليأمر الهيئات العامّة بحصر مراسلاتها مع النيابات العامّة بالنائب العام التمييزي. ومؤدّى هذين التعميمين، إيلاء النائب العام التمييزي صلاحية حصرية في مباشرة الملاحقة أو وقفها بكلّ ما يتّصل بالمخالفات الجزائية المرتكبة من الإدارات العامّة أو أيّ من العاملين فيها. هذا مع العلم أنّ عويدات ضمّن كتابه بنوداً أخرى ذهبت في الاتّجاه نفسه، أي في اتّجاه إحكام هذه الهرمية والمركزية، ومن أبرزها وجوب مراجعته “في كلّ قضية ذات شأن عام يفرض البتّ فيها العمل بتوجيهات النائب العام التمييزي”، وأيضاً وجوب مراجعته بكلّ قضية تثار في الرأي العام (صحافة أو غيره) ويشار فيها إلى سوء ممارسة الأجهزة الأمنية أو القضاء لإعطاء التوجيهات اللازمة. وقد عاد عويدات ليوسّع أكثر فأكثر من سلطته الهرمية بفعل تعاميم وقرارات أصدرها تباعاً في معرض عدد من قضايا الفساد بالغة الأهمية.

وبهذه التعاميم، استطاع عويدات فرض تعزيز سلطته الهرمية وذلك عبر اتّجاهات عدّة هي:

  1. توسيع مجال الرقابة المسبقة: من الجرائم الخطيرة إلى جرائم القطاع العام والشأن العام

أوّل هذه الاتّجاهات تمثّل في توسيع حدود الجرائم التي يترتّب على قضاة النيابة العامّة إعلام النائب العام التمييزي بها مسبقاً، تمهيداً للعمل بتوجيهاته بشأنها. ففيما نصّت المادة 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على وجوب إعلامه بالجرائم الخطيرة، فإنّ التعميم الصادر في 23 أيلول فرض إعلامه قبل القيام بأيّ إجراء بجميع الملفّات المتّصلة بالإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديات واتّحادات البلديات، وعملياً بكلّ ما يتّصل بالقطاع العام والفساد داخله. فضلاً عن ذلك، فرض النائب العام التمييزي في تعميمه وجوب إعلامه بكلّ ما يتّصل بقضايا “الشأن العام”.

وهو بذلك بدا كأنّه استغلّ وجود مفهوم مطّاط (الجرائم الخطيرة) ليوسّع تعريفه على نحو يشمل مجمل جرائم الفساد وجرائم الشأن العام. وما يفاقم من هذا الأمر هو أنّ مفهوم الشأن العام لا يقلّ ضبابية عن مفهوم الجرائم الخطيرة، وهو يقبل بدوره التوسيع ليشمل مجمل القضايا الحيوية ذات الأبعاد العامّة، وقضايا صرف النفوذ أو قضايا التعرّض للبيئة أو الملك العام أو الأموال العامّة أو التهميش أو الاعتداء على حرية التعبير أو الحرّيات النقابية أو الرّشوة الانتخابية وبشكل أعمّ الفساد الانتخابي…إلخ. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ من شأن توسيع الرقابة المسبقة على الملفّات أن يولي عويدات الكلمة الأولى والأخيرة في أيّ قضية تتّصل بالقطاع العام أو الشأن العام وعملياً في أي قضية تتّصل بأصحاب النفوذ.

فضلاً عن ذلك، فرض النائب العام التمييزي إعلامه بالقضايا التي تثار إعلامياً بما يؤكّد هذا التوجّه.

2. التحوّل من سلطة الإشراف إلى سلطة تدخّل مباشر

الوجه الثاني لتوسيع التنظيم الهرمي داخل النيابات العامّة، تمثّل في تحوّل النيابة العامّة التمييزية من سلطة إشراف توجيهية ورقابية إلى سلطة تدخّل مباشر. فعدا عن أنّه وسّع إطار الرقابة المسبقة من خلال توسيع دائرة القضايا المشمولة بالإعلام المسبق كما سبق بيانه، فإنّه ذهب في بعض الحالات إلى مصادرة صلاحيات النيابات العامّة التابعة له، عبر فرض حصول جميع مراسلات النيابات العامّة من خلاله وبواسطته. ومؤدّى هذا الأمر هو جعل النائب العام التمييزي سيّداً مطلقاً للتحقيق في الجرائم وتحريك الدعاوى العامّة أو صرف النظر عنها، طالما أنّ بوسعه أن يوقف أيّ إجراء يمرّ من خلاله، كلّما رغب في ذلك.

ولعلّ أخطر ما فعله عويدات في هذا المجال هو قراره المؤرّخ في قضية مكتّف[4] بموجب قراره المؤرّخ في 15 نيسان 2021 والذي رشح عن مخالفات[5] قانونية جسيمة، حين قضى بإعادة توزيع الأعمال في النيابة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان مع مفعول رجعي. وبنتيجة هذا القرار، كفّ عويدات يد النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون عن مجمل القضايا المالية الهامّة ومنها قضية مكتّف – الصحناوي – سلامة، ليُحيلها بأكملها إلى محامٍ عامّ آخر في جبل لبنان. وقد أسند عويدات قراره على المادتين 12 و13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والمادة 31 من قانون تنظيم القضاء العدلي، معتبراً ضمناً أنّ سلطته الهرمية على النيابات العامّة في المحافظات تشمل تعديل قرارات توزيع الأعمال الصادرة عن النوّاب العامّين فيها. وقد أثار هذا القرار إشكاليّات كبرى. وعلى رأس هذه الإشكاليات هي أنّ القرار هو بحدّ ذاته غير قانونيّ ويهدف إلى توسيع صلاحيات النيابة العامّة التمييزية ومعها شخصنة الحقّ العامّ وحصره في شخص واحد. وهذا ما يتحصّل من المادة 22 من قانون تنظيم القضاء العدلي، حيث أنّ النوّاب العامّين في المحافظات هم الذين يرأسون دوائر النيابات العامّة فيها ويديرون شؤونها ويشرفون على موظّفيها وعلى حسن سير العمل فيها وتالياً على توزيع الأعمال فيها، من دون أن يكون للنائب العام التمييزي أيّ صلاحية قانونية بالحلول محلّها في هذا الخصوص. وفي حين أصرّت عون على استكمال مهمّتها بحجّة عدم قانونية هذا القرار، استجابتْ الضابطة العدلية المرافقة لها لقرار عويدات الذي عمّم عليها في متن قراره على الأجهزة الأمنية بـ “مساعدة التقيّد بهذا القرار” (قرار كفّ يد غادة عون).  


3. توسيع حدود السلطة المسلكية

الوجه الثالث لتوسيع التنظيم الهرمي تمثّل في توسيع سلطة النائب العام التمييزي المسلكية على سائر قضاة النيابات العامّة وفق ما يتحصّل من التدبير المتّخذ بحقّ القاضية عون تبعاً لمباشرتها الادّعاء في قضية الإثراء غير المشروع ضدّ السيد نجيب ميقاتي ورفاقه في تاريخ 23/10/2019 (أي بعد أسبوع من بدء انتفاضة 17 تشرين)[6]، وذلك على خلفية استحصاله على قروض مصرفية مدعومة بقيمة 30 مليون دولار أميركي. ففي حين سجّلت عون بذلك التطبيق الأوّل لقانون الإثراء غير المشروع الذي كان أقرّ في صيغته الأولى منذ 66 سنة، جاء الجواب على هذه الخطوة الهامّة سريعاً. فلم يكتفِ عويدات بما صرّح به لوسائل الإعلام بأنّ ادّعاءها مشوب بأخطاء جسيمة أبرزها أنّها تجاوزته ولم تعبُر من خلاله، بل ذهب إلى حدّ توجيه أوامر للضابطة العدلية بالامتناع عن تلقّي أي أوامر أو توجيهات منها، بما يشكّل تدبيراً عقابياً بحقها.

وهنا أيضاً، تجاوز عويدات حدود السلطة المناطة به بموجب المادة 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. ففيما له وفق هذه المادة أن يوجّه تنبيهاً إلى أحد قضاة النيابة العامّة بسبب ما يعزوه إليه من تقصير في عمله أو أن يقترح على هيئة التفتيش القضائي إحالته إلى المجلس التأديبي، فإنّه ذهب أبعد ممّا تتيحه له هذه المادة من خلال فرض عقوبة فورية، قوامها كفّ يد القاضية عون عن التواصل مع عناصر الضابطة العدلية أو توجيه تعليمات إليهم، بمعزل عمّا تكون القاضية عون قد ارتكبته من أخطاء.

وبذلك بدا عويدات وكأنّه يستكمل بناء ترسانته: فبعد فرض رقابته المسبقة وسلطته التوجيهية في عدد هائل من الملفّات ومنها جميع الملفّات المتّصلة بالفساد، ها هو يحلّل لنفسه معاقبة نائبة عامّة استئنافية بحجّة مخالفة تعليماته من دون تمكينها حتى من الدفاع عن نفسها، وكلّ ذلك في غياب أيّ نصّ يجيز له ذلك.

ويلحظ أنّ عويدات عاد ليفرض الأمر نفسه في متن قراره المتّخذ في قضية مكتّف والمشار إليها أعلاه.

الهرمية المطلقة تسهّل إفلات الفساد من العقاب

ولهذه الاتجاهات والتعاميم المذكورة أعلاه مخاطر[7] جمّة تهدّد مسار الدعاوى العامّة وبخاصّة تلك المتعلّقة بالشأن العام والأشخاص العامّين والمعرّضين سياسياً، فهي تسمح بتسهيل إفلات أصحاب النفوذ من العقاب إذا ما كانت علاقتهم بالنظام السياسي وتالياً بالنائب العام التمييزي قويّة.

  1. شخصنة الحق العام: النيابة العامّة “الامتيازية”

من نافل القول إنّ هرمية كهذه تقودنا حكماً إلى شخصنة الحق العام بعدما حصر عويدات بشخصه سلطة تحريك أو عدم تحريك الدعوى العامّة في مجموعة كبيرة من الجرائم، هي كما سبق بيانه مجمل الجرائم المتّصلة بالقطاع العامّ والشأن العامّ، أي كلّ جريمة ذات أبعاد اجتماعية أو سياسية. ومن مخاطر إناطة مهامّ بهذا الحجم بشخص واحد، هو ربط الدفاع عن الحق العام بإرادة هذا الشخص وتوجّهاته وارتباطاته والضغوط التي قد تمارس عليه على اختلافها، كلّ ذلك في غياب أي ضوابط أو توجّهات عامّة تحدّد كيفية استخدام سلطته هذه. يضاف إلى ذلك أنّ من شأن فائض النفوذ هذا أن يؤدّي إلى جعله غير قابل لأيّ نوع من المحاسبة الفعلية، وبخاصّة في ظلّ ضعف أداء هيئة التفتيش القضائي وافتقادها إلى أدوات التحقيق.

وبالطبع،  لا تتوقف خطورة شخصنة الحقّ العام عند استغلال النفوذ أو تحويل النيابة العامّة التمييزية إلى إمارة شخصية بما قد يستتبعُها من امتيازات ومنافع، بل أنّها غالباً ما تتحوّل إلى أداة شديدة الفعالية في يد القوى الحاكمة لفرض شروطها وخطوطها الحمر أو حتى الاشتراك في استغلال ما لديها من نفوذ وسلطة، داخل النيابات العامّة والقضاء عموماً. ويتأتّى هذا الأمر بشكل منطقي من الصلاحية المناطة بالحكومة بتعيين النائب العام التمييزي وعزله بمرسوم ومن دون حاجة إلى مراجعة أي هيئة قضائية ولو على سبيل الاستشارة في هذا الشأن، وخصوصاً في ظلّ ضعف الشفافية والآليات الديمقراطية في اتّخاذ القرارات العامّة. وعليه، وفي ظلّ منظومة كهذه، غالباً ما يبرز النائب العام التمييزي بمثابة الشخص المحوري بالنسبة للقوى الحاكمة داخل قصور العدل، بحيث تصبح قادرة من خلال استدراج ولائه على وضع يدها على شبكة النيابات العامّة برمّتها. فلا تتحرّك دعوى إلّا تحت السقف الذي تريده هذه القوى.

ومن أبرز الشواهد على هذا التوجّه والتي وثّقتها “المفكرة” في السنوات الماضية، تحوّل النيابة العامّة التمييزية إلى مقصد لأصحاب النفوذ، يقدّمون لديها شكاويهم وتتولّى هي التحقيق فيها مباشرة، حتى ولو كانت قليلة الأهمية (قضايا القدح والذم مثلاً). وقد بدت النيابة العامّة من خلال ذلك وكأنّها تحدّد الجرائم التي تقرّر التحقيق بها على هذا الوجه، ليس على أساس خطورتها الموضوعية بل على أساس مقام الأشخاص المعنيين بها، سواء كانوا مرتكبين أو ضحايا. وهذا ما دفعنا إلى القول بتحوّل النيابة العامّة التمييزية إلى نيابة عامّة امتيازية. ومن شأن هذه التوجّهات أن تضغط على تعريف عويدات للجرائم الخطرة التي يجدر إعلامه مسبقاً بها، بحيث يشمل هذا التعريف أيّ ادّعاء ضدّ أيّ من الأشخاص النافذين (كما حصل في قضية الإثراء غير المشروع المقدّمة ضدّ نجيب ميقاتي وبنك عودة) حتى ولو كان الجرم خالياً بحد ذاته من أيّ اعتبارات أمنية. فمن هذه الزاوية، لا تكمن الخطورة في طبيعة الجرم إنّما في أهمية المقام المتّصل به.

2. المسّ باستقلالية النيابات العامّة:

ضرر آخر ينجم عن هذه الهرمية هو تجريد النوّاب العامّين ممّا بقي لهم من استقلالية في أداء مهامهم، بفعل تعميم الرقابة المسبقة على القضايا الهامّة التي يتولّون النظر فيها والاستيلاء على بعض صلاحيّاتهم، وبخاصّة في القضايا المتّصلة بالقطاع العام. وهنا أيضاً نعود ونكرّر نقدنا لتوجّهات عويدات: فبدل أن تنصبّ الجهود على تعزيز استقلالية القضاة العاملين في النيابة العامّة من خلال التخفيف من حدّة الهرمية (المضخّمة أصلاً) التي يمارسها النائب العام التمييزي وبدرجة أقلّ النوّاب العامّون الاستئنافيّون، ذهب عويدات في اتّجاه معاكس تماماً نحو تحويل هذه الهرمية إلى هرمية شبه مطلقة، بما ينسف مبادئ الاستقلالية بشكل شبه كامل ويجعلها مجرّد أدوات لتنفيذ ما تتلقّاه من أوامر. ولا يرد على ذلك بأنّ النيابات العامّة تخضع بطبيعتها للهرميّة ولا تنطبق عليها مبادئ الاستقلالية، وذلك للأسباب الثلاثة الآتية:

الأوّل، أنّ أعضاء النيابات العامّة في لبنان كلّهم قضاة أقسموا اليمين بأن يقوموا بوظائفهم القضائية بمنتهى الإخلاص والتجرّد وأن يكونوا عادلين “بين الناس أمينين على حقوقهم”… وأن يتصرّفوا في كلّ “أعمالهم تصرّف القاضي الصادق الشريف” من دون أيّ تمييز بين الوظائف التي قد يتولوّها خلال مسارهم المهني في القضاء أو في النيابة العامّة (المادة 47 من قانون تنظيم القضاء العدلي). ومن نافل القول إنّ الالتزام بهذا القسم لا يكون ممكناً ما لم يتمتّع أعضاء النيابة العامّة بالحدّ الأدنى من الاستقلالية، أقلّه لجهة التصدّي لأيّ تعليمات تتعارض مع القوانين أو تضيّق من صلاحياتهم.

الثاني، أنّ التسلسلية (أو الهرمية) داخل النيابة العامّة (بخلاف القضاء العادي) لا تجد مبرّر وجودها في توحيد المرجعية صاحبة القرار أو تسليط قاضٍ على آخرين إنّما في ضمان المساواة بين المواطنين من خلال وضع قواعد عامّة موحّدة (تعاميم أو تعليمات عامّة) في تفسير القوانين وتطبيقها من قبل النيابات العامّة على طول التراب الوطني من دون أيّ تمييز. ونتبيّن هنا فارقاً شاسعاً بين المنحييْن: ففيما تقودنا الهرمية المبنيّة على شخصنة الحقّ العام إلى فتح الباب أمام ممارسات الامتيازات والتمييز على أساس مدى نفوذهم ومدى قربهم من رأس الهرم وفق ما سبق بيانه، فإنّ من شأن الهرمية القائمة على وضع سياسات جزائية وإصدار تعاميم ملزمة أن تضع حداً للفوضى والانتقائية والمحسوبية (وكلّها أمور يعجّ بها عمل النيابات العامّة وفق اعتراف عويدات في تعميمه نفسه) وأن تفتح باب المساواة أمام القانون والقضاء في آن. ومن البيّن أنّه يشترط لصحّة هذه التعليمات العامّة أن تكون موافقة للقانون وللصالح العام ومبنيّة على المساواة بين المتقاضين وأن تكون منشورة ومتاحة لهؤلاء. ففي هذه الحالة، وفقط في هذه الحالة، نكون في صدد بناء مؤسّسة النيابة العامّة على نحو يضمن وحدتها وتطوّرها ويزيد من قدراتها على تحقيق الصالح العام.

الثالث، أنّ الحدّ من مجالات الانتقائية لا يمكن حصوله إلّا من خلال تفعيل مبدأ CHECK & BALANCE ومن خلال إعمال الحدّ الأدنى من الشفافية، وهو أمر يستحيل في حال حصر الملفّات كلّها لدى شخص واحد، يؤدّي فائض نفوذه إلى وضعه بمنأى عن أيّ رقابة.

ومن هنا، تأخذ تدابير عويدات الهادفة إلى فرض هرمية مطلقة (منتفخة) طابعاً كاريكاتورياً يشكّل في عمقه تعارضاً تامّاً مع القانون ومع مبادئ تنظيم النيابات العامّة.

3. مساعي مكافحة الفساد مسألة سياسية وليست حقوقية

تتحوّل هذه التدابير إلى عائق إضافي أمام متابعة قضايا الفساد أو وقف التعدّيات في مجمل القضايا المتّصلة بالشأن العام بما فيها من قضايا بيئة وصرف نفوذ… إلخ. وهذا ما نستشفّه من الإجراءات الخاصّة المفروضة بموجب هذه التدابير، وقوامها إعمال الرقابة المسبقة في جميع هذه القضايا وحصر المراسلات بين النيابة العامّة والهيئات العامّة على اختلافها بالنيابة العامّة التمييزية وحدها.

فمن شأن هذه التدابير أن تزيد من الإجراءات المطلوبة لاستدعاء أيّ شاهد من العاملين لدى الهيئات العامّة أو رفع الحصانة عن أيّ من هؤلاء بحيث يضاف إليها إعلام النائب العام التمييزي وانتظار إجراءاته (التي قد تأتي أو لا تأتي)، وأن يزيد من المرجعيّات المطلوب الحصول على موافقتها وعملياً الحصانات لهذه الغاية (النيابة العامّة التمييزية)، وبالنتيجة أن يزيد من العوائق أمام ملاحقة الموظّفين العموميين وتالياً من مجالات إفلاتِهم من العقاب. وبذلك، يصبح النائب العام التمييزي، المرجعية الأبرز في فتح أو إغلاق ملفات فساد، مع ما يستتبع ذلك من استنساب وشخصنة وتسييس وامتيازات لكلّ مقرّب أو صاحب نفوذ كما سبق بيانه.

ومن هذه الزاوية، تبدو التدابير المتّخذة مخالفة لتعهّدات لبنان في اتفاقية مكافحة الفساد وبخاصّة المادة 11 منه المتّصلة بضمان استقلال ونزاهة النيابات العامّة، وللمادة 30 المتّصلة بالتدابير الواجبة لتحقيق توازن مناسب بين أيّ حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة لموظّفيها العموميين وإمكانية القيام بعمليات التحقيق والملاحقة والمقاضاة الفعّالة في جرائم الفساد بالنظر إلى خطورتها وأيضاً بوجوب ضمان ممارسة أيّ سلطة تقديرية في اتّجاه ضمان الفعالية القصوى في ملاحقة هذه الجرائم.

تجليّات هامّة لهرمية الإفلات من العقاب

بالإضافة إلى ما تقدّم من تجلّيات سلبية لممارسة الهرمية داخل النيابات العامّة، يجدر توثيق الحالات الآتية:

  • أصدر عويدات تعميماً بوجوب إحالة جميع الملفّات المتّصلة بالاعتداء على ناشطي الانتفاضة إليه، وبخاصة بما يتصل بالاعتداءات الحاصلة في بيروت. وعليه، فإنّ الهجوم[8] الذي شنّه أنصار أحزاب السلطة في 29 تشرين الأوّل وغيرها من الهجمات وبخاصّة في الجنوب وبيروت كانت تحال إلى عويدات ويلاحق فيها، هجمات بقيت عموماً من دون أيّ ادّعاء أو اعتقال أو ملاحقة من قبل النيابة العامّة.
  • تدخّل عويدات لإرغام النائب العام المالي علي إبراهيم على تجميد قرار منع تصرّف المصارف وأعضاء مجالس إدارتها بعقاراتهم وأسهمهم، تمهيداً لاحتكار النظر في الشكاوى المقدّمة ضدّ المصارف. وقد انتهى هذا الاحتكار إلى عقد تسوية[9] مع المصارف قوامها تشريع ممارستها في تقييد حقوق المودعين من دون أيّ نصّ قانوني. ويتّضح من المستند المُسرّب إلى الإعلام أنّ الاجتماع اتّخذ منحًى غير اعتيادي، حيث أنّه لم يجرِ في إطار تحقيق قضائي في دعوى معيّنة، إنّما في إطار التباحث حول شروط تنظيم العلاقة بين المصارف وعملائها، في مشهدٍ يصعب تخيّله في أيّ نظام قضائي. وقد جاءت تسمية الوثيقة بمحضر اجتماع (وليس محضر تحقيق) معبّرة جداً في هذا الخصوص. ورغم أنّ المحضر المسرّب لم يحمل أيّ توقيع رسمي، إلّا أنّ أيّاً من المعنيين لم يكذّبه رغم انتشاره الواسع. وبالنظر إلى “محضر الاجتماع”، يتبيّن أنّ النيابة العامّة انكفأت عن ممارسة صلاحياتها تلك في مقابل اندفاعها من جهة أخرى لممارسة صلاحيات تنظيمية تخرج تماماً عنها. وهذا ما يتبدّى بوضوح كلّي من اجتماع الأمور الآتية:
    • أوّلاً، أنّها لم تكن في معرض النظر في أيّ جرم بعينه، أقلّه وفق ما جاء في محضر الاجتماع حيث خلا من أيّ إشارة إلى أيّ شكوى قائمة أو أيّ جرم معزو للمصارف، رغم كثرة الشكاوى والملفّات المفتوحة لديها وأبرزها الشكوى القائمة على خلفية تحوّل جمعية المصارف إلى “جمعية أشرار” والمشار إليها أعلاه. وقد بدَتْ من خلال ذلك وكأنّها ترفض اعتماد المقاربة العقابية مع المصارف وتؤْثر في المقابل اعتماد المقاربة التفاوضية، فلا يفرض على المصارف تطبيق القانون إلّا بالحدود التي تقبل بها. ومن نافل القول إنّ من شأن هذه المقاربة أن تحوّلها من جهاز يهدف لحماية المجتمع والأفراد من الاعتداءات ضدّهم إلى ما يشبه الوسيط الاجتماعي. وبذلك، نشهد وجهاً آخر من أوجه إفلات أصحاب النفوذ من العقاب.
    • ثانياً، أنها سعت إلى وضع قواعد تنظيميّة للعلاقة بين المودعين والمصارف. ومن شأن هذا التوجّه أن يشكل مسا بمبدأ فصل السلطات والذي يفترض أن تتولى السلطة السياسية (البرلمان والحكومة) وضع القواعد التنظيمية في مقابل تولّي النيابة العامة والقضاء ضمان تطبيق هذه القواعد. فكيف للسلطة نفسها أن تصدر القواعد التنظيمية وتراقب تطبيقها؟ ويبدو عند التدقيق في محضر هذا الاجتماع والإطار العام الذي جرى فيه، كأنما تطوعت النيابة العامة في أداء الدور التنظيمي الذي كانت سائر السلطات السياسية أو الإدارية الأخرى ما تزال منكفئة عنه وقاصرة عن القيام به.
    • ثالثا، أن قرار النيابة العامة بالتخلي عن المقاربة العقابية وممارسة دورها التنظيمي لم يحصل بقرار منفرد منها، إنما بحضور المشتكى منها جمعية المصارف التي طالما شكّلت أداة اللوبي المصرفي، والأهم بغياب جمعية المستهلك (المشتكية) أو أي ممثل عن المودعين لأي جهة كانت. ومن شأن هذا الأمر أن يعكس انحيازاً ظاهراً للنيابة العامة للمصارف، وهو انحياز يظهر بوضوح عند النظر في مضمون القرارات التي رشح عنها “الإجتماع”.
  • احتكار[10] عويدات ملفات الاعتداء على الأملاك البحرية. وهو الأمر الذي أدى إلى تقاعس النيابة العامة وتخليها عن ممارسة دورها في استرداد الأملاك البحرية المعتدى عليها منذ عقود، رغم إعراض العديد منها عن تقديم طلب معالجة ضمن المهل القانونية وفق ما وثقته[11] المفكرة القانونية في مقالات عدة. فوقف الاعتداء على الملك العامّ لا يشكل وفق ما جاء في كتاب للنيابة العامة (7 أيار 2020) استحقاقًا فوريًا تقتضيه وظيفة الحفاظ على أملاك الدولة وبخاصة العامة منها، إنما يكون كذلك فقط في حال اقتضتْه الضرورات والمصالح التي تحدّدها الإدارات العامة. وهذا ما نتبينه بوضوح كلّي من نتائج الإجتماع المذكور حيث تمّ ربط استرداد الأملاك المعتدى عليها ليس فقط بوضع “آلية لوضع اليد عليها”، إنما أيضا بإمكانية إستثمارها لاحقا من قبل الدولة تحقيقا للإيرادات. وهذا أيضا ما يتأكد من إعطاء الأولوية لملاحقة الشّاغلين لغايات سياحية (المنتجعات)، وعمليا للمؤسسات الأكثر قابلية للاستثمار الفوري وأيضا من المطلب الذي وجهته النيابة العامة لوزارة الأشغال العامة في خاتمة كتابها بوضع دفاتر شروط والبتّ فيها في دائرة المناقصات. وبذلك، تتصرّف النّيابة العامّة بشكل يخرج عن صلاحياتها ومسؤولياتها، حيث أن واجبها يقتصر على ملاحقة الاستيلاء على الملك العام، بمعزل عن كيفية استثماره، وهو أمر يجدر أن تقرره الإدارة بعد وضع اليد عليها على ضوء سياساتها العامة وما تسمح به القوانين المعمول بها.
  • تعميم عويدات الذي أصدره بتاريخ 4 آب 2020 ليس فقط للنيابات العامة بل أيضا لقضاة التحقيق والحكم بخصوص كيفية تفسير النصوص المتصلة بحصانات الموظفين العامين، حيث طلب عويدات من قضاة التحقيق والقضاة المنفردين الجزائيين بوجوب إحالة الشكاوى المباشرة التي تردهم ضدّ أي موظف عام إلى النيابات العامة الاستئنافية المختصة فور ورودها وقبل اتّخاذ أيّ إجراء قضائي أو إداري. وقد أصدرت القاضية المنفردة الجزائية لارا عبد الصمد بتاريخ 14/4/2021 قراراً[12] بإهمال هذا التعميم بعدما ذكرت أن “التدقيق في القانون لا يظهر أي صلاحية لجانب المرجع مصدر التعميم في التعميم على قضاء الحكم، الذي ينطق أحكامه وقراراته باسم الشعب اللبناني، لا بل أن القانون ينص على خلاف ذلك، مكرسًا أن جانب النيابة العامة خصم في الدعوى العامة، وبالتالي فلا يجوز أن يعمم الخصم في الدعوى على الحكم ما يجب فعله، وإلا زالت استقلالية القضاء من جذورها”.


[1] جويل بطرس، النائب العام التمييزي، لاعب سياسي أم أداة أخرى للقوى السياسية؟ 1- كيف وسع عضوم صلاحيات النيابة العامة التمييزية بالممارسة؟ المفكرة القانونية، 30/9/2019.
[2] جويل بطرس، النائب العام التمييزي، لاعب سياسي أم أداة أخرى للقوى السياسية؟ 2- قانون 2001 قانون كسر عظم على قياس النيابة العامة التمييزية، المفكرة القانونية، 1/10/2019.
[3] نزار صاغية، سوبرمان جديد في العدلية؟ (1) الهرمية المطلقة أو شخصنة الحقّ العامّ، المفكرة القانونية، 2/11/2019
[4] نزار صاغية وفادي إبراهيم وعماد الصائغ، فتح علبة باندورا بمناسبة قضية مكتّف: من حوّل الأموال إلى الخارج؟ وكيف؟، المفكرة القانونية، 24/9/2021.
[5] نزار صاغية، دعوى ضدّ “سوبرمان” العدلية، المفكرة القانونية، 3/5/2021.
[6] القاضية التي طبقت للمرة الأولى قانون الإثراء غير المشروع خارج الخدمة: وميقاتي يمارس عمله السياسي كأن شيئا لم يكن، المفكرة القانونية، 30/10/2019.
[7] نزار صاغية، سوبرمان جديد في العدلية؟ (2) الهرمية المطلقة تسهّل إفلات الفساد من العقاب، المفكرة القانونية، 4/11/2019
[8] بيان اتهامي برسم النيابات العامة والرأي العام: هجمة البلد ليست عفوية بل موجّهة ومنسّقة، المفكرة القانونية، 30/10/2019.
[9] نزار صاغية وعماد صائغ، النيابة العامة التمييزية تنضوي تحت راية المصارف: تقييد حقوق المودعين بحجة حمايتهم، المفكرة القانونية، 14/3/2020.
[10] نزار صاغية، النيابة العامة تسلّم بنموذج تسليع الشاطئ: أو حين غلبَتْ قيم الحرب، المفكرة القانونية، 18/5/2020.
[11] نزار صاغية ولارا مدّاح، “استرداد الأملاك المنهوبة” الذي بات أكثر إلحاحا: أين خطط وزارة الداخلية في إطار التعبئة العامة؟، المفكرة القانونية، 6/4/2020.
[12] فادي إبراهيم، قرار قضائيّ جديد يبطل تعميم عويدات، المفكرة القانونية، 4/5/2021.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني