قدّمت القاضية غادة عون بتاريخ 27 نيسان دعوى أمام مجلس شورى الدولة ضدّ قرار كفِّ يدها في التحقيق في أهم القضايا العالقة في دائرتها، ومنها قضيّة تهريب الأموال إلى الخارج. وكان النّائب العامّ التمييزيّ غسان عويدات أصدر القرار المطعون فيه بتاريخ 16 نيسان، مُعتبراً أن سلطته كنائب عامّ تمييزيّ (أي رئيس النيابات العامة وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية) تُخوّله تعديل قرارات توزيع الأعمال الصادرة عن النواب العامّين في المحافظات (ومنهم النائبة العامّة في جبل لبنان غادة عون). وقدْ أتى هذا القرار مُنسجماً مع عدد من تعاميمه السابقة والتي هدفتْ إلى توسيع صلاحياته في التحكّم في قضايا الحقّ العامّ وبخاصة قضايا الفساد. وكانت “المفكرة القانونية” حذّرت من هذا التوجه في 3 مقالات نشرتها في 2019 تعليقا على التعاميم التي أصدرها الرجل منذ بدء تعيينه في هذا المنصب. ويكفي التذكير بعناوين هذه المقالات لتبيان مضمونها وهي تباعا: (أول عهد عويدات “الأمر لي”: تعميمان يهددان استقلال النيابات العامة وجهود مكافحة الفساد) و(سوبرمان جديد في العدلية؟ (1) الهرمية المطلقة أو شخصنة الحقّ العامّ) و(سوبرمان جديد في العدلية؟ (2) الهرمية تسهل الإفلات من العقاب). وفيما تساءلنا آنذاك إذا كنا في معرض استيلاء عويدات على صلاحيات خارقة داخل العدلية تمهيدا للتحكم في وجهة التحقيق في قضايا الحقّ العام، فإنّ رصد الأحداث اللاحقة وبخاصة القرار المطعون فيه، إنما أكّد مخاوفنا في هذا الخصوص.
وعليه، إذ تكتسي هذه الدعوى أهمية كبيرة في ما يتّصل بالتّجاذبات الحاصلة في قضية تهريب الأموال، فإنّ لها فضلاً عن ذلك أبعاداً لا تقلّ أهميّة تتجاوز بكثير حدود هذه القضية. فمن شأن الوجهة التي سيتّخذها مجلس شورى الدولة في هذه الدعوى أن تؤثّر على تنظيم النيابات العامة وبخاصة حدود السّلطة الهرمية التي يمارسها النائب العام التمييزي، والتي غالبا ما تؤدّي إلى حصر الحقّ العامّ (أي حقوق المجتمع) في يده وتاليا إلى تمكين النظام الحاكم التحكّم بهذه الحقوق من خلال ضمان ولاء شخص واحد. حصل هذا الأمر من خلال النائب العام التمييزي عدنان عضّوم الذي رسم قانون أصول المحاكمات الجزائية على قياس الصلاحيات التي رغب بممارستها. كما حصل أيضا من خلال خلفه الأسبق سعيد ميرزا. وها نحن نشهد اليوم بروز سوبرمان جديد بشخص غسان عويدات، سوبرمان يؤمل من هذه الدعوى أن تؤدي إلى الحؤول دون تمدّده.
دعوى لتصويب النقاش في قضية تهريب الأموال
من البيّن أنّ القرار المطعون فيه أدى دورا محوريا في قضية تهريب الأموال، وبخاصّة في توصيف الوقائع وتحديد المسؤوليات فيها. فبغياب هذا القرار، كان يُفترض أن تحصل مداهمة مكاتب شركة الصرافة “مكتف” ضمن إجراءات التحقيق الاعتيادية وبصورة سرية، وبعيداً عن أيّ حشود مؤيّدة أو معارضة أو عدسات الكاميرات. كما كان يُفترض أن يوصف فعل القاضية عون بالمداهمة وهو فعل يدخل ضمن صلاحية النواب العامين ومسؤولياتهم عند الاقتضاء. وللتيقّن من ذلك، يكفي التذكير بأن هذا القرار لم يصدر قبل المداهمة كما خيّل للبعض، إنما خلالها وفي مسعى لوقفها، حيث تولّى وكيل شركة مكتّف إبلاغه للقاضية تبريرا لرفض الاستجابة لأيّ من أوامرها. وبذلك أسّس هذا القرار لسرديّات صوّرت إصرار عون على استكمال مهمتها على أنه خروج عن القانون وتمرّد، وصوّرت المداهمة على أنها هجمة أو غزوة بل اعتداء على الأملاك الخاصة. وقد تضاعفت عبارات الشجب على ضوء تزايد جموع الناس الذين أتُوا لمناصرة عون، في موازاة تحذيرات من تحوّل عمل العدالة إلى عراضات أو محاكمات شعبويّة. وإذ ذهبت شركة مكتف لاحقا حدّ إغلاق الباب في وجه القاضية عون، شهدنا مشهدية أخرى تمثّلت في اشتراك مواطنين ومرافقي القاضية في خلع باب الشركة تمهيدا لمداهمتها، مما ضاعف من السرديات الشاجبة لأداء القاضية عون.
وفيما ركزت غالبية السرديات على المشهديات والأوصاف المذكورة، فإن مسألة قانونيّة القرار الذي تسبّب بها بقيَتْ مغيّبة أو تمّ التعامل معها على أنها مسألة نافلة لا تغيِّر شيئا من وجوب التزام القاضية عون بمضمونه أو من استنكار تمرّدها عليه والمشهدية التي استتبعها هذا التمرّد. وقد بلغ هذا الأمر أوجّه في بيان مجلس القضاء الأعلى الصادر بتاريخ 20 نيسان والذي انتهى إلى مطالبة عون بالالتزام بقرار عويدات، “بمعزل عمّا أثير من ملاحظات حول مضمونه” (العبارة وردت حرفيا في البيان). وكأنما المجلس يعتبر أنّه على عون إطاعة النائب العام التمييزي وتنفيذ قراراته بمعزل عن مدى قانونيتها، أو حتى ولو كانت غير قانونية. وقد عبّر المجلس من خلال ذلك عن توجّه خطير قوامه إخضاع القضاء الذي يفترض تميّزه باستقلاله لقاعدة: “نفّذ ثم اعترض”، تيمّنا بقواعد التنظيم العسكري. وهذا ما عاد ليكرّره عدد من الشخصيات التي اتهمت عون بعصيان أوامر رؤسائها وعدم التزامها بموجب الطاعة!
وعليه، يأتي الطعن بالقرار بمثابة علامة استفهام تستمهل كلّ الذين استعجلوا في إطلاق الأحكام وترمي لإعادة تصويب المشهد: فهل هذا القرار الذي أعاب كثيرون على القاضية عون عدم احترامه، قرار قانوني؟ وفي حال ثبتَ أنه ليس كذلك، ألا يؤدي ذلك إلى قلب التصوّرات حول أدوار عون وعويدات ومعهما مجلس القضاء الأعلى، حيث يتغيّر موقع العيب وتنتقل تهمة مخالفة القانون من الأولى إلى هذين الأخيرين؟ فالعيب لا يكمن إذ ذاك كما تصوّر البعض في عصيان أوامر الرؤساء، بل في استغلال هؤلاء نفوذهم لاتخاذ قرارات جائرة وغير قانونية. والعيب لا يكمن في تمرّد عون بل في عرقلة عملها حجباً للحقيقة. والعيب لا يكمن في قرارها بخلع الباب، إنما بالدرجة الأولى في واقعة إغلاقه في وجهها للسبب نفسه.
وفي حين لم نطّلع على مراجعة الطعن. بإمكاننا أن نستعرض هنا مجموعة من المخالفات القانونية والتي يكفي كلّ منها لنسف قانونية هذا القرار، علماً أنّ بعضها يؤدي بفعل جسامتها إلى اعتباره بحكم غير الموجود. ومن أبرز هذه المخالفات، الآتية:
- أن القرار شكل تجاوزا لصلاحية القاضية عون بصفتها نائبة عامة (استئنافية) في جبل لبنان. فمن المسلّم به أن النوّاب العامّين في المحافظات هم الذين يرأسون دوائر النيابات العامة فيها ويديرون شؤونها ويشرفون على موظفيها وعلى حسن سير العمل فيها وتاليا على توزيع الأعمال فيها وفق المادة 22 من قانون تنظيم القضاء العدلي، من دون أن يكون للنائب العام التمييزي أي صلاحية قانونية بالحلول محلها في هذا الخصوص،
- أن القرار جاء بمثابة تدبير عقابي بحقّ عون، وذلك على خلفيّة أنها لم تمثل لدعوتها للاستماع لدى النيابة العامة التمييزية في الشكوى التي قدّمها ضدها رئيس مجلس إدارة بنك SGBL أنطون صحناوي. وهذا ما أكّده بيان مجلس القضاء الأعلى الصادر في 20 نيسان والذي اعتبر أن تدخُّل عويدات حصل بناءً على طلبه باتخاذ إجراءات بحق عون تبعاً لسلوكيات معينة جرى تعدادها في البيان ومنها رفضها المثول في الشكوى المذكورة. وتثبت هذه المخالفة بحكم أنه ليس للنائب العام التمييزي أي صلاحية في إنزال عقوبات بحقّ أي من قضاة النيابة العامة، بل له فقط صلاحية إحالته للتحقيق أمام هيئة التفتيش القضائي لإجراء المقتضى بشأنه،
- أن القرار جاء بمثابة عزل لعون عن مركزها والذي تتولّاه بموجب مرسوم التشكيلات القضائية، حيث تم تجريدها من صلاحية التحقيق في مجمل الجرائم الهامّة في الدائرة التي ترأسها (الجرائم المالية وجرائم القتل والإتجار بالمخدرات). وليس للنائب العام التمييزي أي صلاحية في تعديل التشكيلات القضائية التي تصدر وتعدّل فقط بمرسوم عملا بمبدأ توازي الصيغ،
- أن القرار جاء بمثابة تدخّل لعرقلة عمل عون، بدليل أنه تمّ إبلاغها القرار وهي في معرض قيامها بمهمة قضائية وأن قرار توزيع الأعمال شمل الملفّات التي تحقّق فيها، وليس فقط الملفّات التي لم تُفتح بعد. وبإمكاننا القول في هذا المضمار أن القرار جاء بمثابة استغلال نفوذ لغاية عرقلة تنفيذ قرار قضائي، بما يجعله تحويرا للسلطة وعملا جرميا وفق مفهوم المادتين 371 و376 من قانون العقوبات. للعلم، تعاقب المادة الأولى “كل موظّف يستعمل سلطته أو نفوذه مباشرة أو غير مباشرة ل… تنفيذ قرار قضائي أو مذكّرة قضائية أو أيّ أمر عن السلطة ذات الصلاحية”. أما المادة الثانية فتعاقب “كل موظف أقدم بقصد جلب المنفعة لنفسه أو لغيره .. على فعل لم يخصّ بنصّ في القانون ينافي واجبات مهنته”. وما يزيد من قابلية هذا التدخّل الجرمي للنقد أنه ينافي تماماً جوهر صلاحيات النيابة العامة التمييزية التي تقوم على ضمان السير في التحقيقات والملاحقات الجزائية حماية لحقوق المجتمع، وليس عرقلتها.
وفي حين أن بإمكان بعض الذين اتهموا عون بالتمرد والخروج عن القانون على خلفية عدم التزامها بالقرار أن يتذرعوا بعذر حسن النية، فإنّه ليس لأعضاء مجلس القضاء الأعلى الاستفادة من هذا العذر، بفعل جسامة المخالفة، وبخاصة أن صحة هذا القرار شكّلت مادة نقاش داخل المجلس حسبما نستشفّ من مضمون بيانه. وبذلك، أمكن القول أن أعضاء المجلس هم بدورهم موضع شبهة في اقتراف استغلال نفوذ لعرقلة العمل القضائي، بخلاف ما تفترضه المسؤولية التي انْوجد المجلس من أجلها وقوامها السهر على استقلال القضاء وحسن سير العمل فيه.
بقي أن نعالج مسألة واحدة في هذا الخصوص: هل كان يقتضي على القاضية عون تنفيذ القرار، حتى ولو ثبت أنه غير قانوني وبحكم غير الموجود، بانتظار وقف تنفيذه أو إبطاله بقرار يصدره المرجع القضائيّ المختص (مجلس شورى الدولة)؟ ينبع هذا السؤال عن آراء فقهية فرنسيّة عدّة تؤكّد أنه حتى في حالات مماثلة، ينتج القرار مفاعيله إلى حين إبطاله بحكم قضائي أو بقرار إداري، درءاً لممارسات العدالة الخاصة. وهذه الآراء على أهميّتها لا تنطبق على قضيتنا هذه طالما أن عون هي صاحبة الصلاحية في توزيع الأعمال داخل النيابة العامة التي ترأسها وأن قرار عويدات تمّ تبعا لاغتصاب هذه الصلاحيات بغياب أيّ نص قانوني. وعليه، يكون لعون بداهة الحقّ في تجاوز هذا القرار طالما أنها السلطة الإدارية الوحيدة المخولة اتخاذ قرارات مماثلة. أيّ تصرف آخر كان ليؤدّي إلى تعطيل التحقيق وضياع الأدلة والأهم كان ليشكل إهمالا من القاضية عون في ممارسة صلاحياتها وأداء مهامها.
وعليه، تتبدّى بوضوح أهمية هذه الدعوى في تصويب السّرديات المتّصلة بهذه القضية تمهيدا لإعادة الأمور إلى نصابها. ففي حال ثبوت عدم قانونية القرار، يصبح كل ما أثير عن تمرّد القاضية عون وخروجها عن القانون في غير محلّه، فيما أمكن على العكس من ذلك تماما اعتبار عويدات ومعه مجلس القضاء الأعلى في حال تمرّد ضدّ النظام القانوني، والأخطر في حال استغلال نفوذ مؤدّاه عرقلة تحقيق قضائي لمصلحة المشتبه بهم في قضية تهريب الأموال إلى الخارج. بقي أن نناقش أبعاد الدعوى بما يتجاوز حدود هذه القضية.
دعوى منعطف للحدّ من السلطة الهرميّة
كما سبق بيانه، تتجاوز أهمية هذه الدعوى قضيّة تهريب الأموال إلى الخارج، حيث أنها تهدف أيضا لمواجهة النزعة نحو توسيع الهرمية داخل النيابات العامة وبشكل أعم داخل القضاء، بما يناقض أهم أسس التنظيم القضائي.
للتذكير، فإن النائب العام التمييزي عدنان عضوم نجح بمناسبة تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية (2001) في إرساء نظام هرمي داخل النيابات العامة لا نجد له قرينا في الدول التي تستلهم تنظيم القضاء من النظام الفرنسي. وقد أدى هذا الأمر إلى توسيع هامش النائب العام التمييزي في التحكّم في قضايا الحق العام والتدخّل في أعمال مجمل النيابات العامة كافة، بما ينسجم عموما مع سياسات النظام الحاكم. وهذا ما عبّر عنه أيضا مؤخرا خلفه الأسبق حاتم ماضي الذي ذهب حدّ وصف النيابات العامّة بأنّها الذراع الأمنيّ القضائيّ للحكم. وما فاقم من هذا الأمر هو أن العديد من النواب العامين التمييزيين، لم يكتفوا بممارسة ما تسمح به صلاحياتهم القانونية التي هي واسعة أصلا، بل عمدوا في أحيان كثيرة إلى توسيع سلطتهم الهرمية على نحو يناقض القانون ويضرب أي توازن في العلاقات داخل النيابة العامة وكما الضوابط لدرء استغلال هذه السلطة. وهذا هو الواقع الذي غالبا ما حذرت منه “المفكرة القانونية” في سياق متابعتها لعدد من أعمال هؤلاء، ومنهم عويدات الذي أصدر بعد أقل من أسبوعين من تعيينه في منصبه الحالي (23 أيلول 2019) تعميمين ذهبا في الاتجاه المذكور، وصولا إلى إصدار القرار المطعون فيه.
وما يزيد من أهمية هذه الدعوى، أمور ثلاثة: (1) أنها قد تكون الأولى من نوعها في هذا الخصوص بالنظر إلى ندرة منازعة القضاة وبخاصّة النواب العامين في القرارات الإدارية الصادرة عن الهيئات القضائية بحقهم، و(2) أن نزعة الهرمية التي تستهدفها لا تقتصر على النائب العام التمييزي بل تنسحب على مجلس القضاء الأعلى الذي ذهب إلى حدّ التسليم بموجب الطاعة وقاعدة “نفذ ثم اعترض” كما سبق بيانه، و(3) أن اتجاهها إلى الحد من هذه الهرمية يتلاقى تماما مع الأسباب الموجبة للتعديل المقترح في اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي وشفافيته لتنظيم النيابات العامة، والذي أعدته “المفكرة القانونية” وما يزال عالقا أمام لجنة الإدارة والعدل. فلنتابع.
لقراءة المقالة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية