النائب العام التمييزي، لاعب سياسي أم أداة أخرى للقوى السياسية؟ 1- كيف وسع عضوم صلاحيات النيابة العامة التمييزية بالممارسة؟


2019-09-30    |   

النائب العام التمييزي، لاعب سياسي أم أداة أخرى للقوى السياسية؟ 1- كيف وسع عضوم صلاحيات النيابة العامة التمييزية بالممارسة؟

خلال الأسبوع الماضي، أصدر كل من رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والمدعي العام غسان عويدات تعميمين هدفا إلى ترسيخ الهرمية داخل النيابات العامة. يعيد هذان التعميمان إلى الأذهان السياسات المعتمدة في ظل الوصاية السورية وفي سياق إعداد قانون أصول المحاكمات الجزائية. نظرا لخطورة هذين التعميمين، تعيد المفكرة نشر ما سبق لها توثيقه من ممارسات في هذا المجال. ويلحظ أن أداء النيابة العامة اختلف وفق شخصية النائب العام التمييزي ومدى نفوذه وارتباطه بالسلطة الحاكمة. ففيما ظهر النائب العام التمييزي عدنان عضوم بمثابة شريك في نظام الحكم، لا يجد حرجا في عقد مؤتمرات صحافية أو اتخاذ مبادرات في المجال الجزائي ذات طابع سياسي واضح، فإن بعضهم الآخر بدا أقل إقداما وأكثر تحفظا في الفضاء العام، من دون أن يقلل ذلك بالضرورة من تواصلهم الدائم مع السلطات الحاكمة أو من هيمنتهم على أعمال النيابات العامة. (المحرر).

لم يشهد القضاء في لبنان شخصية أثارت جدلاً كشخصية النائب العام التمييزي السابق عدنان عضوم. فهذا الأخير استطاع بعد فترة وجيزة من توّليه مهامه عام 1995 أن ينصّب نفسه حاكماً في قصر العدل وحتى خارجه. فبات لاعباً أساسياً في النظام، يهاجم ويحاكم معارضيه، يحميه من أعدائه ويتدخل في شؤونه. فقد تمكن عضوم طيلة هذه الفترة من قلب المعادلة من تدخل السياسيين في القضاء لفرض دور القضاء ممثلا بشخصه كلاعب أساسي في السياسة. أصدر تعاميم مطاطة حددت أولويات السياسة الجزائية. لاحق وزراء ونوابا سابقين بتهم الفساد. نظم اجتماعات دورية لقضاة النيابة والتحقيق بما يشكل الترسانة الجزائية في القضاء في ديوانه. تدخل في جميع مفاصل التنظيم كما العمل القضائي، مغيّبا أو مختزلا في الكثير من الأحيان دوري مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل. شكّل عضوم حالة خاصة، لاعباً مهيمناً داخل قصر العدل ولاعباً أساسياً خارجه. حتى أطلق بعض كبار الصحفيين (غسان تويني) على عهده تسمية “العهد العضومي”. كما أطلقت عليه ألقاب عديدة كـ “فرعون[1]“، و”حاكم لبنان القضائي”، “الفاصل بين حدّ تحقيق العدالة وحد السياسة[2]” “حامي الجمهورية والقانون[3]” و”سوبر ستار العدلية[4]“. واللقبان الأخيران أطلقهما عليه كلّ من نائب رئيس مجلس النواب الأسبق إيلي الفرزلي والنائب نقولا فتوش. حتى أن الصحف لجأت إلى استخدام كلمة “ديوان” في إشارة إلى مكتب عضوم، الذي أضحى محجة للسياسيين وأصحاب النفوذ.

توسيع صلاحيات النيابة العامة التمييزية بالممارسة

في إطار إداء دوره السياسي، عمد عضوم إلى توسيع صلاحياته إلى درجة جعلته حاضرا في معظم المفاصل السياسية الهامة، سواء اتصلت بتدابير لقمع المعارضة السياسية أو بالانتخابات النيابية … الخ. وقد وصل توسيع الصلاحيات إلى حدّ رئاسة النائب العام التمييزي للنيابات العامة كافةـ، مع إعطائه سلطة واسعة للتحكم بأعمالها.

الاستنابات

أصدر عضوم استنابات قضائية عديدة وحرص على توزيع مضامينها على الصحافيين ومناقشتها معهم. واللافت أن هذه الاستنابات لم تسطر إلى جهاز الضابطة العدلية (قوى الأمن الداخلي)، بل شملت الأجهزة الأمنية كافة، الأمر الذي خلط بين صلاحيات هذه الأجهزة وحدود عمل كل واحدة منها، فضلا عن أنها تضمّنت عبارات مطّاطة جعلتها في فترات عدة أشبه بعنوان لموجة من الملاحقات القمعية ضد معارضي النظام السياسي السائد آنذاك.

ومن أكثر هذه الاستنابات دلالة، استنابة أصدرها إلى “جميع الأجهزة الأمنية[5] والضابطة العدلية لجمع المعلومات وإجراء الاستقصاءات اللازمة[6]” لمعرفة اللبنانيين، سياسيين وغير سياسيين، الذين قد تواصلوا مع العدو الإسرائيلي بغية الإخلال بالأمن وإثارة النعرات الطائفية ودفع المواطنين إلى الاقتتال وتعكير العلاقات مع الدول العربية. كما طالب إيداع النيابة العامة المحاضرات والمقابلات التلفزيونية التي تطرقت إلى هذه المواضيع لإجراء الملاحقات القضائية المناسبة. وأوضح عضوم فيما بعد أن هذه الاستنابات تخص فقط “الأشخاص الذين يثبت قيامهم باتصالات ونشاطات خارجية، من شأنها المس بعلاقات لبنان الاستراتيجية وخياراته الوطنية[7]“. ولّدت هذه الإستنابة بلبلة كبيرة فاستنكرتها المعارضة فيما أكدّ عدد كبير من المعنيين أن عضوم قصد منها ملاحقة أفراد معيّنين، في مقدمتهم المشاركين في لقاء قرنة شهوان والعماد ميشال عون (رئيس الجمهورية الحالي) والذي تردد أنه كان يعمل آنذاك مع الإدارة الأميركية على إعداد قانون محاسبة سوريا. وقد هاجم آنذاك عون عضوم ورأى أن هذا الأخير لا يحترم سرية التحقيق ولا علانية المحاكمة، بفعل ما يصرح به وما يسرّبه. فتوّجه إليه في كتاب نشرته “النهار”: “حضرة النائب العام، يبدو لي أنكم تبدأون بسرية المحاكمة، وتنتهون بعلانية التحقيق…لا يحق لك التشهير بعباد الله لأي سبب كان، وأنت في كل مرة تتكلم، تمس بقرينة البراءة، التي تشكل حقاً أساسياً لكلّ متهم، فكيف والحالة أنك تختلق التهم[8]“. تجدر الإشارة هنا إلى أن العماد عون لم يكن الوحيد الذي انتقد عضوم لانتهاكه قرينة البراءة وتناوله مجريات قضية ما قبل الانتهاء من التحقيق. وفي حين يبتعد معظم القضاة عموما عن الردّ على منتقديهم مبررين ذلك بموجب التحفظ، لم يتوانَ عضوم يوماً عن التوجه إلى الاعلام للتصويب على مهاجميه. فردّ عضوم على عون مؤكداً أن الهدف ليس ملاحقة “لقاء قرنة شهوان” المعارض للوصاية السورية على لبنان أو العماد ميشال عون. “فللحقوق حدود يجب ألا يتجاوزها الأفراد في المجتمع اللبناني. أنا لا أسمّي أحداً. لم أسمّ أي فريق ولا أقصد أي فريق. فليس للنيابة العامة تصوّر لأي فريق معيّن. ونريد أن نعرف إذا كانت الأفعال التي نسمعها أو قيل عنها صحيحة قد ارتكبها أشخاص لبنانيون[9]“. وأوضح أن تاريخ مفعول الاستنابة هو “ضمن مهلة مرور الزمن”.

كما كان عضوم استدعى صحافيين إلى التحقيق تنفيذا لاستنابات سابقة. فاستدعى عام 1996 الصحافي في “النهار” بيار عطاالله “لاستيضاحه في إطار الاستنابات القضائية التي صدرت إلى الأجهزة الأمنية”. حتى أنه لاحق من خلال الاستنابات المطابع التي كانت تطبع مناشير المعارضة[10]. وفي آب 1998، أصدر عضوم بعد بدء “ثورة الجياع” التي قادها الشيخ صبحي الطفيلي في البقاع استنابة طلب فيها من كل الأجهزة الأمنية اللبنانية “جمع المعلومات عن الداعين إلى تجمعات وتظاهرات، والمخلين بالأمن والمحرضين على هذه الدعوات والمشاركين فيها. وتضمن الطلب تزويد القضاء أشرطة كاسيت تحوي خطباً ألقيت في تجمعات حصلت في الفترة الأخيرة[11]“. وأصدر عضوم في أواخر العام 1998 استنابة إلى جميع الأجهزة الأمنية “للتثبت من صحة المعلومات التي وردت عن نقل ملفات من مؤسسات وإدارات رسمية وحملة الشائعات التي رافقتها[12]“. وقد أوجب عضوم في الاستنابة إعلام المسؤولين في حال تمّ إخراج أي ملف. وأوضح أن هذه الاستنابة ليس الهدف منها أن تطال أحداً بل التحقيق فقط في المعلومات الواردة والتأكد من صحتها.

استباق حصول جرائم

لم تقتصر مهمات عضوم على تسطير الاستنابات أو الرد على المنظمات الدولية، بل ذهب إلى إصدار تعليمات لقطاعات مهنية واسعة ضمانا لتنفيذ القانون وتاليا منعا لحصول جرائم، من دون أن يتردد أن يؤدي أدوارا تعود لوزارات أو مؤسسات أمنية. ومن هذه التعليمات، التعليمات التي أعطاها عضوم للمستشفيات لإدخال مرضى قسم الطوارئ فور وصولهم إلى المستشفى ومحذرا إياهم من الملاحقة في حال التخلف عن تنفيذ القرار “بجرم التمنع عن إسعاف شخص ما في حال الخطر[13]“. كما أنه طالب أصحاب شركات الإعلان بإزالة “الإعلانات الإباحية” عن الطرق تحت طائلة الملاحقة التي “لن توّفر أحداً” وفقاً لنصوص “تطول جرائم التعرض للآداب العامة والأخلاق العامة والحياء العام[14]“. وفي الاتجاه نفسه، أصدر تعميما بتنظيم إرسال فتيات للعمل إلى الخارج تحت حجة العمل الفني[15].

كما حرص عضوم على التنسيق الدائم مع قيادة الجيش لجهة “الحفاظ على الأمن”. فدعا المدعين العامين في لبنان إلى اجتماع في عام 1996 “للبحث في صلاحيات النيابات العامة في ضوء المرسوم الرقم 7988 القاضي بتكليف الجيش مهمات الحفاظ على الأمن في كل الأراضي اللبنانية وسبل التنسيق منعاً لتشابك الصلاحيات خلال فترة العمل بهذا المرسوم. وأنيطت بالقضاء العسكري المخالفات التي قد تنتج من تجمعات أو أعمال شغب، إضافة إلى المخالفات الفردية في حال نشوئها عن غير تجمعات ضمن صلاحيات القضاء العادي[16]“.

كما توّلى عضوم تنظيم عمل القضاء والضابطة العدلية خلال انعقاد مؤتمر القمة العربية في بيروت في آذار 2002. فطلب أن تكون “المراجعات القضائية من الضابطة العدلية طوال فترة انعقاد القمة محصورة بقضاة النيابات العامة لجهة حضورهم (إلى مكاتبهم) أو الاتصالات التي تتمّ معهم عبر الهاتف. وطلبنا أن يتصلوا دائماً بنا خلال دوام متواصل سنؤمنه على مدى 48 ساعة، وهي مدة المؤتمر، وسنكون على السمع[17]“. ورجح عضوم عدم إعطاء إذن بالتظاهر وطالب الجميع التقيّد بالتعليمات تحت طائلة الملاحقة.

مراقبة الانتخابات النيابية 1996

تولّى عضوم تنظيم توزيع القضاة في فترة الانتخابات النيابية عام 1996 والإشراف على عملهم في هذا الإطار. وعارض فكرة الترخيص لجمعيات تراقب الانتخابات “لأن القضاء يراقب ويفتح عينه على كل الأمور ليرتاح المواطنون”. وفي إطار متابعته لمجريات الانتخابات، حرص عضوم على عقد اجتماعات بالقضاة لتوزيع المهام عليهم وللإشراف على عملهم خلال النهار الانتخابي. كما كلف عددا من القضاة بالتواجد في المحافظات لتلقي شكاوى المواطنين وتطبيق القانون دون تمييز بين المرشحين. “نريد أن تكون هناك شدة في التعامل مع كلّ من تسوّل له نفسه أن يخالف القوانين أو يفكر أن من الممكن ألا تسير العملية الانتخابية ضمن شروط النزاهة والحرية”. وقد تناول عضوم أيضاً عمل قضاة لجان القيد: “ثمة مصادفة أن بعض المحامين العامين هم أيضاً رؤساء لجان القيد، ومعلوم أن رئيس لجنة القيد لا يبدأ عمله إلا بعد إقفال الصناديق فيقوم المحامي العام بدوره كممثل للنيابة العامة في المنطقة المحددة له وفي المساء يقوم بدوره كرئيس لجنة قيد لينحصر عمل النيابة العامة بعد ذلك بالقضاة الذين لا يترأسون لجان القيد، فيؤمّن بذلك التغطية الكاملة لعملية تطبيق القانون بالنسبة إلى الجرائم الحاصلة ثم لعملية الفرز[18]“. وبذلك، بدا عضوم وكأنه يفرض من خلال المدعين العامين الخاضعين لسلطته التسلسلية رقابة شاملة على الانتخابات، من لحظة فتح الصناديق إلى حين إعلان النتائج.

توجيه عمل قضاة التحقيق والحكم

لم يكتف عضوم بإدارة النيابات العامة، بل شملت سياساته قضاء التحقيق وبدرجة أقل قضاة الحكم.

ومن الشواهد على ذلك هو الاجتماعات الدورية التي دأب عضوم على عقدها في ديوانه والتي كانت تجمع أعضاء النيابة العامة وقضاة التحقيق على حد سواء[19]. وكان يتناول خلال اجتماعاته سير العمل في دوائر قضاء التحقيق، ويحث القضاة على الإسراع في البت في الملفات العالقة. حتى أنه طالب بتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لأنه يعرقل عمل قضاة التحقيق.

ومن الشواهد الأخرى، التعاميم التي وجهها عضوم والتي طالت قضاة التحقيق الأول وأعضاء الهيئات الاتهامية بالإضافة إلى الدوائر العدلية كافة. ومن هذه التعاميم مثلا، تعميم موجه لقضاة النيابة العامة والتحقيق بـ “عدم الإجابة عن الأسئلة التي يوجهها إليهم ممثلو الدول الأجنبية أو الهيئات الدولية عملاً بأحكام القانون المعمول به[20]“، من دون توضيح ما هو القانون، والذي من المرجح أن يكون قانون أصول المحاكمات الجزائية. وبالتالي نصبّ نفسه على أنه الوحيد الذي يحاور ويجيب على هذه الدول والمنظمات الأجنبية. وطالب في تعميم آخر جميع القضاة “العمل على الحؤول دون حصول تجاوزات من جانب موظفي الدوائر التابعة لهم تحت طائلة ملاحقة هؤلاء جزائياً[21]“.

وعمد عضوم إلى التحدث خلال مؤتمراته الصحفية عن الإنتاجية في القضاء وإحالة القضاة على التفتيش. فوعد بتطبيق منطق “الثواب والعقاب على نوعية عمل القاضي”. كما أنه كان يتناول التشكيلات القضائية وتفضيله لاعتماد مبدأ المداورة. “أؤمن بمبدأ أساسي في العمل القضائي. وهو عدم ركون القاضي في مركزه طويلاً[22]“.

تعاميم وتعليمات عامة

أسهب عضوم في استخدام وسيلة “التعميم” لتوجيه عمل النيابات العامة وبعض الدوائر القضائية كما سبق بيانه. وقد أبدى عضوم توجها بذلك بترسيخ نظام هرمي داخل القضاء مرتبط بشخص النائب العام التمييزي. ومن اللافت في هذا الإطار هو التعميم الذي أصدره عضوم في 19 آب 1996 إلى المدعين العامين الاستئنافيين وإلى المديرين العامين في الأجهزة الأمنية ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ومصرف لبنان منع فيه قضاة النيابات العامة من “توجيه أي تعميم أو مذكرة أو كتاب إلى أي مرجع تكون له صفة التدابير العامة[23]“. وبالتالي، حصر عضوم مهمة توجيه التعاميم بشخصه فقط.

تعاميم ذات طابع أمني:

ويلحظ أن هذه التعاميم غلب عليها الطابع الأمني، علما أن بعضها ذهب إلى تكريس دور بعض القطع الأمنية، أحيانا على حساب القضاء وحقوق الدفاع والتقاضي. ففي أحد التعاميم الصادرة عنه، فرض عضوم عدم احتساب الفترة التي تستغرقها التحقيقات الأولية مع المشتبه به من ضمن مدة التوقيف الاحتياطي، معطيا بذلك الأجهزة الأمنية مجالا لإطالة أمد التوقيف[24].  كما أصدر عضوم تعميما إلى “المفارز القضائية المتخصصة بقسمي المباحث الجنائية العامة والخاصة، التحقيق في جرائم الأحداث المشهودة وغير المشهودة بالأفضلية عن غيرها من القطع الإقليمية[25]“. وأظهر عضوم اهتماما خاصا بالسجل العدلي حيث أصدر حوالي أربعة تعاميم لتوحيد محتوى السجل[26]. كما حدد في تعميم أن صلاحية تأديب السجناء تعود فقط لقوى الأمن من دون الرجوع إلى القضاء[27]. وطالب إيداع مكتب التحريات كل “الأوراق العدلية الصادرة بحق مجهولي الإقامة أو متوارين ومكان إقامتهم غير معروف[28]“. ولم يتردد عضوم في تعميم آخر من تجاوز صلاحيات وزير العدل حيث توّجه إلى الدوائر القضائية طالباً “التدقيق في البرقيات الموجهة إلى قوى الأمن الداخلي لتأمين سوق الموقوفين وخصوصاً لجهة الهويات الكاملة ومواعيد الجلسات المقررة[29]“.

ووضع عضوم لائحة ببلاغات البحث والتحري المستثناة من سقوطها حكماً إلى بعد 10 أيام بموجب قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. ومن ضمنها “مذكرات الاستقصاء الصادرة عن قيادة الجيش والمتعلقة بالجرائم التي تقع على أمن الدولة الداخلي وجرائم الإرهاب والتجسس والتعامل مع العدو شرط أن يصار إلى مراجعة النيابة العامة المختصة فور العثور على الشخص لاتخاذ القرار المناسب في حقه[30]“.

وأصدر سلسلة تعاميم متعلقة بالسيارات المزمع إتلافها أو استيرادها. فأجبر المرائب على التبليغ عن السيارات التي تعرضت لحوادث سير لديها قبل تصليحها وعدم إتلاف أي سيارة قبل إظهار شهادة أنقاض موقعة من مصلحة تسجيل السيارات والآليات[31]. وفي تعميم آخر، وضع عضوم آلية لاستخراج السيارات المستوردة من المرفأ[32].

كما طلب من قضاة النيابات العامة “عدم الموافقة على ترحيل أي شخص من الخارج إلى لبنان ومن أي جنسية كان من دون اقترانها بالموافقة الإدارية المسبقة من المديرية العامة للأمن العام سواء كان ورد طلب الترحيل بواسطة منظمة الانتربول أو السلطات المختصة في البلد المرحّل أو سفارته في لبنان[33]“.

تعاميم وتعليمات لتنظيم الضابطة العدلية:

سعى عضوم خلال عهده إلى تنظيم علاقة النيابة العامة التمييزية بالضابطة العدلية. إذ كان يعتبر أن مراقبة النيابة العامة لمجريات التحقيقات وشرعيتها وقانونيتها تضمن عدم تجاوز القوى الأمنية لحدود سلطتها. وأنه من واجب النائب العام التمييزي “التدخل في أدّق التفاصيل الأمنية التي لها علاقة بانتظام عمل الأجهزة الأمنية والقضائية”[34]. ووافقه وزير العدل بهيج طباره على هذا التوّجه فأكدّ على ضرورة إشراف النيابة العامة على عمل الضابطة العدلية. وعليه، أعطيت التعليمات لقضاة النيابة العامة لكي “يتوّلوا الإشراف الفعلي على التحقيقات التي تجرى في الضابطة العدلية[35]“.

وفي إطار تنظيم هذه العلاقة، عقد عضوم اجتماعات دورية سنوية للنيابات العامة لتنظيم علاقتها بالضابطة العدلية. فشدد على أن يكون “للنيابة العامة الاستئنافية الدور الأساسي في مراقبة كل الملاحقات، وأن تشرف النيابة العامة شخصياً على المعطيات المتوافرة لكل موضوع”. ورأى أن الضابطة العدلية “أصبحت أكثر تقيّداً بأحكام القوانين إن لجهة المراجعة في شأن الموقوفين أو بالنسبة إلى بدء الملاحقات…وأصبح حضور النيابات العامة أكثر فاعلية على الأرض، لأن قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق ينتقلون إلى مسرح الجريمة فور حصول جريمة تشكل جناية[36]“. وبالتالي يتمّ حفظ الأدلة وعدم بعثرتها لتضييع مجرى التحقيق.

وأعاد عضوم تنظيم عمل الضابطة العدلية وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد فور إقراره. فأصدر تعليمات مشددة لاحترام مدة التوقيف الاحترازي المحددة بـ48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة. وفي حين اعتبر أن هذه المهل ضيّقة لاسيما في ما يتعلق بقضايا المخدرات، طلب من القضاة التقيّد بالمهل. وحذر عناصر الضابطة العدلية من تجاوز حدود سلطتهم إذ أن “أي احتجاز لشخص خارج المهل المحددة تتحمّل مسؤوليته الضابطة العدلية ونعتبر الأمر إذ ذاك احتجازاً للحرية[37]“. كما طلب في تعميم من كل الأجهزة الأمنية التي تقوم بدور الضابطة العدلية في أيلول 2000، “ألا تبادر إلى تنفيذ مذكرات التوقيف إلقاء القبض، إلا ضمن معاملة استرداد وفقاً للشروط المنصوص عليها في الاتفاق القضائي اللبناني – السوري[38]“. وأصدر تعميماً في كانون الثاني 2001 طلب فيه من الأجهزة الأمنية ابلاغ الجهاز الأمني المختص عن جميع التوقيفات التي ينفذها عناصرها.

كما أصدر تعميماً في 6 تشرين الثاني 2001 قبل البدء بالعمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد طلب من خلاله من جميع “القطاعات الأمنية تنظيم جدول مفصل بكل بلاغات التحري المقرر اتلافها تمهيداً لتتخذ النيابة العامة التمييزية القرار اللازم في شأنها[39]“. كما طلب من النيابات العامة عدم إصدار بلاغ بحث وتحر في حال لم يكن الجرم يستدعي السجن. أما في حال الغرامة، فعلى النيابة العامة “تنظيم بطاقة دليل الشخص المطلوب ووضعها في خزانة المطلوبين بغية إبقاء المعلومات لدى الاستعلام عنه من أي جهاز أمني[40]“.

وفي تعميم في آذار 2002، طلب من قوى الأمن الداخلي أن يبلغ الضابط المكلف التحقيق بجريمة ابلاغ النائب العام المختص بها فور وصوله إلى مكان وقوعها. وأعطى تعليماته بعدم إجبار المشتبه به على الكلام في حال رفض ذلك. وحسم في حزيران 2002 وجوب “اعتماد البريد المضمون لنقل المراسلات العدلية وعدم الاستعانة بعناصر قوى الأمن الداخلي لنقل البريد إلا في الحالات الاستثنائية[41]“.

وفي تعميم آخر في 6 تشرين الأول 2004 لجميع ضباط الأجهزة الأمنية وعناصرها في الضابطة العدلية، حذر من تسريب هويات المشتبه بهم وصورهم إلى وسائل الاعلام تحت طائلة الملاحقة[42].

تعاميم حمائية للحقوق وللأطفال:

وفي موازاة هذه التعاميم الأمنية، أصدر عضوم بعض التعاميم الآيلة إلى حماية فئات اجتماعية معينة أو الحقوق، وإن بقيت أقل عددا وحضورا من التعاميم ذات الطابع الأمني. فأعلن في تعميم أنه ضد الممارسات الآيلة إلى استخدام النيابة العامة لتحصيل ديون الدولة[43]. كما أنه سعى لحماية الأطفال فطلب التشدد في تطبيق القانون “الذي يمنع على القصّر دخول الحانات والمرابع ليل نهار[44]“. وحاول تنظيم وضع السجناء الأجانب في السجون اللبنانية. فطلب “كتابة أسماء السجناء الأجانب في خلاصات الأحكام وكل المذكرات العدلية بالعربية والأجنبية نقلاً عن الوثائق الثبوتية الرسمية الموجودة معهم منعاً لحصول أي خطأ[45]“.

النيابة العامة التمييزية تدعي على الدولة:

فاجأ عضوم الجميع في عام 1998 بإقامة أول دعوى من نوعها وهي الدعوى التي أقامها بصفته ممثلا عن النيابة العامة ضد الدولة تبعا لمسؤوليتها عن أعمال القضاة. وقد قدمت الدعوى ضد حكم صادر عن الغرفة السابعة من محكمة التمييز في قضية اتجار بالمخدرات. وقد ولدت هذه الدعوى تساؤلات عدة أسالت الكثير من الحبر[46]. فقد سأل القاضي السابق والمحامي سليم العازار في مقال في “النهار”: “هل يمكن للنائب العام في ظل التشريع الحالي، أن يداعي الدولة بالمسؤولية، وهو ركن من أركانها، ويأتمر، واقعاً وقانوناً بها وبتوجيهاتها؟[47]

حق الإشراف على التحقيق والإدعاء:

درجت النيابة العامة التمييزية على إجراء التحقيقات مباشرة في الجرائم المختلفة، وخصوصا الجرائم ذات الطابع الأمني أو السياسي، وذلك وسط تشكيك متزايد لصلاحيتها في هذا الخصوص. وبتاريخ 7 تشرين الأول 1999، كشف النائب مصباح الأحدب عن قرار أصدرته هيئة التفتيش القضائي بناء على شكوى من أحد المحامين، واعتبرت فيه أن تحقيقات النيابة العامة التمييزية تتجاوز حدود السلطة. وتناول الأحدب في كتاب إلى مجلس النواب عمل النيابة العامة التمييزية معتبراً بأن ما تجريه “من تحقيقات وما تتخذه من قرارات تصل إلى حد حجز حرية المستمع إليهم لفترات زمنية متفاوتة[48]“. جاء كتاب الأحدب عقب التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة التمييزية في ملفات فساد طالت فريق رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. إذ عمد عضوم خلال هذه الفترة إلى استدعاء عدد من النواب والوزراء إلى التحقيق، ما أثار سخط الفريق المناهض له ولعهد الرئيس لحود.

لم يتأخر ردّ عضوم على التقرير المسرّب لهيئة التفتيش. فاعتبر في بيان صادر في اليوم التالي أن إجراء التحقيقات تحدده القوانين السارية والنيابة العامة التمييزية نفسها التي تشرف على أعمال التحقيقات وتسيّرها “ولا يعود إلى أي مرجع آخر أن يحدد لها حدود صلاحياتها، ولوزير العدل وحده الحق في أن يبدي رأيه في هذا الصدد إذا لاحظ أن هذه التحقيقات غير منطقية على أحكام القانون”. ولفت إلى أن هيئة التفتيش قامت، من دون أن يكون لها صلاحية أو اختصاص، “بالتعليق على هذا الموضوع خلافاً لما يفرضه القانون عليها من التقيّد بحدود صلاحياتها” مما يعرّضها للمساءلة[49]. ورأى أن “هيئة التفتيش القضائي تجاوزت حدود صلاحياتها في إبداء هذا الرأي الذي يعود إلى وزير العدل وحده”. وحصر صلاحية هيئة التفتيش في المهمات التي حددها لها قانون القضاء العدلي. “وهذه الصلاحية لا تتعلق بالنيابات العامة وتحديداً بالنيابة العامة التمييزية من قريب ولا من بعيد. ثم أنها ليست بهيئة استشارية لتعطي أي مرجع حكومي رأيها، فتكون بذلك قد تعدت حدود صلاحياتها، مما يعرضها للمساءلة”[50].

وبالتالي، وبدل أن تلاحق هيئة التفتيش النائب العام التمييزي، أوحى هذا الأخير بأنه سيعمد إلى مساءلتها لتجرّئها على انتقاد ممارساته. فذكّرها بدورها وحدود صلاحياتها، وجزم أن مساءلته تتمّ فقط من قبل وزير العدل وبالتالي ألغى أي إمكانية لمحاسبته. وهو ما يشكل سابقة في تاريخ القضاء، إذ إن جميع القضاة دون استثناء معرّضون للمساءلة أمام هيئة التفتيش القضائي، بمن فيهم بالطبع النائب العام التمييزي وقضاة النيابة العامة على عكس ما ذكر عضوم في بيانه.

أدّى هذا الخلاف إلى تدخل مجلس القضاء الأعلى الذي كان قليل الحضور في معظم فترة عهد عضوم. وكان واضحاً أن تدخله هنا جاء فقط لمنع تبلور الخلاف في العلن بعدما تناول الإعلام الأمر. وعليه، اعتبر مجلس القضاء الأعلى في بيان صادر في 12 تشرين الأول 1999 “أنه لا يعود لمجلس القضاء الأعلى في ما هو موكول إليه من مهمات بموجب أحكام القانون، أن يعطي لنص قانوني تفسيراً معيناً عاماً وملزماً للمحاكم أو لأي هيئة قضائية أخرى والا فقد القاضي حرية القرار وهي أساس عمله”. ورأى أن المسألة لا تتعدّى كونها مسألة اختلاف بالرأي في قراءة القانون، رافضاً “أي إيحاء من قبل وسائل الاعلام بأنها خلاف بين القضاة[51]“.

وعلّق المحامي سليم العازار على هذه المسألة في مقال نشر في “النهار” فأكدّ “أن النائب العام التمييزي لا يستطيع إجراء أي تحقيق جزائي، بنفسه أو بواسطة معاونيه، رغم أن له، كما لوزير العدل، حق توجيه النيابات العامة الأخرى والإشراف عليها، وخاصة أن النيابات العامة التمييزية السابقة، العديدة والمتعاقبة، قد طبّقت على الدوام هذه النصوص بحرفيتها، ولم تشذ عنها يوماً على مدى عشرات السنين”. وذكّر العازار بصلاحيات رئيس هيئة التفتيش القضائي بمقتضى الفقرة 2 من المادة 14 بموجب قانون تنظيم التفتيش القضائي الصادر عام 1961 والذي نص على أن يفتش عن محكمة التمييز نفسها، دون أي استثناء…[52].

أثارت المشادة على الصلاحيات بين النيابة العامة التمييزية وهيئة التفتيش القضائي اهتمام الرأي العام وبالتالي وسائل الإعلام. وفي معرض تعليقه على المسألة، هاجم الصحافي غسان تويني موقف عضوم بشكل عنيف. فأسف للهجة التي اعتمدها عضوم للردّ على هيئة التفتيش، فاعتبر أن هذه اللهجة “لو استعملها صحافي لكان سيادته لاحقه بما عوّدنا عليه طوال مدة ولايته المتسلطنة، والتي بدأت من أربع أو خمس سنوات، فلم يردعه رادع، لا وزير عدل ولا رئيس وزير”. وشبّه تويني النائب العام التمييزي بالفرعون ولجأ إلى الحكمة الشعبية “يا فرعون مين فرعنك؟ فأجاب تفرعنت وما حدا ردّني![53]“. ولم يتردد تويني في إطلاق لقب “العهد العضومي” على فترة توّلي عضوم مهامه. وهو لقب شاع لاحقاً بعد تصاعد الخلافات بين القوى المعارضة للنظام والنائب العام التمييزي.


[1]  غسان تويني. في العدالة وحصانتها والحرية و…”الفرعنة”. جريدة النهار، 11 تشرين الأول 1999

[2]  مجلس الوزراء يعيّن “حاكم لبنان القضائي” و”برج المراقبة”. جريدة النهار، 7 تموز 1995

[3]  الفرزلي يدافع عن عضوم حامي الجمهورية. جريدة النهار، 2 تشرين الأول 2003

[4]  مواقف وآراء حول طلب النيابة العامة التمييزية رفع الحصانة عن فتوش. جريدة الديار، 7 كانون الأول 2003

[5]  مخابرات الجيش اللبناني، مديرية الأمن العام، مديرية أمن الدولة، مديرية قوى الأمن الداخلي والضابطة العدلية.

[6]  الأمن المركزي: الحديث عن تراجع الأمن تجنٍ سياسي. جريدة النهار، 25 أيلول 2002

[7]  عضوم يوضح ماهية الاستنابات. جريدة النهار، 25 أيلول 2002

[8]  عون يردّ على تصريحات عضوم: تصرفاته يشوبها خلل قانوني. جريدة النهار، 25 تشرين الثاني 2002

[9]  عضوم: لا نستهدف فئة وحرية التعبير حدودها سقف القانون. جريدة النهار، 26 أيلول 2002

[10]  عضوم: من يثبت ضلوعه يحال على القضاء خلال يومين. جريدة النهار، 25 كانون الأول 1996

[11]  النيابات العامة تنشط معلوماتياً. جريدة النهار، 12 آب 1997

[12]  عضوم: لا خلفية سياسية لتحرك القضاء. جريدة النهار، 5 كانون الأول 1998

[13]  عضوم: ادخال المرضى في حال الخطر تحت طائلة المسؤولية. جريدة النهار، 11 كانون الأول 2003

<“

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني