التوتر الدبلوماسي بين تونس والمغرب ضمن سياقه الإقليمي


2022-09-02    |   

التوتر الدبلوماسي بين تونس والمغرب ضمن سياقه الإقليمي

في حدث سياسي لافت، استقبل الرئيس التونسي “قيس سعيّد” الأمين العام لجبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” في مطار تونس قرطاج قبيل انعقاد الدورة الثامنة من مؤتمر طوكيو الدولية للتنمية في إفريقيا “التيكاد” في العاصمة التونسيّة. لم يكن هذا الاستقبال ذا طبيعة تقليديّة، بل شكّل انقلابا واضحا على أسس الدبلوماسية التونسية في السياق الإقليمي تحديدا وسياسة رأب الصدع التي لطالما تبنّتها تونس في مقاربتها لخفض أسباب التوتر بين الجارين المغاربيّين، الجزائر والمغرب. لم يقتصر الأمر على الاستقبال فقط، بل جمع لقاء في قاعة بمطار تونس قرطاج بين “سعيّد” و”غالي”، أظهرت فيها الصور علم ما يُعرف ب”الجمهورية العربية الصحراوية” إلى جانب العلم التونسي، وكأنه شكل من أشكال الاعتراف الرسمي. وقد أثارت هذه الأحداث بما لها من معانٍ ردود أفعال غاضبة من قبل المغرب، التي صرّح ملكها “محمد السادس” قبل أسابيع بأن قضية الصحراء “هي المنظار الذي ينظر بها المغرب إلى العالم”.

يبقى التساؤل هنا مشروعا عن خلفيّة مثل هذا التصرّف الدبلوماسي التونسي المفاجئ، وآفاق تجاوز هذا التوتر. فالأسباب أعمق من الدور الجزائري المفترض في الضغط على تونس لاتخاذ هذا القرار حتى وإن كان عاملا له ثقله بحسب عدد من المراقبين. ولئن كانت جملة من الأسباب غير معروفة إلى حدّ هذه اللحظة، إلاّ أن اقتفاء أثر جملة من التحولات السياسية في علاقات الجزائر والمغرب ببعض القوى الدولية تحديدا قد تُساعدنا في تفكيك جزء من خلفيات هذا التوتّر المستجدّ وفهم حيّز من بواعثه.

قضية الصحراء عنوان للبوصلة الدبلوماسية المغربية

كان دخول أمين عام جبهة البوليزاريو “إبراهيم غالي” إلى إسبانيا بشكل سري وبهوية ثبوتية مزورة في أفريل 2021 لغرض العلاج، بداية لأزمة دبلوماسية حادة بين الرباط ومدريد امتدّت لأكثر من سنة. تنوّعت أوجه الأزمة وطرق الضغط الدبلوماسي من كلا الطرفين قبل الوصول إلى نوع من المصالحة منذ أشهر قليلة. لكن الثابت من خلال هذه الحادثة مدى حساسية المغرب من توظيف ملفّ الصحراء الغربيّة. وبوجه عام، يشكل التعاطي المغربي مع هذه الأزمة، والأدوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية التي تمّ توظيفها، مثالا حيّا عن ردّة الفعل المغربية إزاء منعرجات سياسية مشابهة.

استعملت المغرب في البداية السلاح القضائي، بإخضاع “إبراهيم غالي” للاستجواب في المحاكم الإسبانية في خصوص انتهاكات لحقوق الإنسان. كما علّقت المغرب حركة النقل البحري للمسافرين بين المغرب وإسبانيا، مما خلّف تأثيرات سلبيّة على اقتصاد الجنوب الإسباني. أما الملف الذي استخدمه المغرب ببراعة في هذا الخلاف، فكان ورقة الهجرة غير النظامية، حيث تدفّق أكثر من 10 آلاف مهاجر غير نظامي يومي 17 و18 ماي 2021 فقط إلى مدينة “سبتة”. كما تواترت عمليات الهجرة من الجنوب المغربي والصحراء الغربية في اتجاه جزر الكناري الإسبانيّة المقابلة لتزيد بنسبة 135 بالمائة خلال شهري جانفي وفيفري 2022.

 أثمرت هذه الضغوطات المغربيّة تراجعا إسبانيا عن الموقف السابق، من خلال تغيير وزيرة الخارجية الإسبانية “لايا غونثاليث” خلال تعديل وزاري، وهي الشخصية التي تم تحميلها مسؤولية التوتر في العلاقات مع المغرب. ثم عادت أجواء العلاقات بين البلدين على إثر زيارة رئيس الحكومة الإسباني “بيدرو سانشيز” إلى المغرب في أفريل المنقضي وتمّ التوقيع على بيان مشترك بين البلدين يُفهم من محتواه المساندة الإسبانية لموقف المغرب من قضية الصحراء، وهو تغير ديبلوماسي نوعي بلا شك. لم يقتصر هذا التحوّل في بعض المواقف الأوروبية من الملف الصحراوي على إسبانيا فقط، بل شمل كذلك ألمانيا التي زارت وزيرة خارجيّتها “أنالينا بيربوك” العاصمة المغربية الرباط يوم 25 أوت الماضي. حيث تمّ إصدار بيان مشترك بين البلدين ينصّ على أنّ “ألمانيا تعتبر مخطط الحكم الذاتي-المقترح من المغرب- بمثابة مجهود جدي وذي مصداقية” و”قاعدة جديّة لحل النزاع”. وهو موقف مناقض لما صدحت به الدبلوماسيّة الألمانية في مجلس الأمن عبر انتقادها للقرار الأمريكي بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربيّة، والذي أدّى إلى تعليق الرباط للتواصل مع السفارة الألمانية في مارس 2021.

هذا المجهود الدبلوماسي المغربي في محاولة إحداث اختراقات على مستوى المواقف الأوروبية من قضية الصحراء (إسبانيا، ألمانيا وهولندا كذلك)، وإن نجح في بعض مهامه، إلا أنه لم يوفّق حتّى اليوم في الضغط على الطرف الفرنسي بالتحديد لاتخاذ موقف حاسم من المسألة. وهو ما يفسر جانبا من توتّر العلاقات بين البلدين خلال هذه الفترة، خاصة على إثر زيارة الرئيس الفرنسي “ماكرون” للجزائر، وقد يكون عاملا مهمّا كذلك لفهم تغيرات الموقف التونسي الأخير.

فرنسا ولعبة التوازنات في المنطقة المغاربيّة: هل هناك دور فرنسيّ خفيّ في التوتر الأخير؟

تزامنا مع زيارة وزيرة الخارجيّة الألمانية إلى الرباط، انتقل وفد رسمي فرنسي يقوده رئيس الجمهورية “إيمانويل ماكرون” إلى العاصمة الجزائريّة، ويضمّ وزراء ومسؤولين في قطاعات الاقتصاد والطاقة والهجرة والأمن والتعاون العسكري. تُعتبر هذه الزيارة ضمن السياق الحالي حدثا استثنائيّا بكافة المقاييس. فمن المعروف أنّ الرباط هي الوجهة المغاربيّة الأولى في الغالب للرؤساء الفرنسيين على إثر الانتخابات. إلا أنّ جملةً من العوامل أدّت إلى تغيير الحسابات الفرنسية هذه المرّة، وإحداث نقلة في العلاقات مع الجزائر. فبعد أزمة صامتة بين البلدين على مدى سنة 2021، أدّى تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء على إثر الانسحاب الفرنسي من مالي، وأزمة الإمداد الطاقي إثر الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تقارب بين البلدين عنوانه المصالح المشتركة وأبرزها التعاون العسكري الثنائي والاستفادة من النفوذ الجزائري في منطقة الساحل. وليس أدلّ على ذلك من الاجتماع الأمني الذي نُظّم خلال اليوم الأول من الزيارة بحضور رئيس أركان الجيش الجزائري “سعيد شنقريحة” ووزير الجيوش الفرنسي “سيباستيان لوكورنو”. كما يُعتبر الملف الطاقي أحد أبرز محاور الزيارة، مع حديث عن زيادة الإمدادات بالغاز الجزائري إلى فرنسا أسوةً بالإتفاقيات السابقة التي وقعتها الجزائر مع إيطاليا خلال ماي الماضي.

يقابل هذا الانفراج في العلاقات الجزائرية الفرنسية، فتور ملحوظ في علاقات باريس بالمغرب، ظاهرُه مشكلة خفض فرنسا للتأشيرات المقدّمة لعدد من الدول المغاربية وتداعيات ملف “بيغاسوس”، الذي اتّهمت فيه بعض الصحف الفرنسية المغرب بالتجسس على بعض الشخصيات من دول مختلفة، ومن بينهم الرئيس الفرنسي “ماكرون” عن طريق برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي. إلاّ أن عوامل أخرى مهمّة قد تكون وراء هذا التوتّر، ومن أهمها النفوذ الاقتصادي المغربي المتزايد في منطقة غرب أفريقيا، وهو إقليم ذو أهمية استراتيجية أساسية بالنسبة لفرنسا. هذا بالإضافة إلى تحالفات المغرب الجديدة مع الولايات المتحدة والإسرائيليين التي ستنافس العلاقات التقليدية بين فرنسا والمغرب والتململ المغربي الملحوظ من موقف فرنسا في ملف الصحراء الغربية.

هنا يُطرح احتمال قد تدعمه مؤشّرات جديّة عن تحريض فرنسي -بشكل غير مباشر ربما- للتأثير في الموقف التونسي من ملفّ الصحراء الغربيّة كورقة سياسيّة قد يلعبها “قصر الإليزي” في إطار التوتّر مع المغرب. إضافة للاستفادة من تشكّل خط سياسي جزائري- تونسي متناغم في عدد هامّ من القضايا على إثر زيارة الرئيس التونسي الأخيرة إلى الجزائر. لكنّ هذا المعطى على أهميّته لا ينفي كذلك جملة من التطوّرات الأخرى التي أدّى تراكمها إلى التوتر الحالي في العلاقات المغربية- التونسية.

التحدّي الإستراتيجي؟

مثّل انضمام المغرب للمعاهدات الإبراهيمية في ديسمبر 2020 وتواتر الاتفاقيات الاقتصادية بين المغرب والطرف الإسرائيلي تحدّيا استراتيجيا هامّا للتوازن الأمني في المنطقة المغاربيّة، خصوصا وأن هذا التعاون قد تركّز منذ فترة وبشكل محموم على الجانب العسكري. ففي نوفمبر 2021، وقّع وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني غانتس” مذكرة تفاهم في الرباط لتنظيم العلاقات الأمنية مع المغرب، أعقبه إنشاء لجنة عسكرية مشتركة في مارس 2022. لكن التطوّر الأكثر أهمية كان في 19 جويلية الماضي حين زار رئيس الأركان الإسرائيلي “أفيف كوخافي” الرباط، ليدور الحديث عن مشاريع عسكرية مشتركة مع المغرب تشمل نقل التكنولوجيا العسكرية والتعاون الاستخباراتي.

تُزكّي مثل هذه الخطوات مخاوف صانع القرار في تونس من إمكانية تنسيق استخباراتي بين المغرب والكيان الصهيوني قد يستهدف الأمن القومي التونسي، على إثر المواقف التونسية الأخيرة المناهضة للتطبيع. وهو أحد الأسباب التي أدّت إلى التقارب التونسي الأخير مع الجزائر الذي حمل عناوين الأمن القومي والتحديات المشتركة. كما ساهمت التصريحات الأمريكية الأخيرة، ولعلّ من أهمها في هذا السياق رؤية “جوي هود” المرشّح لمنصب السفير الأمريكي في تونس، والتي تحدّث فيها عن وسائل القوة الصلبة والناعمة التي يمكن للولايات المتحدة اتخاذها لدفع تونس نحو مسار التطبيع، عنصرا آخر لتعميق حالة التوجّس لدى الدبلوماسية التونسية حيال هذا الملف.

التحولات في المواقف

عموما، شكل الاستقبال الرسمي الذي حظي به “إبراهيم غالي” من قبل الرئيس التونسي عنصرا فارقا وغير معتاد في الموقف التونسي من ملف الصحراء الغربية، وهو الملف الذي حافظت فيه الدبلوماسية التونسية على مبدأ الحياد الإيجابي منذ اندلاع الأزمة في أواسط سبعينيات القرن الماضي. فقد عُرف عن الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة محاولته إيجاد تسوية سلميّة للقضية برعاية الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية (حينذاك)، وتجنب تكرار سيناريو الأزمة التي اندلعت سنة 1960 مع المغرب على إثر اعتراف تونس بموريتانيا والتي دامت لخمس سنوات. وقد تواصل هذا النهج الدبلوماسي الحيادي حتى بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، باستثناء محاولة من الوزير الأول “الهادي البكوش” الذي كان مقرّبا وقتها من الجزائر، لاستدعاء أحد قيادات جبهة البوليزاريو إلى تونس. إلاّ أنّه سرعان ما تم تجاوز ذلك لتعود تونس إلى نفس الموقف الدبلوماسي من القضية. كما أشارت تسريبات “ويكيليكس” إلى مشروع تونسي لعقد قمة إقليمية حول الصحراء الغربية، تم التطرّق إليه أثناء لقاء جمع “بن علي” بمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى وشمال إفريقيا “ديفيد ويلش” في أفريل 2008، وهو مشروع وئد في مهده بسبب المعارضة الجزائرية حسب نفس المصدر.

لم تؤثر الثورة التونسية على هذه الثوابت، رغم التقلّبات التي مرّت بها السياسة الخارجية التونسية خصوصا خلال السنوات الأولى وتأثيرات لعبة المحاور الإقليمية، بل كان هناك حرص كبير من المسؤولين التونسيين على موازنة المواقف بين الجزائر والمغرب. هذا ما يُفسّر مثلا إلغاء رئيس الحكومة التونسي الأسبق “الحبيب الصيد” لزيارته المقررة إلى المغرب في فيفري 2016 بسبب تضمنها لحضور مؤتمر في مدينة “الداخلة” الواقعة في الصحراء الغربية، لتفادي شبهة الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء.

غير أن هذا التحوّل في الموقف التونسي اليوم، رغم تبريره بدعوة الاتحاد الإفريقي جبهة البوليزاريو بالحضور في قمة “التيكاد”، والاستشهاد بحضور المغرب في دورات سابقة من المؤتمر بوجود ممثلين عن الجبهة، لا يُخفي نقلة جديدة في التأثير الدبلوماسي الجزائري على تونس. تأثيرٌ يتعدّى هذه المرّة الخطوط الحمراء التقليدية التي كانت تضعها الدبلوماسية التونسية في هذا الإطار، بالاستفادة من تنامي حالة التبعية الطاقية لتونس تجاه الجزائر والدور الذي تلعبه هذه الأخيرة في تزويدها ببعض المواد الأساسية تزامنا مع الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد حاليا.

مع ذلك، تقتضي استقلالية القرار الوطني التونسي قدرا هامّا من الحكمة في مواجهة هذا التوتّر الدبلوماسي والحدّ ما أمكن من الضغوط الخارجية، والأهم من ذلك الابتعاد عن المزاجية الشعبويّة التي قد تؤدّي إلى هدم أسس قامت عليها السياسة الخارجية التونسية، وضمن عمقها الاستراتيجي بالذات. فتونس اليوم تتمتع بعلاقات اقتصادية مع المغرب تميل لكفّتها عموما، إذ بلغت قيمة الواردات المغربيّة من تونس 215 مليون دولار سنة 2021، أي ما يقارب ضعف قيمة الصادرات المغربية إلى تونس (123 مليون دولار). هذه العلاقات الاقتصادية تستدعي اليوم مزيدا من التمتين في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية، وربما تكون بابا لتجاوز التوتر السياسي.

على تونس اليوم أن تنأى بنفسها عن أن تكون أرضاً لمعركة دبلوماسية حول موضوع الصحراء الغربيّة، وأن تحاول استعادة دورها كوسيط لتقريب وجهات النظر وترميم التعاون المغاربي الذي ما انفكّ يعاني من أزمات هيكلية مستعصية على الحلّ. ولكن على المغرب في المقابل الابتعاد عن الوسائل الدعائية المعمقة لشرخ الاختلاف أو الانخراط في مشاريع قد تؤثر سلبًا على الأمن القومي للمنطقة المغاربية ككل وليس تونس فحسب. فسياسة الضغط التي اعتمدتها المغرب مع بعض القوى الأوروبية، وإن أثمرت نجاحا في انتزاع مواقف مساندة في ملف الصحراء، إلا إنها لا ينبغي أن تكون السلوك المبدئي للسياسة الخارجية المغربيّة مع كافة الأطراف. خصوصا إذا ما أدى هذا الضغط إلى نتائج معاكسة تماما كما هو الحال في التوتر الحالي مع تونس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، المغرب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني