هل تُعتبر”25 جويلية” بداية النهاية لسياسة “الحياد الإيجابي”؟


2021-12-09    |   

هل تُعتبر”25 جويلية” بداية النهاية لسياسة “الحياد الإيجابي”؟

لا يعسُر على المتابع لخريطة التحالفات الإقليمية أن يتبيّن مدى التحوّل السريع في طبيعة المحاور المؤثّرة في المنطقة وبداية التأسيس لمرحلة جديدة، تحكُمها بالأساس تغيّرات المصالح وموازين القوى. ولا تُعدّ المرحلة السياسية التي تشهدُها تونس، إثر إجراءات 25 جويلية، نشازاً عن كلّ ذلك، بل هي في قلب هذه التغيّرات مع مرور البلاد بمرحلة إعادة تموقع وخضوعها لتوازنات استراتيجية حسّاسة إلى حدّ كبير. مع ذلك، لا تبدو الرؤية السياسية الحاكمة في تونس – مع أهمّيّة هذه اللحظة – مواكِبة لذلك بشكل كبير، وهي التي أخذتْ اتّجاهاً واحداً مع وضع مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة يدها تماماً على مقاليد الأمور. لا تثريب في القول إنّ هذه الرؤية، إلى اليوم، ليست قادرة لا على الانسجام والمواكبة لهذا التحوّل الخارجي فحسب، بل حتّى مع واقع العلاقات الدولية وبنيتها. ولا زالت تُصرّ، مع تعدّد البدائل المُتاحة، على جملة من وجهات النظر الجامدة التي ما انفكّت تجرّ البلاد إلى وضع سوداوي وسلبي.

أيّ تأثير لسياسة المحاور على الوضع التونسي حاليّاً؟

اعتبرت أصوات عديدة ما حصل في تونس في جويلية بمثابة الفصل الأخير من حقبة الربيع العربي الذي بدأ من المكان نفسه قبل عشر سنوات. وبذلك تمّ استغلال الحدث – عوداً على بدء – كدليل قاطع على الفكرة التي رُوِّج لها سابقاً والقائلة بعدم قابليّة البنية المجتمعية في البلدان العربية لنظام الديمقراطيّة الليبرالية ومؤسّساته. لقد عبّر الرئيس التونسي قيس سعيِّد عن ذلك بشكل واضح أثناء مكالمة أجراها في شهر أوت الماضي مع الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبّون” إذ فسّر له أنّ التردّي الذي مرّت به التجربة التونسية يكمنُ في اتّباعها نظاماً سياسياً لا يتلاءم وخصوصيّات بلدان العالم الثالث. وتالياً، لا يخفي موقف سعيِّد هذا تقاطُعاً مهمّاً مع المحور الإقليمي المضادّ لفكرة الانتقال الديمقراطي، الذي وإن اختلفت طريقة التفكير معه حول الحلّ السياسي أو الغايات فإنّه يتّفق معه حول الجانب المرحلي في إزاحة المنظومة الديمقراطية بشكلها الحالي. هذا ما يحيلنا إلى احتفاء القسم الأعظم من إعلام هذا المحور بما حصل في تونس في 25 جويلية، خصوصاً الإعلام الإماراتي الذي يبدو أنّه تحصّل على موطئ قدم كبير داخل مؤسّسات الدولة، وبالأخصّ مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة. حظوة جعلتهُ يحصل على السبق في نقل الأخبار الحصرية عن الوضع السياسي التونسي (ومن بينها الإعلان “خفيّ الاسم” للتنظيم الجديد للسلط العمومية) بشكل يتجاوز وسائل الإعلام الوطنية التي يظهر أنّها لم تنلْ بعدُ رضى الرئاسة رغم خطّها المساند عموماً للـ”تدابير الاستثنائية”. كما لم يتأخّر إعلان الإمارات مساندتها المطلقة لهذه الإجراءات، التي وَصَفتْ على لسان وزير الدولة للشؤون الخارجيّة والمستشار الدبلوماسي “أنور قرقاش”، أثناء زيارته رئيس الجمهوريّة يوم 7 أوت، المشروعَ الرئاسي بـ”الأجندة الطموحة”، مُعرباً عن “مساندة الإمارات العربية المتّحدة لرئاسة الجمهوريّة التونسية في هذه الأجندة الإيجابية”.

من اليسير ملاحظة التحوّل في الموقف الإماراتي بعد تاريخ حافل من العداء للتجربة الديمقراطية على مدى عقد كامل، وصلت حدّ استدعاء أبو ظبي سفيرها في تونس يوم 27 سبتمبر 2013 عقب تصريح الرئيس التونسي الأسبق “المنصف المرزوقي” خلال الدورة 68 للأمم المتّحدة الذي هاجم فيه عمليّة الاستيلاء على السلطة في مصر. نفور استمرّ حتّى بعد سنة 2014 على الرغم من تبوُّؤ “الباجي قائد السبسي” سدّة الحكم في تونس بدعم إماراتي ضمني. ولطالما ساد الفتور على العلاقات الإماراتية التونسية منذ ذلك التاريخ، انطلاقاً ممّا عُرف بقضية التأشيرات في جوان 2015، عندما منعت السلطات الإماراتية منح تأشيرات السفر لعشرات العائلات التونسية والمستثمرين والأطبّاء لتتصاعد تلك الأزمة بمبرّرات أخرى في ديسمبر 2017. كما كان غياب الإمارات عن المجال الاستثماري في تونس لافتاً، خصوصاً في ندوة الاستثمار تونس 2020 التي انعقدت في نوفمبر 2016 في تونس.

إلّا أنّ هذه المساندة الإماراتية المستجدّة لمنظومة ما بعد 25 جويلية في الظاهر قد تتّخذ منحى آخر إذا ما تغيّرت طبيعة “الأجندة” بين لحظة وأخرى. فالدعم الإماراتي يبقى مشروطاً بمستقبل تصوُّر السلطة في تونس للعلاقة مع حركة النهضة مستقبلاً واتّخاذ إجراءات تصعيدية – ربّما – ضدّها. كما أنّ للمحور نفسه علاقة قويّة بالتيّار السياسي المُساند للمنظومة القديمة وبجزء مؤثّر من مؤسّسات الدولة. ولعلّنا لا نُبالغ في القول إنّ رئيس الجمهوريّة لم يستطعْ النجاح في خطوته السياسية لولا الدعم المُبطّن من تحالف سياسي ومؤسّساتي واسع مهّد الأرضية في الواقع لاتّخاذ مثل تلك القرارات. هذا التحالف نفسه قد يدعم فاعلين آخرين في صورة انتفاء المصالح مع سلطة قيس سعيِّد التي تمضي بشكل حثيث نحو تغيير النظام السياسي، ما قد يُهدّد البلاد بضرب استقرارها مستقبلاً.

مُتغيّر إقليمي آخر قد يُلقي بظلاله إلى حدّ كبير على الوضع في تونس، يتمثّل أساساً في الترتيبات السياسية الجارية على مستوى البلدان المؤثّرة في المنطقة، مع ما نشهدُه من تقارب واضح بين الإمارات وتركيا، المُمثّلَيْن التقليديَّيْن لحِلفَيْن مُتضادَّيْن من الناحية الاستراتيجية بعد زيارة الشيخ “طحنون بن زايد” مستشار الأمن القومي الإماراتي للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في 18 أوت، التي تلتها محادثات لرئيسَيْ صندوق الثروة ووكالة دعم الاستثمار لكلا البلدين. هذه اللقاءات، يُضاف إليها استمرار التهدئة التركية-المصريّة خلال الأشهر الأخيرة، قد تقُود إلى مُعادلة جديدة في المنطقة ستكون تونس من جملة الملفّات التي ستشملها هذه التسويات. كما تشهد الساحة الخليجية الداخلية تغييراً في محدِّدات العلاقات الداخلية، بين ما يقرأه بعض المحلّلين كبدايات “فكّ ارتباط” بين الإمارات والسعودية حيال بعض الملفّات، ومن أبرزها الحرب الدائرة في اليمن وسعي المملكة العربية السعودية إلى إيجاد قنوات تفاوض سرّي مع إيران، فضلاً عن توجّه سعودي (يبدو أنّه بتعليمات أميركية تحديداً) لاستعادة النسق العادي للعلاقات مع قطر بعد إنهاء سياسة الحصار.

سياقات المكاسب والخسائر

على الضفّة الأخرى، يكتنفُ الغموض الدور الجديد الذي قد تلعبه قطر ضمن الساحة السياسية التونسية التي خسرت جانباً مُهمّاً من أوراقها السياسية بعد الخامس والعشرين من جويلية. فقد حاولتْ السياسة القطرية دعم التحالف الحكومي السابق حتّى آخر لحظة. وقد حقّقت مقابل ذلك جملة من المكاسب الاقتصادية. بالعودة إلى زيارة رئيس الحكومة التونسية الأسبق “هشام المشيشي” إلى قطر في أواخر شهر ماي الماضي، نجدُ أنّ النيّة كانت متّجهة نحو رفع تراخيص التملّك بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب. وقد أفصح المشيشي لصحيفة قطرية عن نيّته تسهيل تراخيص استثمار الأراضي الدولية الفلّاحية للمستثمر القطري على وجه الخصوص. وفي السياق نفسه، وقبل الإعلان عن التدابير الاستثنائية بثلاثة أسابيع فقط، سبق لمجلس نوّاب الشعب أن صادق على استحداث مقرّ إقليمي لصندوق “قطر للتنمية” بموجب اتّفاقيّة شراكة بين البلدين. ويُعدّ هذا الصندوق من أبرز الصناديق التنموية الأجنبية في تونس حيث يستثمر ما يقارب 100 مليون دولار في المشاريع التنموية. كما تُعتبر الاستثمارات القطرية الأولى عربياً في تونس.

لعلّ مصير هذه الاستثمارات، كما مصير الدور القطري في تونس، يبقى رهين الخطوات القادمة. فعلى إثر الانتكاسة التي مرّت بها السياسة القطرية هنا، اتّجه الجهد الدبلوماسي القطري إلى معالجة الملفّ الأفغاني إثر انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. فقد لعبَتْ السياسة القطرية على تشكيل محور إقليمي هناك مُستفيدة مسبقاً من موقع الوسيط المؤثّر والفاعل خدمة لمصالحها الاستراتيجية طويلة الأمد حول خطوط نقل الطاقة، كما كسبت ورقة نفوذ مهمّة لدى القوى الغربية من خلال دورها السياسي واللوجستي في عمليّات الإجلاء. من المؤكّد أنّ قطر ستستثمر هذه الحظوة، لدى عدد من الدوائر الأميركية خصوصاً، في ملفّات أخرى من بينها الملفّ التونسي الذي من المرتقب أن يعود إلى جدول عمل السياسة الخارجية القطرية. فلا يزال القطريون عنصراً فاعلاً في الجوار التونسي وداعمين رئيسيين لرئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية.

وبالحديث عن ليبيا التي ما زالت عنصراً هامّاً في المعادلة التونسية الحالية، ليس خفيّاً مدى التخوّف من اتّجاه الوضع هناك نحو التصعيد. إذ عقب قرار البرلمان الليبي سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية الليبية، بدأت التلميحات نحو عودة الاضطراب السياسي مع دعوة رئيس الحكومة الليبي “عبد الحميد الدبيبة” إلى التصدّي لمجلس النوّاب وقراراته شعبياً. لا تُخفي مثل هذه التغيّرات جزءاً من التأثّر بالحالة التونسية، ولكن في باطن الأمر قد يُستغَلّ هذا التصعيد لصناعة نزاع جديد يعطّل انعقاد الانتخابات المقبلة في موعدها يوم 24 ديسمبر المقبل. وما يثير القلق توفّر كلّ مقوّمات تجدّد النزاع المسلّح، التي يُدركها العارفون بخفايا الأزمة الليبية وتعقيداتها. وليست المناوشة التي حصلت بين “جهاز دعم الاستقرار” وكتيبة 444 في معسكر اليرموك في العاصمة طرابلس يوم الثالث من سبتمبر إلّا قادحاً لاصطفافات أعمق داخل الغرب الليبي بين معسكر مدعوم ومموَّل تركيّاً ومعسكر آخر يُعبّر عن شبكات نفوذ محلّية على ارتباط ببعض الأطراف الخليجية (الإمارات خصوصاً).

تحوّلات السياق الدولي وأزمة الدبلوماسية التونسية

منذ أوائل أيلول، تتعاقب التحوّلات السياسية بشكل دراماتيكي على المستوى العالمي. فرنسا، أحد أهم المؤثّرين على الساحة التونسية تدخل في خلاف مع شطر هامّ من المُعسكر الغربي ممثَّلا بالولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة وأستراليا، على خلفيّة أزمة الغوّاصات وتهدّد بالانسحاب من حلف الناتو. وإقليمياً بلغت أزمة العلاقات الجزائرية-المغربية حدّاً غير مسبوق وصل إلى غلق المجال الجوّي الجزائري أمام الطيران المغربي، فضلاً عن ارتباك في المحاور التقليدية بين محاولات التقارب وتعزيز أسس الاختلاف. بذلك يصير المخاض عسيراً إقليمياً ودولياً، كما هو الحال وطنياً، ممّا يعسّر المهمّة على الدبلوماسيّة التونسية في أداء دورها خلال هذه المرحلة.

في هذا السياق الدولي المُتقلّب، تدخل العلاقات التونسية الأميركية في دوّامة من الجدل بعد مرحلة من التعاون الوثيق. فبعد الثورة التونسية، تعاقبتْ زيارات كبار المسؤولين التونسيين إلى الولايات المتّحدة: منها زيارة الباجي قائد السبسي إلى واشنطن في أكتوبر 2011 زمن تولّيه منصب رئاسة الحكومة وما حملته من وعود أميركية بدعم الاستثمار في تونس ووضع برنامج اقتصادي. ومنها لقاء الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع الرئيس السابق المنصف المرزوقي في 23 سبتمبر 2013 على هامش الدورة العادية للأمم المتّحدة وبرئيس الحكومة الأسبق “المهدي جمعة” سنة 2014 تمهيداً لعقد سلسلة من اللقاءات مع مديرة صندوق النقد الدولي ومدير البنك الدولي وعدد من أصحاب الأعمال الأميركيين. وقد عرفت هذه العلاقة مع الطرف الأميركي مُنعرجاً جديداً بعد زيارة السبْسي، رئيساً للجمهوريّة هذه المرّة، إلى واشنطن في 20 ماي 2015 وتوقيع مذكّرة تفاهم للتعاون طويل المدى بين تونس والولايات المتّحدة الأميركية حول المجالات الاقتصادية والعسكرية والأمنية ودعم الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وبخلاف الجوانب الاقتصادية، هيْمن البعد الأمني والعسكري على طبيعة العلاقات التونسية الأميركية. وقد تجلّى ذلك تحديداً خلال تكوين القيادات العسكرية التونسية وتدريبها والتزوّد بالعتاد العسكري ودعم المعهد الأميركي للبحوث العسكرية وبرنامج بناء مؤسّسة الدفاع العسكرية لإحداث مركز للأبحاث العسكرية صلب وزارة الدفاع التونسية. وقد كانت “خطّة العمل الوطنية الثنائية” التي وُقّعت في 2017 بعد سلسلة من المشاورات بمثابة المُخطَّط الأساسي للشراكة الدفاعية بين البلدين.

لم تقتصرْ استراتيجيّة التعاون على الجانب الثنائي بل تجاوزتْها إلى دفع الطرف التونسي للمشاركة في برامج عسكرية دولية تحت إشراف أميركي، خصوصاً تحت مظلّة حلف “الناتو”، كالمشروع الخاصّ بتنسيق الجهود على صعيد الاستخبارات والمراقبة وتبادل المعلومات بين مختلف أعضاء الحلف، ومن بينها تونس صاحبة مرتبة “الحليف الأساسي غير العضو في الناتو”، ومشاركة الجيش التونسي في مناورات الأسد 21 التي أشرفت عليها قوّة “الأفريكوم” الأميركية في جوان 2021، بل واختيارها ضمن محطّاتها الثلاث.

 لكنّ هذا التعاون ما فتئ يشهدُ تغييراً بعد المنعرج الذي مرّت به البلاد عقب إعلان “التدابير الاستثنائية”. فتعاقُب الزيارات من المسؤولين الأميركيين، ومن بينها زيارة نائب مستشار الأمن القومي الأميركي “جون فاينر” ومساعد وزير الخارجية المكلّف بالشرق الأوسط في 13 أوت الماضي التي تلتها زيارة وفد من الكونغرس إلى تونس برئاسة السيناتور “كريس مورفي” والسيناتور “جون أوسوف” يومَيْ 4 و5 سبتمبر الماضي (وهي رسالة ضمنية لمشروع سعيِّد أساساً)، أكّدت التشديد الأميركي على العودة إلى المسار الديمقراطي البرلماني. ويُلحَظ في الآونة الأخيرة التصعيد الذي تتّخذه السياسة الأميركية تجاه الرئيس سعيِّد بعد إصدار الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021. فقد صرّح السيناتور “مورفي”، بإشارة إلى فحوى الأمر، بأنّ الرئيس سعيِّد قد تراجع عن وعوده التي قطعها سابقاً حول إعادة المسار الديمقراطي. كما لم يشمل برنامج زيارة قائد الأفريكوم “ستيفن تاونسند” في 28 سبتمبر إلى تونس لقاء رئيس الجمهوريّة وفْق ما جَرَتْ عليه العادة، بل اقتصر على لقاء خاطف بوفد عسكري رفيع المستوى. يضاف إلى هذه المؤشّرات، بيان مستشار الأمن القومي الأميركي “جاك سوليفان” عقب لقائه الرئيس المصري “عبد الفتّاح السيسي” في 29 سبتمبر حول اتّفاق الطرفَيْن الأميركي والمصري على عودة الأطر الدستورية في تونس، وهو بيان بالغ الأهمّيّة، خصوصاً أنّه يصدر بالاتّفاق مع دولة إقليمية داعمة بشدّة لسياسات الرئيس التونسي. فيما لم يبدُ خطاب وزير الخارجيّة التونسي” عثمان الجرندي” في أشغال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في نيويورك حول عدم تخلّي تونس عن النظام الديمقراطي، كما الإجراءات الأخيرة لرئيس الجمهوريّة، ضامنة، أو في الحدّ الأدنى، مُقنعة لمنح الثقة الدولية للمسار السياسي الذي يعمل رئيس الجمهوريّة على تسطيره.

أمّا بالنسبة إلى الموقف الأوروبي، فإنّه يتّجه إلى اتّخاذ وجهة نظر أكثر انسجاماً بين أعضائه حيال الوضع في تونس، بعد فترة من الارتباك. وقد عبّر عن هذا الموقف تحديداً ممثّل السياسة الخارجية في الاتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل ببيان ضمّنه حرصه على عودة البرلمان وهو نفس الخطاب الذي تبنّته المستشارة الألمانية “أنغيلا ميركل” في اتّصالها برئيس الجمهوريّة قيس سعيِّد يوم 29 سبتمبر بتأكيدها على ضرورة العودة إلى الديمقراطيّة البرلمانية عبر حوار مع جميع الفاعلين السياسيين.

وليس تحدّي الدبلوماسية الاقتصادية بمعزل كذلك عن تفاعلات الديبلوماسيّة السياسية. فالمفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي تُراوح مكانها مع ازدياد وطأة الضغوط على الميزانيّة. فقد شكّل الاستقرار السياسي الشرط الرئيسي الذي وضعه صندوق النقد الدولي لاستمرار المفاوضات بشأن برنامج التمويل المقدَّرة قيمته بـ 4 مليارات دولار. كما قد يُسبّب تخفيض التصنيف الائتماني لتونس من وكالتَيْ “ستاندارد آند بورز” و”فيتش رايتينغ” ضبابيّة في أفق المفاوضات مع المؤسّسات الدولية.

كما كانت مسألة إعادة فتح الحدود مع ليبيا من أهمّ التحدّيات التي واجهتْ الدبلوماسيّة الوطنية. فالهاجس الصحّي ليس وحده السبب، وإن استُخدِم مبرّراً لتأخير عمليّة الحلّ. فبين خطاب رئيس الحكومة الليبي المتشنّج والمتّهِم للتونسيّين بشكل ضمني بتصدير الإرهاب يوم 27 أوت المنقضي ومراسلة وزارة الداخلية التونسية لنظيرتها الليبية حول وجود تهديد إرهابي لتونس انطلاقاً من ليبيا، تسود حالة من العطالة التحرّك الدبلوماسي التونسي في ليبيا وخصوصاً على مستوى الدبلوماسيّة الاقتصادية بالمقارنة مع الطرف المصري الذي حرص خلال الفترة الماضية على توقيع 14 مذكّرة تفاهم مع الحكومة الليبية في المجالات الاستثمارية بالإضافة إلى 6 عقود تنفيذية بمليارات الدولارات مع ضمان فرص شغل لأكثر من مليون مصري.

لا يقتصرُ القصور الدبلوماسي التونسي على هذه النقطة فقط، فالموقف التونسي من مسألة التفاوض حول سدّ النهضة أثار انتقادات عنيفة من الجانب الأثيوبي. إذ أكّد بيان الخارجية الأثيوبية أنّ “تونس ارتكبتْ خطأً تاريخياً بدفعها نحو طلب موقف من مجلس الأمن” مضيفاً “أنّ زلّة تونس التاريخية في تقديم بيان المجلس تقوّض مسؤوليّتها الرسمية كعضو مناوب في مجلس الأمن الدولي على مقعد أفريقي”. كان ردّ الخارجية التونسية حيال ذلك نوعاً من الاستغراب. لكنّ هذا الأمر لا ينفي نوعاً من التخلّي لدى الطرف التونسي عن سمة الحذر التي ميّزته تقليدياً حيال عدد مهمّ من هذه القضايا ضمن الإطار الأفريقي.

يبقى أحد التحدّيات المهمّة للدبلوماسية التونسية في قادم الأيّام إيجاد تبريرات مقنعة أمام الرأي العامّ الدولي لسياسات رئاسة الجمهوريّة التي خرجتْ بحُكم الواقع من الإطار الدستوري المتعارف عليه. فأثْناء اجتماع الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة السنوي في نيويورك، أشار الأمين العامّ للأمم المتّحدة “أنطونيو غوتيريش” إلى تواتر عمليّات الاستيلاء على السلطة بشكل مخيف عالمياً خلال الفترة الأخيرة. ولا نعلمُ فعلاً إن كان “غوتيريش” يضعُ الحدث التونسي ضمن هذه الحزمة من العمليّات. ولكن ما زال شقّ هامّ من الأطراف الدولية المؤثّرة في حالة من “انعدام اليقين” حول تواصل التجربة الديمقراطية في تونس أو انحرافها نحو شكل آخر هلامي أو غير تقليدي من الأنظمة السياسية.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، سلطات إدارية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني