الانتخابات المحلية في تونس: “بناء قاعدي” بلا قاعدة


2023-12-26    |   

الانتخابات المحلية في تونس: “بناء قاعدي” بلا قاعدة

وصل “مسار 25 جويلية” بالانتخابات المحلية ليوم 24 ديسمبر 2023 إلى آخر عناوينه الكبرى المتعلقة بتركيز النظام السياسي الجديد. ففي إثرها، سيتمّ تركيز المجالس المحليّة والجهويّة ومجالس الأقاليم تمهيدا لتركيز المجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم، ثاني غرف الوظيفة التشريعية. لكن العملية الانتخابية لم تخلق أيّ دينامية مجتمعية محلية في العمادات، فكانت نتائج التصويت ضعيفة كسابقتها في الانتخابات التشريعية، وتجاوزت بالكاد 11%. لم تستجبْ هذه المرحلة الأخيرة من المسار للآمال التي علّقتها عليها السلطة، وخاصة لجهة تصورها عن طبيعة التغيير من الأسفل الموسوم لديها بالقاعديّ. فلم تُعبّر عن وجود تغيير عميق وجذري في المجتمع في العلاقة بالسياسة والحكم، لتبقى فقط السياسة السلطوية التي تبرز في المحلي الناشئ كما في المركز.

غياب دينامية محلية

لم تتجاوز نسبة التصويت في الانتخابات المحلية 11.66% من مجمل عدد المسجلين الذين تجاوز عددهم 9 ملايين ناخب. عدد الناخبين حسب أرقام الهيئة كان أكثر بقليل من مليون ناخب، بما يتجاوز بالكاد نتيجة الدور الأول من تشريعيّات سعيّد العام الماضي، ويعادل تقريبا نصف عدد الأصوات في الانتخابات البلديّة لسنة 2018، التي كانت الانتخابات الأضعف مشاركة طيلة سنوات الانتقال الديمقراطي.

لكنّ الهيئة أرجعت كالعادة النسبة الضعيفة إلى ارتفاع عدد الناخبين المسجّلين جراء خيار التسجيل الآلي، الذي أضاف حوالي مليوني شاب وشابة ممن بلغ سن 18 سنة. كما أنه يفسّر أيضا، كما أشار بعض أعضاء الهيئة، برفض المواطن التونسي للسياسة وتركيزه مؤخرا على القضية الفلسطينية والحرب في غزة.[1] إلاّ أن ذلك غير دقيق بالمرّة. رغم أن للسياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تأثير مهم على السلوك الانتخابي، لكن يجب الإشارة إلى هشاشة التصوّرات الانتخابية والسياسية التي حرص النظام منذ 25 جويلية 2021 على الدفاع عنها، في خطاب شرعنة تتجاوز المعوقات والسياقات المرحليّة. وكان محور هذه الانتخابات الدعاية إلى شأن محلي- قاعدي ينتظر الأدوات القانونية لبلورته. وهو ما اتضح ضعفه بالنظر إلى أنّ الدفع به من قبل السلطة كان ضمن تصور عن تغيير عميق وجذري يصل بروافده إلى الثورة ويقفز على مرحلة الإنتقال الديمقراطي.

في المقابل، غابت عن الانتخابات المحلية ليوم 24 ديسمبر 2023 أية دينامية “محلية” تُثبت فكرتها وفلسفتها كانتخابات تُساهم في بلورة الخيارات الوطنية انطلاقا من المحلي. فلو التزمنا بالخطاب السياسي والخطاب المناصر لها، لكان من المفترض أن تتحول المحليات إلى خلايا نقاش وتنافس سياسي بمقتضى أنّ الأهالي يعرفون ما يريدون، وهم الأقدر والأصلح لتحديد من يمثلهم حسب الحاجات والمطالب المحلية. غير أن الملاحظ هو غياب أية فعاليات وتظاهرات محلية لاستقطاب المواطنين وحشدهم حول مرشحين معينين. فباستثناء الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي أو المطبوعات الخاصة بالمرشحين، ومساحات تعليق البرامج الانتخابية شبه الفارغة، لا يوجد وسائل أو فضاءات تواصل مختلفة وجديدة مع المواطنين. يشير بعض المرشحين، إلى أنّ خيارهم كان التواصل المباشر مع المواطنين.[2] غير أنّ هذا النوع من التواصل الأفقي، غير المهيكل والمنظم، فيما عدا أطره القانونية، لا يتجاوز امتداده الأثر الحيني لشخص المترشح على من أمامه. فيما لا يمكن أن يتحول ذلك إلى تأثير واسع في أوساط المواطنين. بما يشير إلى أنّ العملية الانتخابية المحلية لم تخلق شبكة علاقات وفضاءات تسمح بتنشيطها وحشد المواطنين حولها. فبينما كانت الأحزاب تلعب، ضمن حملات انتخابية مهيكلة ومنظمة قانونيا وتنظيميا، على خلق التأثير والحشد والمناصرة، لم يلعب الطابع الفردي للترشح (نتيجة نظام الاقتراع المعتمد) دورا في تشكيل بديل من الانخراط المواطنيّ، سواء في مقبولية العملية لدى المواطن أو في إقبال أو خلق فاعل جديد انطلاقا من المحلي. وهو ما يبدو جليا، في النقطة الأخيرة على وجه الخصوص، حيث غابت التعددية والتنافسية بالنظر إلى أن 10% من الدوائر بمرشح وحيد، فانتفتْ الحاجة أصلا للحملة الانتخابية. فالمترشّحون ينشطون في مساحة خالية في حدها الأدنى من فعالية مجتمعية وفي امتدادها من أي تنظّم يسمح بدعم نشاطهم، كما هو المفترض في الفضاءات الوسيطة. وعليه، تبقى الأطر القانونية والمؤسسية هي المحدد الرئيسي. فهي كما حددت شروط العملية الانتخابية وضوابطها، منعت التمويل العمومي عن المترشحين الذين بنجاحهم سيجدون أنفسهم في مؤسسات رسمية محدودة بل ومجهولة الوظائف والمهام. فكأن الأدوات القانونية، التي يعد بها مشروع البناء القاعدي، هي بصدد قتل السياسةالقديمةكما تراها فيما لا تنجح في خلق أخرى بديلة. وهو معطى يحتاج لمزيد التدبر بالنظر إلى أنه يؤشر إلى طبيعة العمل المحلي ورهاناته بالنسبة للجماعات المحلية، خاصة أنه يلاحظ ميل المترشحين إلى التركيز على طرح برامج متنوعة من دون التطرق لأي بعد سياسي أو أيديولوجي فيما عدا الانخراط في مسار 25 جويلية.

يذكر هنا أنه غابت عن الانتخابات المحلية حملات التعبير المباشر في الإعلام، وهو ما يُفهم مبدئيا انطلاقا من تصور العمل والشأن المحليين. فالعمليّة الانتخابية مبنية على العلاقة الشخصية والانتماء الفردي للمنطقة المعنية، ولا تحتاج للوسيط الإعلامي. فكأنّ المفترض في التصور الانتخابي للشأن المحلي هو وجوده بشكل طبيعي، ويُنتظر منه أن يبرز آليا في المرحلة الانتخابية عبر فعالية مجتمعية تفرز ناخبا ومترشحا من نفس الوسط، إلاّ أنّ الواقع أكّد غياب هذه الدينامية المفترضة على أنها “طبيعية” و “نابعة من الأهالي”، والتي لم تستنفرها جهود الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تحيين القوائم الانتخابية عبر استراتيجية استهدفت موظفين وأعوانا بالمؤسسات العمومية، المناطق الصناعية، المبيتات الجامعية والجامعات والفضاءات العمومية، وعملة الحضائر والبناءات وخاصة المشاريع الكبرى وأصحاب المهن الحرة في قطاعات الصحة، القانون، المالية، التجارة بالإضافة إلى النساء الريفيات[3]، وذلك بهدف تحيين التسجيل حسب الانتماء الترابي. وهو معطى مهمّ يُفترض في نجاحه أن يمهد لخلق أرضية لشأن محلي يفرض نفسه عبر الرهان الانتخابي على الناخب والمترشح. إذ المفترض أن الرابطة المناطقية-الترابية يجب أن يتم استيعابها في الرابطة المحلية الجديدة. لكن يبدو أنّ الأثر محدود من حيث غياب الشأن المحلي عن الهموم اليومية للمواطنين خلال فترة الحملات الانتخابية.

أعادت النتائج الضعيفة لجميع مراحل 25 جويلية الخطاب السياسي، خصوصا من المؤسسات الرسمية ومنها الهيئة العليا للانتخابات، إلى البحث عن تفسيرات مباشرة للسلوك الانتخابي. وهنا، بخصوص الشأن المحلي، سردت جملة من المتغيرات تبدأ برفض السياسة إلى الاهتمام بغزة، لكن في ثناياه نجد صدى الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية. فلم تغب عن تصريحات أعضاء الهيئة وبعض الناشطين الإعلاميين تحميل المسؤولية للمواطن المُطالب دائما بالانخراط. ما يجعلنا مرّة أخرى في أفق تصور عن بلورة سياسة جديدة، تدعي الانطلاق من المواطن، لكن إذا ما فشلت فإنها تحمله المسؤولية. أما السياسة الفعلية فتُعيدنا لسياسة السلطة القائمة.

الشأن المحلي التابع: السياسة سلطوية في نهاية الأمر

قدّمت العملية الانتخابية القائمة مؤشرات على طبيعة العمل السياسي المحلي. فأطره القانونية ترتبط فقط بتصور مثالي عن “انبعاث” شأن محلي لا يحتاج إلى وسائط إعلامية أو تنظيمية أو أيديولوجية بقدر ما يُنتظر منه التبلور من ذاته ضمن مسار التصعيد المتوقع. وهو تمثّل للسياسة قاطعته الأحزاب المعارضة بشكل صارم من حيث المبدأ برفضها للمسار ككل. في هذا الطرف تتموقع جلّ الأحزاب فيما عدا أحزاب ما يسمى بـ”المساندة النقدية”، أو مساندة العاجز للأصم. فلا رأيها أو وزنها في الحقيقة مما يُعتدّ به لدى سلطة 25 جويلية التي تعتبر جميع الأجسام الوسيطة في وارد الزوال التدريجي على المدى البعيد.

على المدى القريب يتصدّر الخطاب الرسمي فكرة رئيسية تبريرية. وهي أن العملية الانتخابية تتمتع بضمانات قانونية تمنع المتاجرة بأصوات الناخبين تمهيدا للديمقراطية المحلية. إلاّ أنّ هذه الفكرة لا تنفصل عما سبق من الإشارة إلى التصور العامّ للشأن المحلي وأطره القانونية والانتخابية. فمهما كانت الأرقام والإحصائيات في الانتخابات، لا يمكنها أن تقف أمام جوهر المشروع القاعدي الذي يستمد شرعيته من ادّعاء التمثيلية المطلقة للشعب كمُنطلق وكغاية مهما كانت السياقات والمعوقات. فضعف المشاركة والإقبال في الانتخابات التشريعية لم يكن محددا في شرعيتها، بل هيمنت قراءة شعبوية تُعلي من المؤسساتي الذي يعد بجوهر الشعب وطنيا على حساب الإجرائي. كذلك شأن الانتخابات المحلية، التي لا يُنتظر أن تُلقي السلطة القائمة بالا لضعف المشاركة أو لضعف الإهتمام في أوساط المواطنين بها. فلأنها انطلقت كمرحلة تركيز نظام سياسي بتصورات وأهداف بعيدة متضخمة شعبويا، فما هو مرحلي، مهما كانت طبيعته، لا يؤثر في صدقيّة وصحّة مشروع يحمل خلاصا للإنسانية جمعاء.

تعمل السلطة فعليا على وضع أطر وهياكل وإجراءات هي الديمقراطية كلها، أما علاقتها المتوترة والضعيفة بمحيطها المجتمعي فلا تعدو أن تكون إلا متغيرات مرحلية ستتغير. وما يدفعنا إلى تبني هذه القراءة هي عملية التصعيد من الشأن المحلي إلى المستوى الوطني. فهي محكومة بالقرعة والتداول على المناصب، أو بعبارة أخرى بالصدفة والحظ الذين يلعبان دور الحاجز أمام “تدنيس” بلورة جوهر المحلي بفساد القديم. من هنا يمكن ملاحظة أنّ إعلان الهيئة عن النتائج الأولية شبه الرسمية قفز فوق ضعف النتائج نحو التأكيد على أن مسار تركيز بقية المؤسسات متواصل وسيتم في الآجال المحددة قانونا. وهو فعليا الهدف السياسي لمسار 25 جويلية.

من هنا لا تهتمّ السلطة القائمة اليوم بالمعارضة السياسية والمقاطعة أو العزوف الواسع لصالح قراءة سياسية مرحلية سعت إلى تصفية الخصوم تدريجيا قبل المواعيد الإنتخابية. فاليوم يوجد أكثر من عشرين شخصية سياسية وإعلامية في السجون بحيث لم تُستثنَ أية عائلة سياسية. ينضاف ذلك إلى التصفية القانونية والانتخابية عبر هندسة العملية الانتخابية بشكل يمنعها جميعا من لعب أية دور وازن سياسيا في أفق “زوالها” تماما حسب تصور النظام السياسي القاعدي.

الرعاية الرسمية السلطوية لكلّ المراحل ملازمة لهذا المنطق. فكما ترعى الهيئة العليا “المستقلة” للانتخابات شأنا محليا يولد انتخابيا بعسر شديد بعيدا عن أية تنظُّم أو وسائط، يرعى المركز مخرجات كل العمل المؤسساتي والإجرائي. فيصبح تعبيرته السياسية الوحيدة. وهو ما يعتبر انتكاسة حقيقية للشأن المحلي بعد أن اكتسب طابعا سياسيا حوله إلى سلطة محلية ضمن الدولة الموحدة خلال فترة الانتقال الديمقراطي. ليبقى خيار من ينخرط فيه اليوم هو أن يكون شعبويّا محليا حتى يتماشى مع طابع السلطة المركزية. ويشي بهذا المعطى برامج المرشحين التي تعد بما لا تعرف أنها قادرة فعلا على تحقيقه، في ظل غياب أيّ إطار قانوني يوضح صلاحيات المجالس المحلية القادمة.

لا يعدنا الشأن المحلي القادم بأية سياسة حقيقية، خارج التمثُّل الشعبوي للسلطة لها. فلا توجد ممكنات سياسة بديلة حقيقية أو سياسة معارضة تنبع محليا خصوصًا وأنّ أول روافدها قد تمّ العمل على ضربه منذ انطلق “مسار 25 جويلية”. فلا يمكننا الحديث عن مجتمع مدني محلي، سواء السياسي أو الجمعياتي، إزاء تصورأهليللكتلة البشرية الترابية التي تُسيّس في مسار تصعيد أقرب لعملية تنقية وتصفية هيكلية وإجرائية تضرب قيمة الناشط السياسي والمدني. فالجميع مُجبر، ضمن التصور الطوباوي للسلطة اليوم، على أن يكون شعبويا بالقوة، حتى يمكنه الفعل محليا أو وطنيا.


[1] الندوة الصحفية للهيئة العليا للإنتخابات. 24/12/2023. الرابط التالي:

[2] تونس 2/ انتخابات: المترشح بلال بلقاسمي عن دائرة الياسمينة يتعهد بالعمل على إيجاد حلول للمشاكل التنموية بمنطقته، وكالة تونس افريقيا لللأنباء، 19/12/2023. الرابط التالي: https://bit.ly/48vcTJb

[3] أهم مخرجات رزنامة انتخابات المجالس المحلية، الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات. الرابط التالي: https://bit.ly/472FKDq

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني