انتخابات المجالس المحليّة في تونس: لماذا أصبحَت اللاّحَدَث؟


2023-12-23    |   

انتخابات المجالس المحليّة في تونس: لماذا أصبحَت اللاّحَدَث؟

تنعقد غدا الأحد 24 ديسمبر 2023 انتخابات المجالس المحلّية في تونس، التي من المُفتَرض أنّها تُعتَبَر العمليّة التّمهيدية لانتخاب المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة النيابية الثانية). تُشكّل هذه الانتخابات حَلقَة أخرى ضمن “التأسيس” السياسي الجديد الذي يُبشّر به الرئيس قيس سعيّد، والذي ينضوي تحت مشروع عامّ يُطلِق عليه الرئيس وأنصاره مشروع البناء القاعدي.

تُشير المُعَاينة الأولَى لهذه الانتخابات إلى أنَّها مسار غَير مرئي، ولم تتحوّل إلى حدث سياسي وطني يستحقّ الاهتمام الجَمعِي. لذلك بالإمكان وصفها كحالة من “السكون الانتخابي” المُمتدّ، الذي يُعطي انطباعا أوليا بانعدام مظاهر الحياة السياسية في البلد، رغم الثقل الكبير الذي تُلقي به المآزق السياسية والاقتصادية والاجتماعية على حَياة النّاس. ربّما ساهَمَ العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في تحويل جزء لا بأس به من الاهتمام العامّ نحو ما يَجري في قطاع غزة، ولكن هذا العامل الظرفي لا يُمكن أن يُعزَى إليه هذا الحياد الانتخابي الحاصل، لأن الدّعوة إلى انتخابات المجالس المحليّة وبقية المجالس المنبثقة عنها شكّلَت طيلة الأشهر الفارطة جزءًا من الدّعاية الرئاسية التي تعِد بحَلّ مآزق التنمية وتوزيع الموارد بعد إرساء هذه المجالس الجديدة.

لذلك يبدو أنه من الأنسب البَحث عن دلالة هذا “اللاّحَدث” الانتخابي داخل الممارسة السياسية للنظام الحالي، وداخل هذه البِنية الانتخابية الجديدة التي اختارها الرئيس بمفرده ووضعَها قيدَ التجريب منذ 25 جويلية 2021، ويبدو أنه غير مُستعدّ -إلى حدّ الآن- لفهم تناقضاتها ومُنزلقاتها، رغم أن الانتخابات التشريعية الفارطة -التي جرت في ظروف طبيعية في 17 ديسمبر 2022- أعطت إشارات جدية حول هشاشة التصورات الانتخابية والسياسية الجديدة وكشفت عن حدودها “المِثالية”، ولكنّ الرئيس تحصَّنَ بالإنكار وألقَى بالفشل الانتخابي على “العَشرية” السّابقة.

انتخابَات مَحليّة من دون “ديناميات محلّية”

يُدافِع هذا التصور الانتخابي والسياسي الجديد عن جَدواه من داخل شعار سياسي مُتداول لدى الرئيس وأنصاره، يدعو إلى تجاوز قُصور الديمقراطية البرلمانية و”فسادها النخبوي”، نحو خَلق أدوات جديدة تسمح بتمثيل أوسع للقاعدة الاجتماعية المُتواجدة في أطراف المركز (بالخصوص القُرى والمدن الداخلية، والأحياء الشعبية…) ولكنّ هذه الفئات الاجتماعية المُغيّبة لا تَنخرط في الشأن العام بوصفها فعاليات مدنية وحِزبية ومواطنية، أو بوصفها أيضا حركات اجتماعية، وإنما باعتبارها كتلة من “المطالب المحلية” التي تستحق فقط التأليف بينها ضمن المجلس الوطني للجهات والأقاليم، لتُصبح “مطالب مركزية” مُشتركة.

هذا الطّراز من التّمثِيل المنزُوعة عنه فعاليته السياسية والمواطنية -والمحصور في الجانب المَطلبي- يُمكِن اعتباره مدخلاً لفهم ضُعف التداول العام حول الانتخابات المحلية، سواء داخل القرى والمدن الصغيرة أو في المراكز الحضرية الكُبرى. من خلال المُعاينة الأولية العامة لتركيبَة العديد من المترشحين ولغتهم الانتخابية ورهاناتهم، يمكن أن نلاحظ انعدام الرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الوطنية في مقترحاتهم -بعض المقترحات الاجتماعية تأخذ شكلا شعاراتيا- وهم في الأغلب “ذوات انتخابية” لا تُسنِدُهم أي ديناميات سياسية ومواطنية أو حَرَاكية-اجتماعية، أو حتّى مطالب محلية كبرى، وإنما يُراهن معظمهم على التضامن العائلي والمَناطقي. وحتّى معظم الأحزاب السياسية المساندة للرئيس سعيد دخلت في حالة من “الانسحاب الانتخابي” دون إعلان موقف واضح يُفهم منه المقاطعة أو المشاركة. لذلك يمكن أن نقول أنّنا إزاء كتلة من المترشحين الانتخابيين، الذين لا يُمكن اعتبارهم فاعلين محليين -على الأقل مُعظمهم- وإنما هم نِتَاج براديغم انتخابي فوقي فرَضَه الرئيس سعيّد على المجتمع والنّخب بشكل غير ديمقراطي. وهنا تَكمن خطورة الانزلاق التّدريجي نحو ذَبح الحياة السياسية من الأسفل، و”تتفيه” الفكرة الانتخابية باسم براديغم ديمقراطي تجاوُزي، انكشفت إلى حدّ الآن عطّالته السياسية والمعيارية، واتّضَحَ أنه مدخلٌ لمَركزَة الحياة السياسية في شخص الرئيس من بوّابَة الشعارات القاعدية.

الرّئيس هو الحَدَث الأكبر

منذ استيلائه على كلّ السلطات في 25 جويلية 2021، سيطَر الرئيس سعيّد على المشهَدية السياسية في البلاد، وأفلح إلى حدّ مَا في الاستحواذ على جزء لا بأس بهِ من الحدث العامّ، واستيعاب جلّ القضايا المصيرية في الاقتصاد والمجتمع داخل خطابه، الذي تُهيكِله لُغة اختزالية لا تطرَح وقائع سياسية بقدر ما تَعِد بمعارِك مفتوحة ضد الجميع. ويَملك هذا الأسلوب الخَطَابي فَعَالية، لأنه يُعيد إنتاج لغة مُتدَاولة في مواقع التواصل الاجتماعي، ويُميّزها التّحريض وضُعف المضمون السياسي. يمكن القول أنّنا إزاء “شُو” رئاسي مستمرّ، جعَل من الرئيس سعيّد جوهر العملية السياسية، وأحَال بقية المؤسسات والفاعلين إلى مجرد عناصر ثانوية وغير مرئية على خشبة المسرح. وبعضهم تم إنزَاله من علَى الخشبة عُنوة إما بالسجن أو بالملاحقات القضائية. هذا الاستحواذ الإعلامي والسياسي أفرزَ نوعا من التطبيع الجَمعي مع المنطق الذي يقول بأن الرئيس هو الوحيد القادر على حلّ كلّ المآزق، أو هو المسؤول الوحيد على إيجاد حلول لمشاكل البلاد.

أمام هذا المنطق الشّخصَاني، انهارتْ القيمة الإلزامية والاعتبارية لبقية المؤسسات السياسية والتمثيلية وكل الفاعلين السياسيين تقريبا، بما فيهم الأنصار والمؤيدين. وقد حرِصَ الرئيس سعيد في دستوره ومراسيمه على إفراغ بقية مؤسسات النظام السياسي الجديد من صلاحياتها التقريرية والرقابية، وخاصة المجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي ستأتي به الانتخابات المحلية الحاليّة. ولعلّ البرلمان الحالي يُشكّل مَلمحًا عن مستقبل المؤسسات التمثيلية في البلاد؛ مؤسسات لا تملك استقلاليتها عن السلطة التنفيذية وغير قادرة على اتخاذ القرارات الملزمة. ولعلّ مشروع قانون تجريم التطبيع الذي تمّ تعليق النقاش حوله في الجلسة البرلمانية العامة، بأمر من رئيس الجمهورية، يُعدّ نموذجا للمصير الدراماتيكي الذي ستلقاه هذه المؤسسات.

ستتحول هذه المؤسسات، شيئا فشيئا، إلى واجهة خارجية تُوحي بالحفاظ على فكرة التمثيل السياسي الديمقراطي في البلاد. ويبدو تركيزها ضروريا لتثبيت الحكم الفردي، لأنها -بصيغتها الحالية- تهدِم المكتسبات القليلة السابقة وتُزوّد الرئيس بشرعية التجديد و”إعادة اختراع” الديمقراطية. كما أن هذه المؤسّسات ستضطلع بدور المُذنِب الجاهز، الذي سيُحمّله الرئيس سعيد في المستقبل مسؤولية الفشل الاقتصادي والاجتماعي. وستصبح بذلك أداة للتلاّعب بالرأي العام في زمن الأزمات.

انتخابات مَقطُوعَة الصلة بالوقَائع الاقتصادية والاجتماعية

تَنعَقد الانتخابات المحلية في سياق تَشهد فيه البلاد إعادة إنتاج للمآزق الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية السابقة، التي يُلحّ الخطاب السياسي المُهيمن على أنها إرث “العشرية السوداء”، من دون أن يعطي أي بديل أو أفق لتَجاوزها. وانتخابات المجالس المحلية نفسها يجري الترويج لها بوصفِها إجابة سياسيّة على التفاوت الجهوي والاجتماعي، وعملية سياسية يُراد من خلالها تشريك قدر أكبر من السكّان في النفاذ إلى القرارات والمَوارد. ولكن في الحقيقة تتّخذ السياسات والمُقترحات الاقتصادية والاجتماعية وِجهة مغايرة، سواء على الصعيد المركزي أو داخل الخطابات الانتخابية “المحلّوية”.

يُعَاب على المرحلة السابقة لـ25 جويلية أنّها فشلَت في معركة التغيير الاقتصادي والاجتماعي -وهي حقيقة تُثبتها الوقائع والحصيلة- ولكن الحقبة الجديدة تُؤسّس لمنطق أكثر تطرّفًا وخطورة من الفشل، وهو الإنكَار المزمن للظاهرة الاقتصادية والتعاطي معها عبر “نظرية المؤامرة” أو “الحرب الدونكيشوتية” على الفساد. وهي نماذج للتحليل والممارسة السياسية لا يُمكنها بأي حال من الأحوال خلق أفق تغييري، وإنما تحوّلَت إلى مكوّنات إيديولوجية ضمن خطاب سلطويّ يسعى إلى تبرير “الأمية الاقتصادية” وإخفاء عجزه عن مواجهة حالة الانحطاط الاقتصادي.          

إن الأفق المعرفي والسياسي للرئيس سعيد والحشود المحيطة به، تُسيّجُه الفكرة القائلة بأن كل المآزق مرتبطة بطبيعة النظام السياسي السابق لـ25 جويلية (الذي يُنظر إليه كمعيارية نصيّة وليس كممارسة سياسية). وللأزمَة أيضا وجه أخلاقي يَظهر من خلال فساد النّخب السابقة و”لاوطنيتها”، لذلك تتكرّر مفردات من قبيل “النزاهة” و”نظافة اليد”. من داخل وجهة النظر هذِه، تُعتبر الانتخابات المحلية حلا سحريّا لتغيير النظام السياسي، وبالتالي الخروج من الأزمة، من دون النظر إلى القيمة الاقتصادية والاجتماعية لهذه العملية. لأن هناك سؤال مَخفي ولا يجري طرحه داخل أوساط الحكم الحالي؛ هل أن التّمثيل المحلّي الجديد بإمكانه حلّ مشاكل البطالة والفقر والركود والتفاوت في ظل استمرار المنوال الاقتصادي القديم؟ وعموما تُشير الإجراءات المالية والاقتصادية المتّبعة مؤخرا أن الرئيس سعيد ومحيطه، يتحرّكون من داخل البنية الاقتصادية والاجتماعية القديمة، ولا يقدّمون برامج أو حتى إشارات مستقبلية لوضع الاقتصاد أمام وجهة أكثر عدالة، وإنما تُهيمن لغة التنازع مع أشباح الماضي على سلوكهم وخطابهم، وفي الأثناء يزوّدون البنية القديمة المتآكلة بكل مقومات الاستمرار، في ظل فراغ الرؤية والتغيير.               

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد رقم 28
للاطّلاع على العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني