الإعلام اللبناني في زمن الإبادة الجماعيّة: “لا صوت يعلو على صوت المعركة” من الجانبيْن


2024-04-16    |   

الإعلام اللبناني في زمن الإبادة الجماعيّة: “لا صوت يعلو على صوت المعركة” من الجانبيْن
رسم رائد شرف

في ساحة مهنية صور الرسمية حيث تلجأ عشرات العائلات النازحة من قرى الحدود، تجلس زينب، 25 عامًا، تلتقط إشارة الوايفاي من مكتب قريب لتتابع الأخبار من خلال منصّة إنستغرام، أو كما تسمّيها هي “الآراء والأهواء”، لأنّ “المحتوى الخبري في الإعلام اللبناني هنا بات كلّه آراء بآراء، ولا نجد خبرًا موضوعيًا بل توجيهًا سياسيًا في كلّ كلمة وتصريح ومع كلّ غارة وصاروخ”. صديقتها نور تخبرنا أنّها ألغتْ بالفعل متابعة عشرات المنصّات “لأنّ المحتوى عنيف على نفسيّتي، تصفية حسابات لا نقل أخبار ومعلومات، والدليل أننا نحن النازحون، أوّل المتأثرين بالقضية، نغيب عن صفحاتهم بهمومنا وشجونِنا”. تشير الصديقتان إلى منصّات أخرى ترتاحان لمتابعة تغطيتها رغم الخلاف السياسي، لكنّ النفور من الإعلام اللبناني هو الأغلب. والجيل الأكبر سنًّا هنا، امتنع عن التصريح للإعلام: “لأنّه في الكثير من الحالات يُجتزأ كلامنا، أو يغيّر سياقه، حسب الهوية السياسية لكلّ وسيلة إعلامية”، تقول أم علي داغر. 

وفي منزل أسرة نصر الدين على الطيونة، تجتمع العائلة على نشرة الأخبار بعد أن أتمّت إفطارها. تقول آية، 50 عامًا، إنّ نشرة الأخبار “باب مشاكل” لا غنى عنه هنا، الأهل المؤيّدون لحزب الله يريدون مشاهدة نشرة أخبار “المنار”: “لأنّها بتمثلنا”، بينما يريد أحمد، 30 عامًا، مشاهدة نشرة أخبار قناة إقليمية: “لأنّها أقل تسييسًا للمعلومات”. الجدال عينه يتكرّر في منزل أسرة طراد في منطقة عين الرمانة، لكن بدل “المنار” تحضر MTV. تقول إليسا، 20 عامًا، لأهلها: “الأخبار هنا مسيّسة، نصف ما يحصل في البلد لن تسمعوا به، أو قد تسمعون به من وجهة نظر سياسية خاصة وضيّقة”.

ويبدو الحديث عن معايير أخلاقيّة للمهنة متفائلًا في لبنان، وسؤال الأخلاقيات يبدو مزحة سمجة. وهذا ما شعرناه في عشرات المقابلات التي أجريناها بحثًا عن إطار أخلاقي للمهنة. فقد عادت الأجوبة جميعها إلى المأزق الأصلي القديم. تشرذم النظام، وتشرذم المجتمع والاستقطاب السياسيّ والطائفي، الأمر الذي يخلق جسمًا صحافيًا مشرذمًا بمعايير وأخلاقيات مهنية مغيّبة، ليكرّس مقولة أنّ الإعلام مرآة المجتمع وأحيانًا السلطة. إجابة سوداوية، تختزن إجابات متضاربة على الكثير من الأسئلة. وبالتالي فإنّ وسائل الإعلام تتناول حرب الإبادة من تموضعات سياسية محدّدة مسبقًا، وتعكس بشكل كثيف التمترس السياسي الحادّ، فيما الأخلاقيات المهنية هي الغائب الأكبر، بل الضحية.

كيف نغطي حربًا من دون أن نقع في فخّ الدعاية؟

أغار الطيران الإسرائيلي، صوت انفجار، تصاعد دخان، وفجأة، يأتي نص الخبر العاجل على بعض الوسائل الإعلامية كالتالي: “الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل فلان الفلاني، في منصب كذا وكذا”، وتصاغ الرواية الصحافية عند بعض المؤسسات على أساس البيان الإسرائيلي. تأتي الرواية الإسرائيلية فتصبح مصدرًا أساسيًا للمعلومة من دون التنبّه إلى أنّها في الغالب مجرّد بروباغندا، وأنّها تريد أن تضع لنا نظارات معطوبة لنرى المعركة من خلالها. فالجيش الإسرائيلي الذي يشنّ الحرب، هو مصدر بروباغندا لا أخبار ولا معلومات صحافية، التعامل مع ما يقوله يجب أن يكون على هذا الأساس، ومن موقع التشكيك الدائم، هذه بديهيات الصحافة. أما نقل سرديّته من دون أي مسافة أو تشكيك، ومن دون تدقيق وتمحيص، قد يقع في فخ التسويق لهذه السردية.

أغار الطيران الإسرائيلي مجددًا، صوت انفجار، تصاعد دخان، والخبر عاجل من جديد: “الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير مركز عسكري”. في مكان الغارة، يتجمّع الناس، وينعي رجل تدمير ملكه، سحب جرحى من العمال، والهدف وأهله مدنيون، والرواية على الأرض تناقض تلك الإسرائيلية، لكنها للكثير من الإعلام “أقل أهمية”، فلا تُنقل بنفس الطريقة.

والإعلام حينما ينقل الخبر الأمني والعسكري من طرف واحد فهو انحاز بمعزل عن القصد، ومن طرفين فهو غطّى. وحينما يبحث ويتحقق فهو يمارس عملًا صحافيًا. وحينما يذهب إلى الناس ليغطّي قصصهم، يكون قد حقق مهمته بأن يكون صوتهم وأن ينقل قضيتهم، أما تجاهل الناس الواقعين تحت النار فهو بعيد عن جوهر المهنة.

ولا يعني ذلك عدم إدراج الرواية الرسمية الإسرائيلية بل التعامل معها على ما هي عليه: رواية الطرف الذي يرتكب الإبادة. وتحضر هنا حاجة إلى الإيغال في الاحتلال القائم هناك، لفهم سياقاته وتفكيك سرديّته.

دمار كبير في المناطق الحدودية بسبب القصف الإسرائيلي الذي اتسع ليشمل مناطق جديدة

بين السيّاسة التحريرية والدعاية السياسيّة

وما هي مصطلحاتنا وماذا نكتب وكيف؟ وما يرد في مقالات الرأي والتحليل لدينا؟ أمر يرتبط بشكل وثيق بالسيّاسة التحريرية التي يفترض أنّ كلّ مؤسسة تعتمدُها، سيّاسة للمؤسّسة الولاية عليها ويفترض أن يكون لصحافيّيها أيضًا الاشتراك في صياغتها. لكن المؤسسة مسؤولة أمام القرّاء عنها، تمامًا كما هي مسؤولة عن أن تكون واضحة فيها، وأن تكاشف الجمهور بها، بحسب الأستاذة والباحثة في علوم الإعلام والاتصال، نهوند القادري، التي تضيف أنّ مصدر الخبر والمعلومة، وكيف نعالج القصة لعدم الوقوع في فخّ الدعاية، هي معايير صحافية تقنية بحتة.

وتغيب السياسات التحريرية الواضحة لدى بعض المؤسسات، لتحلّ محلّها “توجيهات” الإدارة إلى الصحافيين، ما يفتح الباب أمام هذه الوسائل لتعدّل أو تغيّر من خطابها بحسب الحسابات السياسية المرحلية. في المقابل، فإنّ مؤسّسات عدّة نشرت بيانات واضحة مع اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة، تبيّن فيها موقفها، وهي بيانات تعتبر مؤهّلة لأنْ تدخل ضمن “كتيّب” السياسة التحريرية، وتوضح للعاملين والقرّاء والرأي العام، أين تقف هذه المؤسسة وكيف هو شكل التغطية التي يمكن توقّعها منها.

والموقف السياسي يمكن أن يأتي بعد التغطية، والفصل بين الخبر والتعليق هو أساس المهنية، تقول القادري، ويعني هذا أيضًا ألّا أخفّف تغطية أو أكثّفها بناء على موقف سياسي، بل أن أغطّي الخبر نسبة إلى حجمه وأهميته.

تشرح القادري أنّ السياسات التحريرية لا يمكن فصلها في كثير من الأحيان عن المصالح الاقتصادية، مشيرة إلى أنّ التحالف التاريخي بين سلطات المال والأعمال والسياسة والإعلام يقيّد الصحافيّين ويبعدهم عن صياغة السياسة التحريرية، ويحوّلهم في العديد الحالات إلى أكباش محرقة، فتعرّض ويتعرّض العديد منهم إلى أساليب العنف الجسدي والرمزي والطرد والإبعاد. وبالتالي بقيت المعايير الصحافية المثالية التقنية التي تنادي بالفصل بين الخبر والتعليق مثلًا حبرًا على ورق، واتسمت السياسات التحريرية بالغموض والمواربة والخضوع لاقتصاد السوق، ما فتح الباب أمام الوسائل الإعلامية لتعدّل وتغيّر من خطابها تبعًا للحسابات السياسية في كلّ مرحلة. وغدت الانتقائيّة تتحكّم في مسار العملية الإعلامية بأكملها: بدءًا من التركيز على حدث معيّن دون غيره أو بانتقاء العناصر الإخباريّة، وانتهاءً بالتوليفة الخبرية المتكاملة (انتقاء المفردات، التلاعب بالسياقات، فنون الإخراج المضلّلة..) والتي تصبّ في النهاية في خدمة أهداف محدّدة، ما يعني أنّ الخبر حتى في أعتى  البلدان الديمقراطية غدا سلعة خاضعة للعرض والطلب.

في هذا السياق تغدو التساؤلات مشروعة: ماذا أكبر من جرائم حرب تستهدف المدنيين كي نفرد تغطيتنا لها، وكيف نضمن كصحافيّين أن لا تقطع الطريق علينا في ممارسة عملنا الصحافي بمهنية؟ سؤال يجب أن يحضر في كلّ اجتماع تحرير، ويتوجّب على الجمهور مساءلة المؤسّسات على أساسه.

حرب أم إبادة؟ من المجرم ومن هم الضحايا؟

“حرب إسرائيل وحماس” عنوان يتكرر حرفيًا أو بمسمّيات أخرى للإشارة إلى حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على غزة، ثم يقدّم محتوى يساوي الأطراف ببعضها. ربما “حرب المجانين”، وهو التقرير الذي قدمته المؤسسة اللبنانية للإرسال، يشكل مثالًا نافرًا على ذلك، لكنّه يصبّ في خطاب إعلامي منتشر. هي سردية تساوي بين أطراف الحرب – ربّما باسم الموضوعيّة والحياد – لتقول إنّ الكلّ سيّئ ولا مجال لموقف سياسيّ وأخلاقي هنا. لكن الباحث وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت جميل معوّض يقول إنّها تعبّر بالحقيقة عن “موقف كسول ومريح، مريح إذ يقدّم مسلكًا سهلًا لإدانة حماس مثلًا، متجاهلًا الاختلال بموازين القوى، ومن دون وضع ما يحدث ضمن إطاره التاريخي (الاحتلال والاستيطان والعنف الإسرائيلي) والمكاني (حصار غزة)”. تصبح المعادلة إذًا معادلة منفصلة عن المكان والزمان ويصبح الصراع بين طرفين متساويين، لكنّه حتمًا “موقف اللاموقف تجاه إسرائيل”، يضيف معوّض. وبحسب الباحث وأستاذ العلوم السياسية، فإنّ هذه المقاربات “تتجاهل مسؤولية إسرائيل عن مأساة فلسطين، فتساوي أطرافًا بها من أجل تصفية حسابات مع هذه الأطراف”، مؤكّدًا أنّ الموضوعية هنا تكون بالتموضع: “تموضع في وجه الإبادة”.

ويشار إلى العدوان على غزّة بمسمّيات مختلفة، ويترتّب على هذه المسميات نتائج، لأنّ الحرب بين طرفين، هي غير العدوان من قوّة احتلال على شعب محتل، وهي حتمًا وحتمًا، غير الإبادة الجماعية. لكن كم يأخذ جهدًا منّا تشخيص طبيعة الحرب الإسرائيلية اليوم، طالما أنّ التاريخ موجود، وهو مدوّن ومعاش، وموثّق، يحكي عن النكبة وما تلاها وصولًا إلى 7 أكتوبر.

ونحن نعرف أنّ الحرب على غزة هي إبادة جماعية، نعرف من شهادات الصحافيين، ومن فيديوهات المواطنين الغزاويين المقتولين والمشرّدين، ومن البثّ المباشر للإبادة، لأوّل مرة في التاريخ. ونحن نشاهد بأعيننا، وبالوقت الحقيقي احتشاد عناصر الإبادة الجماعية في غزة، مع إعلان المسؤولين لدى الاحتلال نيّة التدمير الجسدي للفلسطينيين فيها، ومع القصف المدمّر والاستهداف المباشر لهم بالقتل والحصار والتعذيب الجماعي الجسدي والنفسي، ومع إخضاع أهل غزة لظروف معيشيّة يراد منها تدميرهم. فيقطع الاحتلال المياه والكهرباء والوقود والاتصالات كليًا أو جزئيًا، كما يمنع، كليًا أو جزئيًا، دخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، ويقتل المسعفين والصحافيين ومتطوّعي الإغاثة، ويدمّر المستشفيات وسيارات الإسعاف.

ونحن نعرف أنّها إبادة من المرافعة المُدعَمة بالوثائق في 84 صفحة التي قدّمتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، ونعرف من “تشريح الإبادة الجماعية” الذي قدمته المقرّرة الأممية فرانشيسكا ألبانيز على شكل تقرير في 84 صفحة. والإبادة الجماعية، أخطر الجرائم التي يمكن أن ترتكب على الإطلاق وأشنعها، فهل يصعب توصيفها، وهل يصعب التموضع في وجهها؟ وهل الموضوعية تقوم على طمس هذه الحقائق لصالح تقديم دعاية سياسية ما؟ وكراهية طرف سياسي أو آخر؟

لماذا لا نستطيع أن نرى أننا نحن أيضًا ضحايا؟

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة هو شعار نجده لدى وسائل الإعلام “المسيّسة”، سواء كانت مؤيدة أو مناوئة لحزب الله. إذ أن أمّ المعارك هي بالنسبة إليها أن تكون “مع حزب الله أو ضدّه”، فيصوّر لك أنه يجب فرز مواقفك من كلّ شيء، وحتى من الإبادة في غزة والحرب في بلدك، ضمن هذا الفرز “الداخليّ الضيّق”. هذه هي الحالة منذ عقدين على الأقل، بحسب توصيف الباحث جميل معوّض مجدّدًا، الذي يقول إنّ الإعلام، على هذا المنوال، “لا ينتج إشكاليات، ولا يحقّق معرفة، بل يبقى عالقًا عند 8 و14 آذار، يكرّر خطابًا معلّبًا يُنتج التفاهة، وهدفه الدائم التعبئة، ولصالح خطاب مهيمن محتكر للمصطلحات”. في هذا السياق، تسيطر نظرة ثقافوية تجاه “الآخر” توصّف الصراع على أنه “صراع بين ثقافة الحياة والموت”. ويبدو الخطاب السياسي في البلد عالقًا في هذا الصراع العميق إلى حدّ يجعله غير قادر على رؤية أي شيء آخر، فالصراع هنا أكبر من أي حرب أخرى، وأي إبادة.

لكن، ماذا لو توقفنا للحظة، وفكرنا قليلًا، وفيما نحن نوازن بين مشاكلنا الداخلية -على فداحتها- وموقفنا من الإبادة الكبرى، هل الإبادة بعيدة عنا؟ هل حقًا يمكن ألّا نكون معنيّين بإبادة جيراننا ومنطقتنا؟ وماذا عن الحرب على أرضنا؟ وهل الضحايا هنا حينما يستشهدون، جدّات وأمّهات، وطفلات وأطفالا، وشبّانا وكهّلا، مهندسين وصحافيين وطلابًا جامعيين ورياضيين، هل نحن بمعزل عنهم؟ وهل استهداف الشهداء الصحافيين عصام عبد الله وفرح عمر وربيع المعماري فرّق بينهم على أساس سياسي أو عقائدي، أو درس السياسات التحريرية لمؤسساتهم قبل أن يستهدفهم؟ وهل لو كان أحدنا مكانهم لكان الصاروخ الإسرائيلي ليتجنّبنا لأننا نشرنا تقريرًا “حياديًا” أو “متوازنًا بين جميع الأطراف”؟ ولعلّ كل هذه الأسئلة تختصر بسؤال واحد: هل نحن بمنأى؟ ومتى نشعر بأننا ضحايا هذه الحرب الإسرائيلية؟ ومتى نعرف أنّها معركتنا كصحافيين وأناس يسكنون هذه المنطقة قبل أن تكون معركة أي أحد آخر؟

قل لي ما سرديتك أقول لك من أنت

كلّ سردية تقدم من أيّ من الأطراف السياسية المتواجهة في لبنان حيال الحرب في غزة أو في جنوب لبنان يمكن استثمارها في الصراع السياسي داخل لبنان. يلحظ الصحافي والأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة الأميركية في بيروت ربيع بركات بروز سردية تريد تشخيص أسباب الحرب بإلقاء اللوم على المقاومة الفلسطينية في غزة: هي سردية تتقدّم بشكل متزايد وتُحمّل حركتي “حماس” والجهاد الإسلامي مسؤولية “الحرب” الإسرائيلية على غزة بحكم أنّهما “دفعا” جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى القيام بـ”رد فعل” على عملية 7 اكتوبر. ويشير بركات إلى أنّ السردية التي يتبنّاها إعلام حزب الله تريد التأكيد على أنّه لولا سلاحه الذي يمكن أن يردع إسرائيل، لكان من السهل جدًا على إسرائيل أن تقوم بشيء شبيه لما تقوم به في غزة.

وإن كان تنوّع المقاربات أمرا متوقّعا، إلّا أنّ الأخلاقيات المهنية تقتضي بالنسبة إلى بركات التموضع في وجه الإبادة بعيدًا عن الانسياق نحو التوظيف السياسي الداخلي: “أخلاقيات المهنة تفرض على الإعلامي حساسيّة واضحة”. ويوضح: “الموازنة والمساواة بين مجرم وضحية هما نقيض الموضوعيّة كما أنّهما نقيض الوقائع والحقائق، وهي مساواة مُصطنعة بالمبدأ بمعزل عن السياق اللبناني”. ويلفت بركات إلى “الجوانب الإنسانية” للإبادة في غزة والحرب على الجنوب اللبناني “فضلًا عن أنّ لها بعد متعلق بمصير مجتمعات هذه المنطقة، وكذلك لها تبعات على الواقع اللبناني بالبعد المصلحي المباشر”.

بدوره، يرى الباحث جميل معوّض أنّ الفرز السياسي للرأي العام انطلاقاً من المواقف السياسيّة الداخليّة الضيّقة، وعلى أساس الأحقاد والأهواء، يقتل البعد الحقوقي والأخلاقي والإنساني للقضايا، كما يقتل السياسة بمعناها الحقيقيّ. ويؤكّد أنّ ما نحكي عنه هنا ليس معايير مهنيّة بالمعنى التقنيّ فقط، بل أخلاقيّات تتّصل بالموقف السياسيّ والإنسانيّ، مكررًا الحاجة إلى التموضع الصريح والواضح والواعي للتحدّيات التي لعلّ أبرزها شبكات رأس المال والاقتصاد السياسي للخطاب المهيمن.

وتحدّي التمويل يتكرّر على لسان من نقابلهم، باحثين وأكاديميين وإعلاميين، وحتى مواطنين. وإذ يحضر تحدّي التمويل لدى كافّة المؤسّسات الإعلامية، إلّا أنّ مكاشفة الجمهور بمصدر التمويل هو مفتاح، لكنه لا يكفي لوحده، ما لم تحمِ المؤسسة نفسها عبر آليات داخلية تفصل التمويل عن السياسة التحريرية، هيكليًا وتطبيقيًا. وبينما يشترط القانون على وسائل الإعلام الشفافية بشأن ملكيتها وسبل تمويلها، فإنّ هذا الشرط لا يتحقق لدى معظم وسائل الإعلام. وسائل الإعلام الكبرى هي إما مملوكة من أحزاب سياسية لا تكشف بدورها عن مصادر تمويلها، وإما من عائلات ومستثمرين، لديهم مصالحهم التجارية. وإذ يحضر التمويل الخارجي بقوة، فإنه يصبح خطرًا حينما يصبح محدّدًا للأولويات. يصبح السؤال هنا: ماذا نفعل حينما ترتكب إبادة على حدودنا وتشن حرب علينا؟ وهل ننتظر تمويلًا من أجل برنامج منشورات ومقالات عن هذه الحرب؟ وهل الإعلام الممسوك من قبل المموّل بكلّ قضية يكتب عنها، مهما كانت محقة وضرورية، هو إعلام مستقل؟

البحث في الأخلاقيّات يستدعي البحث في حرّية الإعلام

ترى الباحثة القادري أنّ شروط تحقّق أخلاقيات الممارسة المهنية، تستدعي البحث في مدى تحقق الحرية الإعلامية في المشهد الإعلامي اللبناني، معتبرةً أنّ لهذه الحرية شروطها.

وتشدّد القادري على مدى ابتعاد المؤسسة الإعلامية عن الشخصنة، “فيشارك العاملون في بناء هوية المؤسسة، سمعتها وقيمها ومعايير عملها، مشكّلين نسقًا إعلاميًا خاصًا بهم”، ومدى تواجد الصحافيين الأحرار، بما تعنيه تلك الكلمة من فكر حرّ وناقد ومسائل، “فالصحافي هو حرّ بمقدار ما يعي الضغوط التي تمارس عليه من مختلف الأطراف: من النسق الإعلامي، من السوق والتنافسية التي تحكمها، من الأجهزة الإعلامية ومتطلباتها، من المعلن وشروطه، من السلطة السياسية وأساليبها في التعمية، وفي الاسترضاء، والقمع”.

وبحسب الأستاذة القادري، فإنّ الصحافي الحرّ هو الذي يبذل جهودًا إبداعية لتوسيع هامش التحرّك لديه، إنّه الصحافي العامل بشكل مستمر على بناء مهاراته، المنتج للمعلومات، المالك للمعطيات، هو من لديه سلطة المعرفة واتّساع الأفق، هو القادر على مفاوضة المصدر، المتمكّن من أخذ مسافة من السياسيين ومن الممولين. وتضيف القادري أنّ الإعلام الحرّ، هو الإعلام المتحرّر ليس فقط من التبعية للسلطة السياسية، إنّما من التبعية لمنتجي المعاني والمفردات وآليات العمل الإعلامي.

ولعل النقاش هنا يأخذنا إلى السؤال الفلسفي عن حدود حرية التعبير، والسؤال المحقّ عن “نافذة الخطاب” التي يتحدث عنها العالم السياسي جوزيف أوفيرتون، أي مجموع الأفكار المقبولة في الخطاب العام. رغم هذا، هل نرضخ حقًا إلى غياب ثوابت أخلاقية نستطيع أن نقف على صخرتها في موقفنا من الإبادة؟

تفكّك أخلاقي نتيجة تمترس سياسيّ حاد

تشتدّ حساسية الإشكالية المطروحة أعلاه في ظلّ الإبادة على غزة والحرب على جنوب لبنان. هنا الآراء تحتدّ، والنفوس تشتعل. نصّ ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي في لبنان والذي أُعلن عنه في حزيران 2013 بصراحة على “واقع الصراع العربي الإسرائيلي وحالة العداء بين إسرائيل ولبنان”، واستثناء هذا المعطى من معيار “الحياد”. ووقّع الميثاق ممثلو 32 وسيلة إعلامية لبنانية (صحف، تلفزيونات، إذاعات ومواقع إلكترونية)، والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، ونقابة الصحافة ونقابة المحرّرين، ضمن مشروع “تعزيز السلم الأهلي في لبنان” التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي المموّل من الاتحاد الأوروبي. ونلجأ إلى ذكر هذا الميثاق هنا كونه “ميثاق الشرف” الإعلاميّ الأوّل في لبنان، وقد جمع وسائل الإعلام الرئيسية من مختلف الاتجاهات السياسيّة في البلد. ولاحقًا أطلقت المواقع الإلكترونية اللبنانية في شباط 2016 “ميثاق الشرف الإعلامي الإلكتروني“، الذي وقّع بدوره من مروحة واسعة من المواقع الإلكترونية تشمل تلك التابعة للقوى السياسية الرئيسية في البلد، وقد نصّ في مادّته الرابعة على “الالتزام بالموقف الرسمي للدولة اللبنانية في كل ما يتعلق بالصراع مع العدو الإسرائيلي والخطر الإرهابي”.

يلحظ هنا أنّ الميثاق الأوّل أورد العداء للاحتلال الإسرائيلي من باب الاستثناء لأحد المعايير المهنيّة المتمثّلة بـ “الحياد وعدم الانحياز”، فيما أعاد الميثاق الثاني وضع العداء -سواء للاحتلال الإسرائيلي أو الخطر الإرهابيّ- من باب احترام الموقف الرسميّ للدولة اللبنانيّة، وكأنما العداء هو قومي مجرد عن أي أبعاد إنسانية، فيما يمكن أن نجادل بأن المعايير المهنيّة والأخلاقيّة يجب أن تنبذ واقع الاحتلال والفصل العنصري واغتصاب الحقوق والإبادة ونكران حق الشعوب في تقرير المصير، وهو ما تشير إليه الصحافيّة من “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)” سامية عياش التي تقول إن معايير العمل الصحافي واحدة، سواء مع إبادة أو حرب أو أية قضية إنسانية، مشيرة إلى أنّ الحياد “ضرب من الخيال” طالما أنّ معناه هو أن يتناول الصحافي كل مواضيع الكوكب ويعالجها من زواياها كافة “وإلّا فإنّ اختيارك للموضوع واختيارك للزوايا هو انحياز بحد ذاته”، لتؤكد: “في بعض القضايا، يجب أن ينتصر جانب دون الآخر. وهنا تأتي مهمّة الصحفي الذي ينصر الجهة الضعيفة، لأن الصحافة مهمة إنسانية، وواجبها أن تنصر الذين يتعرّضون للظلم والاستبداد، فما بالنا في ظل إبادة؟!”

وتغيب الآليات التي يفترض أن تتابع التزام وسائل الإعلام بالميثاق اليوم، فيما دور المجلس الوطني للإعلام استشاريّ، ونقابة المحررين التي يفترض أن تجمع الصحافيين، لا تزال نقابة الصحافة -الخاصة بأصحاب الصحف- تتمتع بصلاحية في اختيار المنتسبين إليها، من خلال اللجنة المشتركة بين النقابتين المعروفة بـ “اتحاد الصحافة” والمرؤوسة من نقيب الصحافة. والواقع أن الشرذمة السياسية تعطل فعالية هذه الجهات، التي تتم محاصصتها طائفيًّا بين السنة والشيعة والموارنة.

ميثاق شرف الإعلام الإلكترونيّ موقّعًا من ممثّلين عن مواقع إلكترونيّة مختلفة

والنظام الإعلامي اللبناني “القائم على المحاصصة بين الطوائف والمذاهب”، هو بحسب الباحثة نهوند القادري “منتج” نشأ عن النظام السياسي الطائفي اللبناني الذي يعاني من انقسامات ذات امتدادات إقليمية وعالمية، وهو نظام “تميّز بتقادم وضبابية وهزال الأطر التنظيمية والتشريعيّة الناظمة للعملية الإعلامية والمدونات السلوكية، التي تحدد بشكل واضح ما هي مهام الإعلام”. فالإعلام في لبنان موزّع ليس على قاعدة التنوّع والتعدّد، بل التمترس خلف التبعية السياسية. الإعلام هنا مقسّم، طائفي، محزّب بجلّه، تختلط فيه مفاهيم التبعية السياسية مع الخطوط التحريرية، وكلّ يخاطب جمهوره الصغير، وينقل له خطاب زعيمه مع كل الارتباطات الإقليمية والدولية التي تأتي معه. يحصل هذا في غياب مفهوم الخدمة الإعلامية العامة، فيما تلفزيون لبنان، وهي الوسيلة الإعلامية الرسمية، يتبع مباشرة للنظام السياسي عينه، وهو ضعيف، لاسيما مع كافة التحديات التي يعاني منها.

هذا الواقع يستمر بالتحكم بالتغطية الإعلامية اللبنانية رغم حجم الإبادة التي تعصف بفلسطين عامة وغزة خاصة، وحجم الخطر، مع العدوان الإسرائيلي المتصاعد جنوبًا، والاستهداف المركّز للقرى الحدودية ببشرها وشجرها وحجرها، فضلًا عن التهديدات الإسرائيلية المستمرة بتوسيع الحرب وتصعيدها، تهديدات وصلتْ إلى التهديد ب “تحويل بيروت إلى غزة”. ظلّت التغطيات خاضعة للمعايير السياسية عينها، فيما تلحظ الباحثة القادري “غياب مقاييس يسائل عبرها المجتمع اللبناني وسائل الإعلام والصحافيين، وأيضًا غياب ثقافة المساءلة الذاتية عند العاملين في المجال الإعلامي اللبناني. لكون المساءلة في حال حصلت تحصل بشكل ظرفي وآني وغير مستند إلى توثيق وتحليل يبحث عن الأسباب الموضوعية والأسباب الذاتية”.

إلّا أنّ الانقسام والتشرذم السياسيّ لا يؤدي بالضرورة إلى التفكك الأخلاقيّ، بل يحصل ذلك في حال التمترس فقط وتحويل كل قضية إلى خشبة نقيس أهميتها انطلاقا مما نربحه أو نخسره في السياسة، وهذا ما يصح تسميته بالشمولية السياسية أو “لا صوت يعلو فوق المصلحة السياسية”. ولكن من جهة أخرى، فإن ثمة أفق آخر وهو أن نعوّض التشرذم السياسيّ وغياب الهدف الوطنيّ الجامع من خلال تغليب القضايا الإنسانيّة، فيصبح الانتصار لهذه القضايا أكثر ضرورة في حال غياب الهدف الوطنيّ الجامع، على نحو يعيد الالتقاء على أهداف مشتركة، ولو على مستوى آخر، ويشكل ضابطًا دون الشموليّة السياسيّة.

وإن كانت الإنسانيّة بحدّ ذاتها تُمتحن اليوم من الشرق إلى الغرب، فيما أجساد أهل غزة الطرية تنزف تحت أعين العالم، فإنّ تمسّكنا كصحافيّين وكوسائل إعلام لبنانيّة بالبعد الإنساني كتعويض عن التشرذم السياسي، يصبح أكثر إلحاحًا. وشرط تغليب هذا البعد الإنساني هو أن يتخلى الجميع عن مبدأ “لا صوت يعلو على صوت المعركة” لنتبنّى على العكس من ذلك أنّ “لا صوت يعلو على وجع الإبادة الجماعية”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مؤسسات إعلامية ، لبنان ، مقالات ، إعلام ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني