عصام عبدالله.. الصحافي الجميل الذي قتله صاروخ إسرائيلي


2023-10-23    |   

عصام عبدالله.. الصحافي الجميل الذي قتله صاروخ إسرائيلي
الصورة الأخيرة التي التقطها عصام لنفسه قبيل استشهاده

يوم الجمعة الماضي، وقف أصدقاء وزملاء وأهل المصوّر الشهيد عصام عبدالله وأضاؤوا الشموع، في وداع أخير امتزج فيه الحزن والغضب والصمت في حضرة الفقد. أحيا العشرات ذكرى أسبوع على قتل عصام في استهداف إسرائيلي لصحافيين على الحدود الجنوبية مع فلسطين، بعد أن شيّعوه يوم السبت 14 تشرين الأوّل في قريته الخيام بالزغاريد والتصفيق والبكاء الشديد وشعارات تطالب بالعدالة. لم يكن عصام عبدالله عند الحدود يوم استشهاده، في 13 تشرين الجاري، صدفة. كان عصام في مهمّة صحافية عند جبهة تشتعل منذ أسبوع، وهو هناك، لأنّ واجبه، كما كان يراه، أن يكون هناك، لأنّ عمله هو أن يتواجد هناك، ولأنّ تلك المنطقة هي مكان طبيعي لمصوّر صحافي، وخصوصًا لزميل مثل عصام، يتواجد دائمًا عند الحدث في أماكن التوتر والحروب، يوثقها وينقل صورتها إلى العالم، بموضوعية عُرف بها، ويساهم في توثيق يساعد في كتابة تاريخ أكثر مصداقية. وهو إذ كان بكامل بزّته الصحافية، درع وخوذة مزدانة بتعريف صريح “إعلام” (Press) فإنّ اغتيال إسرائيل لعصام، جريمة حرب ضدّ الإعلام والصحافة وكوادرها جميعًا، هدفها إرهاب الكلمة وفرض تعتيم إعلامي شامل وكتم كلّ صوت يوثق ما تفعله في حربها اليوم.

هذا في الموقف، في التوصيف، في الكلام الذي يجب أن يقال، كي لا يموت عصام مرة أخرى من خلال تجهيل الفاعل، أو التبرير له، فضلًا عن انتظار تحقيقاته، تحقيقات المُرتكب، وكأنّ العدالة تأتي على يد القاتل. فمن قتل عصام، وكيف قتل عصام، ولماذا لم يكن يجب أن يقتل عصام، نعرفه جيدًا ونعرف كيف نكتب عنه، وهو ما يناضل زملاؤه لتدعيمه بالأدلة والبراهين، وبشهادات الزملاء الناجين والناجيات، بوجه الدعاية الإسرائيلية التي تريد تمييع الحقيقة وترسيخ الإفلات من العقاب. الشقّ الصعب، هو كيف نكتب عن عصام، وماذا نكتب عنه؟ وكيف نكتب عن 36 عامًا من الحياة؟ هل نكتب مثلًا عن عصام الزميل الذي يشكل وجهُه جزءًا طبيعيًا من المشهد في كلّ تغطية صحافية؟ وجه نعتاد عليه، ربما نطمئن له، نتوقعه دائمًا، لكن تغييبه يُحدث فرقًا حتمًا ويخفف الشعور بالأمان.

هل نكتب عن عصام الصديق، الذي رأينا بكاء أصدقائه، لكننا لم نكشف عن قلوبهم، لم نعرف آلامهم، ولا يجب لنا محاولة التنبؤ بها، حفاظًا على قداسة هذا الألم. هل نكتب عن عصام الابن؟ ابن فاطمة (والدته)، وابن ليلى (عمّته التي شاركت في تربيته)؟ السيدتان اللتان وشم اسميهما على جسده، هذا الجسد الذي أراده عصام لوحًا يوثق عليه عمرًا، ورأت فيه إسرائيل هدفًا تصبّ عليه نيرانها. هل نكتب عن عصام الشقيق؟ شقيق عبير التي تعهّدت له بأن “أمانة العيلة محفوظة” فيما كلماتها تغالب دموعها؟ أو نكتب عن عصام الإنسان الحنون على الكلاب والقطط، اللطيف منها والشرس، والبيتوتي والمشرّد، الحيوانات التي بادلت عصام الحب، فمنحته الكثير من وقتها كي يتفنّن في تصويرها؟

زملاء عصام عبدالله وضعوا كاميراتهم والورود على قبره بعد مواراته الثرى

يوم الجمعة 13 تشرين الأول، كان عصام في مهمّة صحافية لصالح وكالة رويترز التي يعمل معها منذ 16 عامًا، وضمن مجموعة صحافية في علما الشعب، على بعد 3 كيلومترات من الحدود، يغطّي التطورات في المنطقة التي كانت شهدتْ من قبل اشتباكات بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي. كان عصام، المتمرّس في إجراءات الوقاية والسلامة، يقف مع زملائه عند تلة يفصلها عن مكان الاشتباكات وادٍ وتلة أخرى، وكانوا جميعهم بدروعهم وخوذاتهم التي تحمل إشارة “صحافة”، كما كانت سيارتهم تضع بشكل واضح إشارة TV، حينما استهدف الاحتلال الإسرائيلي المجموعة بصاروخ أصاب عصام فأرداه على الفور. وتسبّب الصاروخ بجراح خطرة للزميلة في وكالة الصحافة الفرنسية كريستينا عاصي، قبل أن يستهدف بقيّة أفراد المجموعة بصاروخ ثانٍ فيما كانوا يحاولون سحب عصام وكريستينا، فيتسبّب بإصابات بالغة للزملاء الصحافيين كارمن جوخدار وإيلي برخيا (الجزيرة) وكريستينا عاصي وديلان كولنز (وكالة الصحافة الفرنسية) وماهر نزيه وثائر السوداني (رويترز).

وقد أكّد بيان الجيش اللبناني أنّ عصام وزملاءه استهدفوا بصاروخين إسرائيليين، فيما وثقت شهادات الناجين خلو المنطقة من أيّ اشتباكات، وأنّ الاستهداف كان إسرائيليًا ومتعمّدًا بعيدا عن الجبهة. في المقابل، لم يحدد البيان الأوّلي لرويترز هوية القاتل ولا ظروف الاستشهاد، موقف لاقى غضبًا واسعًا، فعدّلت الوكالة البريطانية لاحقًا في صيغته، لتؤكد أنّ مصدر القذائف كان من ناحية الاحتلال الإسرائيلي، من دون أن تشير إلى أنّ القصف كان إسرائيليًا. وأعلن تجمّع نقابة الصحافة البديلة أنّ عضو التجمع عصام عبدالله استشهد باستهداف إسرائيلي، متعهّدًا بسلسلة من الخطوات على المستوى الدولي لملاحقة الفاعل. وبالمثل أوضحت نقابتا فلسطين ومصر الموقف عينه، ومعها منظمات دولية مثل مراسلون بلا حدود.

 وعصام بدأ مساره المهني مع رويترز عام 2007، خلال تغطية مواجهات داخلية في العاصمة اللبنانية بين مؤيدي ومعارضي الحكومة اللبنانية آنذاك. وخلال 16 عامًا من التصوير الصحافي، كان عصام يغطي أماكن النزاعات والتوتر والحروب والكوارث، من الثورة المصرية في 2011، إلى الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا وفي العراق، وصولًا إلى زلزال تركيا والحرب الأوكرانية، التي فاز مع فريقه بجائزة “مصوّر تلفزيون العام” بسبب حرفيته في تغطيتها. كان عصام إذًا، بحكم خبرته الطويلة، وحرفيته العالية، “أستاذًا في تدابير السلامة والوقاية، ولا يسمح للشجاعة والشغف التمادي للخروج عن حدود المسؤولية”، بحسب زملائه الذين كانوا يستمعون إلى إرشاداته بإصغاء خلال تغطيتهم قرب الحدود، ويشعرون بالأمان إلى جانبه.

خلال هذا المسار، تميّزت تقارير عصام بالقدرة على أنسنة القصة الصحافية، وإبراز حكايات الناس من بين دخان المعارك وغبار الكوارث وقنابل الغاز القمعية. كان عصام متفوّقًا في سرد قصص الناس، وتوثيقها، وفي التعامل مع الحدث كلحظة إنسانية، مهما كان عنيفًا. 

تتحدث الصحافية دجى داود عن تغطية عصام لتفجير 4 آب، التي نال على إثرها ترشيح رويترز له لجائزة صحافي العام. تقول دجى إنّ صعوبة هذه المهمة كانت أنّ عصام هنا يغطي دمار مدينته، فرأيناه يوثّق البشاعة بإنسانية عالية، هو يسأل الناس قبل تصويرهم، يحدثهم مبديًا تضامنه وتعاطفه، قبل أن يرفع الكاميرا في وجوههم، وهو إذ يصوّر الأحياء المدمرة، ينقل المساعدات للأسر المهجّرة، ويتوقف عند كل حيوان مشرّد يصادفه، وقد يطعمه بما يتوفّر له، أو يمسح عليه مزيلًا عنه بعض آثار الانفجار، أو يقرّر أن يلتقط له صورة.

ومن عصام الصحافي، إلى عصام الصديق، أو “الأخ” كما يصحّح لنا محي الدين شحادة، الذي لا يعجبه أبدًا اختصار عصام بمهنته. إذ أنّ عصام هو الرفيق “الحلو” الذي يبتسم كثيرًا ليكون الضحكة الدائمة التي نتذكره بها، وهو الأخ الحنون الحاضر في تفاصيل حياتنا والسند خلال محنة مرض أبينا، وشريك المغامرات على أنواعها، من هواياته في السباحة وقيادة الدراجات النارية إلى قصد المطاعم البعيدة من أجل طبق طعام مميز. فعصام “كان لديه حس تذوّق عال وهواية بالأكل”، يقول صديقه مبتسمًا ليختصر الشهيد بعبارة: “كان مليان حياة وكانت الحياة بتلبقله”.

وعصام كان معطاءً، يصوّر أصدقائه ورفاقه باستمرار، بدافع الحب لهم طبعًا، وبدافع ولعه بتوثيق كل شيء، وكل اللحظات، فكان آخر ما صوره عصام هو صورة عفوية للزميلة كارمن نشرتها بعد أيام من نجاتها لتنعى زميلها وتطمئن محبيها على تحسن صحتها تدريجيًا. 

وعصام كان لا يبخل على زملائه بنصيحة ويخصص الكثير من وقته ليشارك معهم ما يطوره من مهارات في التصوير، ويعطي النصائح المهنية للساعين إلى استكشاف مجالات جديدة في المهنة، وهو ما يرويه الزميل محمد قليط الذي عرفه من أيام الجامعة حينما كان عصام ذلك الشاب بكاميرتين في رقبته وابتسامة دائمة على وجهه، يعرف كيف يبني الصداقات ويكسر العداوات. والكرم هنا يأخذ أشكالًا أبعد في شهادة محمد، فلم يتردد عصام بسحبه من بين أيدي قوات الأمن بعد أن غدرت به بضربة مفاجئة على قدميه، خلال قمعها تظاهرات 17 تشرين 2019، ليحميه عصام بجسده ريثما يلتقط أنفاسه وينهض مجددًا.

كان لعصام خطة أخرى لحياته. خطة ثبّتها بوشم على جسده: خريطة العالم، ليمهر بنقطة عليها كلّ بلد يزوره ضمن عمله ومهامه الصحافية، وكان يقول إنّ هذه الخريطة هي مجرّد أداة تساعده على إحصاء البلدان التي لم يزرها بعد، ريثما ينهي جولته حول العالم.

عصام مع كاميرته ويبدو الوشم على زنده باسم والدته وعمّته

خلال وقفة صالون بيروت في الحمرا، خاطبت ليلى، عمة عصام، الصحافيين والأصدقاء المتجمّعين، بكت معظم وقت الكلمة، استجمعت قواها لتقول لهم: “أنتم أولادي كما كان عصام ابني، وأنا أرى وجه عصام بوجوهكم وكاميراتكم اليوم”. ظلّ صوتها متهدّجًا وهي تحاول أن ترثي عصام بكلمة أو اثنتين، فأسعفت نفسها بـ”تقبرني يا عصام” قبل أن تعبّر عن غضبها ضد إسرائيل بالتعابير التي تعرفها جيدًا كأي امرأة جنوبية عايشت الكثير من اعتداءات الاحتلال، وبات لديها قاموسًا مخصّصًا لنعي من يُقتل على يديه.

ليلى عمّة عصام خلال وقفة وإضاءة شموع في ذكرى أسبوع على استشهاده

يُعرَف عصام بين زملائه بعبارة “متوفّر حتى إشعار آخر” التي كتبها حالة بالقرب من رقم هاتفه. “الإشعار الآخر” جاء قاسيًا مع خبر استشهاده، تقول الزميلة دجى، فيما يؤكد محي الدين أنّ الخبر لا يزال بعيدًا عن أن يصبح واقعًا في ذهنه، فينظر إلى عزاء عصام ليقول لو إنّه كان ليأتي الآن ليكسر حدّة هذا الصمت بنكتة محبّبة. يضحك محي الدين من قلبه فترى في ضحكته ضحكة عصام، هي ذاتها مع بريق العين. يشرح محي الدين هنا أنّه وعند سماعه الخبر، توجّه إلى المستشفى في صور حيث نُقل جثمان عصام، وهو الذي كشف عن الجثمان وأمله عظيم بألّا يرى وجه رفيقه المُغبر.

عن خطوات الصحافيين في مسيرتهم لتحقيق العدالة لعصام، تقول عضو تجمّع نقابة الصحافة البديلة دجى داود في حديث مع المفكرة القانونية “إننا اليوم في معركة مع قوّة لا تتوانى عن ارتكاب جرائم الحرب في استهدافها للصحافيين من أجل فرض تعتيم إعلامي عن جرائمها المتكررة، ومسؤوليتنا أن نلاحق الفاعل على المستوى الدولي وأن نكرّس بالتجربة معنى العدالة وعدم الإفلات من العقاب، وأن نملأ الفراغ الذي خلقه استشهاد عصام بالحقيقة”.

زملاء الشهيد عصام تجمعوا عند درج المتحف الوطني في بيروت فور بلوغهم خبر استشهاده

وقامت “نقابة الصحافة البديلة” حتى اللحظة بمراسلة قوات اليونيفيل العاملة في الجنوب لرفض غموض بيانها في تسمية قتَلة عصام ومطالبتها بإجراء تحقيق في الجريمة، باعتباره ضمن الصلاحيات المعطاة لها بموجب القرار الدولي 2006/1701، وكذلك مقرري الأمم المتحدة الخاصين المعنيين بالقضية، لمطالبتهم بإدانة الجريمة ودعم إجراء تحقيق دولي مستقلّ بها بإشراف مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان. وشملت المراسلات إيرين خان، المقرّرة الخاصة بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، وموريس تيدبال بينز المقرر الخاص بحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو الإعدام التعسّفي، وريم السالم، المقرّرة الخاصة المعنية بالعنف ضد النساء والفتيات، خصوصًا أن من بين الجرحى صحافيات. ويكشف التجمّع عن تحضيره لعريضتين موجهتين إلى اليونيسكو للمطالبة بإدانة الجريمة وتسجيلها بين جرائم استهداف الصحافيين، وكذلك لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان لمطالبته بفتح تحقيق مستقلّ بالقضية. وقد دعتْ المديرة العامة لليونيسكو أودري أزولاي بالفعل إلى التحقيق بالجريمة في موقف صدر عنها في 16 تشرين الأوّل الجاري.

من وقفة أمام مبنى الإسكوا في بيروت يوم الأحد 15 تشرين أول 2023 تطالب بالعدالة للشهيد عصام

لا تعرف أسرة عصام وأصدقاؤه ورفاقه والزملاء بعد كيف هو شكل الدنيا من دون عصام، وهو ما يتعلمونه عبر عيشه كل يوم منذ 13 تشرين الأوّل. لكن ما هو أكيد، أنّ هذه المادة ليست سوى محاولة للكتابة عن عصام، وأنّ هذه الورقة، وهذا القلم، ليس معدًّا ليكتب عن قتل صحافيين، وأنّ الصحافة عملها أن تنقل للناس الحدث والمعلومة، لا أن تنعى بعضها بعضًا. حينما يُقتل صحافي، فهذا اعتداء على الصحافة التي نعرفها، وعلى الصحافة كما نعرفها. والنضال من أجل العدالة لعصام، هو نضال من أجل عالم آخر أكثر إنسانية وأقل بربرية، غير هذا العالم، عالم لا يقتل فيه الصحافيون، وعالم يحترم حق عصام بأن يبقى فيه مصوّرًا صحافيًا وزميلًا ورفيقًا وأخًا وابنًا، وصديقًا لقطط الشوارع وكلابها. عصام كان كل هذا، ويوم الجمعة 13 تشرين الأوّل 2023، الساعة 6:02 مساء، إسرائيل قتلت كلّ هذا، ومعه توقّف وضع النقط على خريطة العالم على ساعد هذا الشهيد الجميل.

أضاء زملاء عصام وأهله ورفاقه الشموع يوم الجمعة 20 تشرين الأول في ذكرى أسبوع على استشهاده
انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني