الأمن العام يتهجّم على محامٍ لا يخضع: صبلوح يواصل نضاله لفرض التحقيق بقضايا التعذيب


2022-02-08    |   

الأمن العام يتهجّم على محامٍ لا يخضع: صبلوح يواصل نضاله لفرض التحقيق بقضايا التعذيب
رسم رائد شرف

الأمن العام يرتاب بالمحامين المدافعين عن حقوق الإنسان. هذا فحوى ما ورد في كتاب  صادر عن المدير العام للأمن العام في كانون الأوّل 2021 اطلعت عليه “المفكرة” واعتبر فيه أن المحامي محمد صبلوح، وهو مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس، “ذو الشبهات الكثيرة” كونه “محرّض على الحراك والثورات … ويسيء لبعض الدول”. جاء الكتاب رداً على مراسلة كانت قد أرسلتها منظمة العفو الدولية الى وزير الداخليّة والبلديّات القاضي بسّام المولوي بشأن مضايقات يتعرّض لها صبلوح على خلفية نشاطه في الدفاع عن المحتجزين، لا سيما من قبل الأمن العام والنيابة العامة العسكرية.

صبلوح يدافع منذ سنوات عن الموقوفين ويفضح ممارسات التعذيب وانتهاكات حقوق الموقوفين بالدفاع وحرمانهم من تنفيذ المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وينقل هذه المطالبات إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف بعد أن يستنفذ كلّ السبل لدفع السلطات القضائية اللبنانية إلى التحرّك لكبح هذه الممارسات. وفي المقابل، غالبا ما يصطدم بعراقيل مثله مثل كثير من المحامين، تصل إلى درجة اتهامه بالافتراء وإنكار حقه بممارسة حق الدفاع نيابة عن موكليه.

ويرى صبلوح في حديث مع “المفكرة” أنّ كافة العراقيل والممارسات التي يتلقّاها من النيابات العامّة أو من الأجهزة الأمنية وآخرها موقف الأمن العام، كلّها محاولات “لشيطنة نشاطي الحقوقي والانتقام مني”. ويُرجع هذا الانتقام إلى إقدامه على الدفاع عن حقوق موقوفين محتجزين لدى الأمن العام وتمكن عبر نقل القضية إلى الإعلام من الوصول إلى الإفراج عنهم ،،قف ترحيلهم، كما وساهم في نشر شهادات موقوفين سوريين تعرّضوا للتعذيب في السجون اللبنانيّة في  تقرير “كم تمنيت أن أموت” أعدته منظمة العفو الدوليّة في آذار 2021. ووصل أثر هذا التقرير لمجلس حقوق الإنسان الذي أرسل لمجلس النوّاب اللبناني يطلب مساءلة القيمين على الأجهزة الأمنيّة. 

الأمن العام “يشتبه” بمحام لدفاعه عن موكليه

في التفاصيل، أرسلت منظمة العفو الدولية قبل شهور كتاباً لوزير الداخليّة والبلديّات القاضي بسّام المولوي بشأن مضايقات يتعرّض لها المحامي محمد صبلوح. وتوقفت المنظمة عند بعض الملاحظات على أساليب تعاطي جهاز الأمن العام مع صبلوح على خلفية نشاطه في الدفاع عن المحتجزين. والكتاب هو واحد من بين كتب أخرى أرسلتها منظمات ومؤسسات حقوقية للأمن العام اللبناني ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة بشأن المحامي صبلوح. كل ذلك على خلفية محاولة السلطات اللبنانية عرقلة دفاعه عن موقوفين من بينهم لاجئين سوريين صدرت بحقهم قرارات ترحيل، وطلب النيابة العامّة العسكريّة من نقابة المحامين في طرابلس رفع الحصانة عنه للادّعاء عليه بجرم الافتراء على خلفية تقدّمه بشكوى تعذيب بوكالته عن أحد الموقوفين لدى الشرطة العسكرية في ثكنة فخر الدين.

أحال المولوي الكتاب إلى الأمن العام للاستفسار عن الموضوع وردّ عليه هذا الأخير في 27 كانون الثاني 2021 في كتاب اطلع صبلوح و”المفكّرة” على مضمونه. ويلفت المحامي إلى أنّ الكتاب الموقع من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم تحدث عن أمرين لتبرير المضايقات التي يتعرّض لها.

الأمر الأوّل اتصل وفقاً لما أشار اليه الأمن العام بأن “السلطات القضائية الإماراتية (أصدرت) حكماً قضى بملاحقة المحامي (صبلوح)… بجرم الإساءة إلى دولة الإمارات واتهامها بتعذيب موقوفين لديها” دون أن يوضح ما إذا كان القرار المذكور مجرّد إدعاء بحقّ صبلوح أو حكماً يدينه. ويوضح صبلوح الذي لا علم له بهذا القرار بأنّ الموضوع يرتبط بممارسته عمله في الدفاع عن موكله اللبناني أحمد مكاوي المتّهم من قبل السلطات الإماراتية “بالتواصل مع حزب الله”. ويؤكّد صبلوح أنّه تقدّم نيابة عن موكله بشكوى للأمم المتحدة اتهم فيها الإمارات باحتجازه تعسفاّ وانتزاع اعترافات منه تحت التعذيب. وتتضمّن الشكوى تسجيلات لمكالمات أجراها صبلوح مع موكله يشرح فيها أساليب التعذيب التي تعرّض لها. ويلفت صبلوح إلى أنّه صدر رأي في العام 2017 عن “الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفّي” في الأمم المتحدة والذي اعتبر أن دولة الإمارات تحتجز مكاوي تعسفاً وأوصت بالإفراج عنه، لكن الإمارات امتنعت عن اتخاذ الإجراءات اللازمة حيث لا يزال مكاوي محتجزاً لغاية اليوم. 

تثير هذه المسألة تساؤلات حيال موقف الأمن العام من هذا الحكم (إن وُجد)، فهو بدلاً من إدانته كونه يأتي على خلفية ممارسة صبلوح لواجباته بالدفاع عن موكله سعى إلى شرعنة الحكم واعتبار صبلوح مسيئاً لدولة الإمارات. ويذكر أنّ اللواء عباس إبراهيم قاد المفاوضات العام الفائت للإفراج عن 14 لبنانياً أوقفوا في الإمارات بتهمة إنشاء خلية تابعة لحزب الله، فيما لم تصل المفاوضات حينها إلى الإفراج عن لبنانيين آخرين محكومين في الإمارات بالتهمة نفسها، ومن ضمنهم موّكل صبلوح أحمد مكاوي. ويعلّق صبلوح بأنّ الدولة اللبنانية تركت أبناءها في سجون الإمارات وتخلّت عنهم. 

أمّا بالنسبة للحجة الثانية التي استند إليها الأمن العام في كتاب الردّ على منظمة العفو فهي أنّ صبلوح “من الناشطين الأساسيين في عمليات التحريض عبر حسابه الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً لناحية مهاجمته للأجهزة الأمنية اللبنانيّة والتعرض لشخص رئيس الجمهوريّة”. ويردّ صبلوح أنّ “استخدام حسابي على فيسبوك بهدف انتقاد ممارسات انتهاك حقوق الإنسان لدى الأجهزة الأمنيّة أو انتقادي للسلطة والتشجيع على التظاهر هو وسام على صدري، وأنا أقوم بذلك عن قناعة تامّة وليس تحريضاً بل لقول الحقيقة”. ويشدد على أنّه لم يستخدم يوماً أي كلمة فيها إساءة لأحد وخاصّة لرئيس الجمهورية وأتحدى إيجاد أي عبارة استخدمتها فيها أي إساءة له”. 

يضع صبلوح ردّ الأمن العام في إطار الكيدية والانتقام منه على خلفية مسألتين. الأولى هي تعاونه مع منظمة العفو الدوليّة في إطار إعدادها لتقرير “كم تمنيت أن أموت” في آذار 2021 الذي نشر شهادات لموقوفين من الرجال والنساء والأطفال السوريين الذين تعرّضوا للاحتجاز التعسفي والتعذيب لدى الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة ومنها الأمن العام. ويقول صبلوح لـ”المفكرة” أن اللواء عبّاس إبراهيم ردّ عليه “عليك ألّا تتواصل مع المنظمات غير الحكومية الدولية…أنت ترتكب الخيانة العظمى .. وتدعم الصهيونية”، وذلك خلال اجتماع في نيسان 2021 دعت إليه وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم وحضره صبلوح بصفته رئيس لجنة السجون لدى نقابة المحامين في طرابلس، إلى جانب نقيبي المحامين السابقين محمد مراد وملحم خلف وقائد الجيش العماد جوزاف عون والمديرة العامّة لوزارة العدل القاضية رلى جدايل. ويلفت صبلوح إلى أنّه لاحقاً التقى مستشار وزير الداخلية لشؤون السجون العميد فارس فارس وأعلمه بما قاله اللواء فرد عليه الأخير قائلاً إنّ “السفير البريطاني هدّدنا بقطع المساعدات عنا بسببك”.

والمسألة الثانية هي على خلفية دفاع صبلوح عن موقوفين سوريين معارضين للنظام ومحتجزين لدى الأمن العام حيث أصدر الأمن العام بياناً في 4 تشرين الأول 2021 متوجهاً فيه إلى صبلوح ذاكراً فيه “ليس من حق الوكيل (صبلوح) أن يصدر أحكاماً أو يوزع معلومات خارج الأصول وغير دقيقة”. وأتى هذا البيان على خلفية طلب صبلوح من النيابة العامّة التمييزيّة إيقاف إجراءات الترحيل إلى سوريا وإعلانه ذلك عبر صفحته على فيسبوك، كون ذلك يناقض اتفاقية مناهضة التعذيب ويعرّض المرّحلين للتعذيب وخطر الموت. وقد أفرج الأمن العام عنهم على أثر ذلك.

المحامي محمد صبلوح

نقابة محامي طرابلس: النيابة العامة تحاول التمّلص من تطبيق قانون معاقبة التعذيب

وفي اليوم نفسه لصدور بيان الأمن العام (4 تشرين الأول)، تسلّمت نقابة المحامين في طرابلس طلباً من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة القاضي فادي عقيقي لرفع الحصانة عن صبلوح ومحاكمته بدعوى افتراء. المستغرب أنّ النيابة العامّة العسكرية سعت لملاحقة صبلوح بدعوى افتراء تعتريها الكثير من الشبهات، كون صبلوح تقدّم بشكوى تعذيب لدى النيابة العامّة التمييزية بالنيابة عن موكل موقوف لدى الشرطة العسكرية في ثكنة فخر الدين في بيروت. وبعدما علم من موكله وعائلته أنّه تعرّض للتعذيب، طلب من النيابة العامة تعيين طبيب شرعي له لكنّ ذلك لم يحصل إلّا بعد شهر من تقديم الطلب وكانت آثار التعذيب قد اختفت عن جسده. غير ذلك، فوجئ صبلوح أيضاً أنّه تمّ التحقيق مع موكله من قبل الشرطة العسكرية المشتبه بارتكابها التعذيب وجرى الاستماع إلى موكله من دون حضوره بصفته وكيله القانوني، كما جرى انتزاع اعتراف منه بعدم علمه بموضوع دعوى التعذيب. 

وفي 27 تشرين الأوّل 2021، أرسل مجلس نقابة المحامين في طرابلس برئاسة النقيب السابق محمد المراد إلى النيابة العامّة العسكرية رفضه منح الإذن بملاحقة صبلوح مشدداً على حقه في أداء مهامه كمحام مدافع عن حقوق الإنسان. ووفقاً لقرار الرفض الذي اطلعت عليه “المفكرة”، اعتبر مجلس النقابة بأنّ “طلب الإذن يعتبر مخالفاً للقانون رقم 65 لعام 2017 أي قانون معاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، كما والمادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية و لمبدأ عدم مساءلة المحامي مضمون الشكوى التي تقدّم بها عن موكله كون الفعل المنسوب إليه ناشئا عن صميم ممارسة المهن”. والملفت أنّ النقابة اعتبرت أنّ موضوع الطلب “ليس فقط عدم توافر ما هو مدعى به بحقه… إنما المسألة تكمن في محاولة التملص من تطبيق القانون 65 / 2017”. 

المقرّرة الخاصّة بالمدافعين عن حقوق الإنسان تدعو لوقف المضايقات تجاه صبلوح

في تقرير نشره خبير الأمم المتحدة في مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان طالب فيها لبنان “بوقف التهديدات والمضايقات التي يتعرّض لها المحامي المدافع عن حقوق الإنسان محمد صبلوح”. وأعربت ماري لولور، مقرّرة الأمم المتحدة الخاصّة المعنية بوضع المدافعين عن حقوق الإنسان عن قلقها “بشأن استخدام التهديد والترهيب الذي قد يقوّض الحق في حرية الرأي والتعبير والعمل المشروع للمحامين”. وشدّدت على أهميّة عدم عرقلة عمل المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان الذي وصفته بالجوْهري في كشف تلك الانتهاكات.

كما توجهت عدّة منظمات حقوقيّة عالميّة إلى الأمن العام اللبناني والنيابة العامّة العسكريّة برسائل دعم للمحامي صبلوح واصفةً ما يتعرّض له بالتهديد والترهيب. ويذكر منها رسائل  من جمعية القانون في واشنطن وجمعية مجتمع القانون في انجلترا وويالز للنيابة العامة العسكريّة والأمن العام اللبناني للمطالبة بوقف المضايقات التي يتعرّض لها صبلوح. 

الأمن العام لا يحتمل الانتقاد   

ليست المرّة الأولى التي يبدي فيها الأمن العام مقاربته السلبية تجاه المدافعين عن حقوق الإنسان وبخاصّة الأجانب واللاجئين وتجاه الانتقادات لممارسته التعسفيّة، وغالباً ما يعمد الأمن العام إلى إصدار “مذكرات إخضاع” بحق منتقديه من محامين وصحافيين وفنّانين وغيرهم تهدف إلى منعهم من دخول مبانيه وتجديد جوازات سفرهم والقيام بمعاملات أخرى. كما تمّ وضع مذكرة إخضاع للمدير التنفيذي للمفكرة القانونية المحامي نزار صاغية في 2010 على خلفية دعاوى التوقيف التعسفي بحق لاجئين من التابعية العراقية بعضهم احتجزوا لسنوات طويلة دون مسوغ قانوني، وهي الدعاوى التي انتهت إلى إلزام الدولة ممثلة بالأمن العام بالإفراج عنهم فوراً فضلاً عن تسديد بعضهم تعويضات من جرّاء الاعتداء عليهم على هذا الوجه. 

ويسجّل أن قضاة عدة أدانوا تعسّف الأمن العام ضد منتقديه. ففيما يتعلّق بمنع المحامين المدافعين عن حقوق الأجانب من دخول مبانيه لممارسة عملهم بتمثيل موّكليهم لا سيما الموقوفين منهم، أصدر مجلس شورى الدولة في العام 2014 بإبطال قرار المنع الصادر بحق المحامي أديب زخور على خلفية دفاعه عن العاملات المهاجرات،  كما أوقف تنفيذ قرار المنع الصادر بحق المحامي رولان طوق في العام 2012 على خلفية الأمر نفسه.

وفي زمن الوصاية السورية في العام 2003، أوقف الأمن العام سميرة طراد من جمعية روّاد الحقوق لمدّة 48 ساعة على خلفية انتقادها لسياسة الأمن العام بترحيل اللاجئين أمام المنابر الدولية، إلا أن الحكم الصادر في قضيتها في العام 2011 جاء بإبطال التعقبات بحقّها من تهمة الذمّ لتشويه صورة لبنان استناداً لحرية التعبير. 

وفي العام 2017، أرسلت وزارة الداخلية بناء لطلب الأمن العام الصريح كتاباً إلى “المفكّرة القانونية” للتقيّد بالقوانين والأنظمة على خلفية تنظيمها ندوة حقوقية لمناقشة الدعوى القضائية التي تقدّم بها أحد اللاجئين السوريين في العام 2015 بهدف إبطال تعليمات الأمن العام المتعلّقة بتنظيم ودخول السوريين إلى لبنان. وقد ورد في كتاب وزارة الداخلية أنه تبيّن من التحقيقات التي أجرتها المراجع الأمنية (أي الأمن العام) بأن “هذه الجمعية تنشط في إقامة الندوات والمؤتمرات متسلحة بالقوانين المحلية والدولية لانتقاد سياسة الأنظمة المحلية وأجهزتها الإدارية والأمنية بحجة أنها جمعية علمانية وتدعو إلى التغيير، وانتقدت في أكثر من مناسبة مركز التوقيف الإحتياطي في المديرية العامة للأمن العام، معتبرة إياه أنه لا يراعي الشروط الإنسانية وحقوق الموقوفين، وتعمد إلى انتقادها للأجهزة الأمنية ودورها الرقابي متهمة إياها بالتضييق على الرعايا السوريين المتواجدين في لبنان.” وفي حين أعاب الأمن العام على “المفكرة” اتهامه بالتضييق على السوريين، جاء قرار مجلس شورى الدولة في العام 2018 بقبول الدعوى المذكورة للتأكيد على عدم قانونية هذه التعليمات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، قرارات قضائية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، المهن القانونية ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني