قضية يسرى العامري: أو حين دافع إعلاميون عن قوة أحكام قضائية في لبنان


2014-04-08    |   

قضية يسرى العامري: أو حين دافع إعلاميون عن قوة أحكام قضائية في لبنان

لم تكن علاقة الإعلام بالقضاء دوماً علاقة مأزومة ضمن ثنائية “الهيبة” (للقضاء) و”الحريات” (للصحافة). فقد صدف في مناسبات عدة، أن تبنّى عدد من الوسائل الإعلامية قضايا قضائية أساسية. ومن أبرز هذه المناسبات، قضية اللاجئة العراقية يسرى العامري، حيث التزمت وسائل إعلامية عدة الدفاع عن قوة حكم القضاء وصولاً الى فرض تنفيذه في مواجهة المديرية العامة للأمن العام (الأمن العام أدناه)،فيما التزمت السلطات القيّمة على القضاء صمتاً تاماً وكأنها غير معنية.

بدأت القضية في 11-12-2009، حين أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في زحلة سنتيا قصارجي، حكماً ريادياً بالإفراج فوراً عن العامري، وذلك في دعوى أقامتها هذه الأخيرة ضد الدولة/ وزارة الداخلية/ الأمن العام على خلفية إبقائها محتجزة تعسفاً لأشهر من دون سند قانوني. وأهمية هذا الحكم تكمن في أنه الحكم الأول من نوعه الذي يصف هذا النوع من الممارسة التي كان يعتمدها الأمن العام اعتماداً منهجياً ومزمناً على أنه احتجاز تعسفي، ما يجعلها بحكم القانون جناية مُعاقباً عليها بالأشغال الشاقة المؤقتة وفق أحكام المادة 367 من قانون العقوبات. إلا أنه رغم صدور هذا الحكم، امتنع الأمن العام عن تنفيذه مبقياً اللاجئة قيد الاحتجاز. وإزاء عدم وجود آليات لإرغام الإدارات العامة على تنفيذ الأحكام، اضطر وكيل العامري والناشطون المؤيدون للقضية (أبرزهم جمعية رواد، فرونتيرز) على نقل المواجهة من القضاء الى الإعلام الذي تحوّل بدوره الى شريك
أساسي في معركة “تحرير” اللاجئة العراقية والدفاع عن القضاء وما يصدر عنه من حكم[1].

وانطلاقاً من ذلك، خصصت معظم الصحف اللبنانية، وبوجه خاص الأخبار والسفير وبشكل أقل النهار، صفحات عدة (أحياناً عناوين صفحاتها الأولى) لمواكبة القضية، ورافقت كاميرات الصحافيين اللاجئة العراقية يوم الإفراج عنها تنفيذاً للحكم في 20-01-2010، فتصدّر خبر تنفيذ الحكم نشرتي أخبار قناتي “الجديد” و “OTV“. لا بل ذهبت بعض هذه الوسائل الى الحديث عن عصيان الأمن العام أو تمرّده على الحكم[2].
وتظهر القضية أن الأمن العام تذرع بداية لرفض تنفيذ الحكم بمجموعة من الحجج، أبرزها أن العامري لا تحوز إقامة، ما يجيز للمديرية معاودة اعتقالها فور إخلاء سبيلها(!)،  كما شكك بمدى صحة انطباق صفة اللجوء على اللاجئة العراقية المحتجزة. وقد ذهب المدير العام للأمن العام السابق، الراحل اللواء وفيق جزّيني، حسبما نقلت عند جريدة الأخبار، الى حد القول بأنه تبيّن بعد “اجتماع مع كبار ضباط المديرية” أن القاضية قصارجي “لا تعرف ما تقوم به” ولو أنها تعلم “بالآلية القانونية الموجودة في مذكرة التفاهم المعقودة مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لما كان صدر عنها قرار إخلاء سبيل”[3] وأيضاً أنه “ليس للقضاء علاقة في المسألة”[4]. وهذه الحجج إنما تعكس أن الأمر كان محسوماً بالنسبة للأمن العام: فليس للقضاء أي دور يؤديه في مواضيع الأجانب، مهما كانت القضية، وإذا صدر عنه حكم، فلا بأس، فهو لن ينفذ.

كما تظهر الوقائع أن الأمن العام عاد ورضخ للحكم القضائي على مضض وتدريجياً بفعل الإعلام وتحت ضغطه. فبعد مقالة صحافية نارية اللهجة وردت إشارة اليها على الصفحة الأولى لجريدة الأخبار بعنوان  “الامن العام يتحدى القضاء”  قام الأمن العام بـتسليم اللاجئة العراقية لأحد بيوت الإيواء التابعة لرابطة “كاريتاس” على أن تظل موقوفة لديها لمصلحة المديرية. وقد أدى هذا الأمر الى إطلاق حملة ضد الرابطة بواسطة SMSوالرسائل البريدية رفضاً لتورطها في منح الأمن العام منفذاً لعدم تنفيذ الحكم، من خلال الموافقة على احتجازها لمصلحته.

وفي يوم الإفراج عن العامري، كان من المفترض أن تجري اللاجئة مقابلة مع المفوضية العليا للاجئين ليصار الى إعادة توطينها. وقد وصلت اللاجئة الى المفوضية بمرافقة موظفين من رابطة “كاريتاس” الذين رفضوا رفضاً قاطعاً أن يُطلق سراحها، وأدلوا رداً على سؤال الصحافيين أن اللاجئة سوف “تبقى عندنا الى حين يَخلص ملفها”. لم تصمد رابطة “كاريتاس” ومعها الأمن العام كثيراً أمام عدسات الكاميرات التي توافدت الى أبواب المفوضية، فرفعت الرابطة يدها عنها، ما أدى أخيراً الى تنفيذ الحكم بالكامل.

إلا أن القضية لم تنته هنا. فهددت الجهات التي وقفت بوجه القضاء بملاحقة بعض الصحافيين ممن تابعوا وكتبوا عن القضية بجرم القدح والذم لاتهامها بمخالفة أحكام القضاء وممارسة التوقيف التعسفي، ووضع بعضهم تهديده موضع التنفيذ. فهددت مثلاً رابطة “كاريتاس” الصحافي عمر نشابة باللجوء الى المحكمة ضده بسبب ما نشره عن القضية وعن رفض الرابطة إطلاق سراح اللاجئة[5]. غير أنها عادت وعدلت عن قرارها هذا. كما تقدم المدير العام للأمن العام السابق بشكوى قدح وذم أمام النيابة العامة التمييزية بوجه الصحافي خالد صاغية، بسبب ما ورد في مقالة نشرها في صحيفة “الأخبار” تتناول قضية اللاجئة العراقية وبالتحديد مسألة عصيان الأمن العام عن تنفيذ الحكم القضائي، حيث كان  صاغية قد أكد أن “ليس هناك من يريد صون القضاء” بل “يريدون كم الأفواه[6].

كما أن القضية أخذت طابعاً أوسع، مع صدور أحكام مماثلة عن قضاة آخرين بخصوص لاجئين آخرين احتُجزوا تعسفاً لفترات وصلت بالنسبة الى البعض الى ثلاث سنوات، أبرزها الأحكام التي أصدرتها القاضيتان ميراي حداد في 28-1-2010 وزلفا الحسن في 8-6-2010. وقد بقي عدد من وسائل الإعلام في هذه الفترات كلها ملتزماً بإبراز هذه الأحكام والمطالبة بتنفيذها طوال سنة 2010[7].

واللافت أنه في موازاة الانخراط الإعلامي في الدفاع عن القضاة المعنيين في هذه القضية والمطالبة بتنفيذ أحكامهم، لزم مرجعان، وهما وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، صمتاً مطبقاً وكأنهما غير معنيين بالقضية. وبالطبع، هذا الصمت يتناقض تماماً مع الحماسة التي غالباً ما يبديها هذان المرجعان دفاعاً عن هيبة القضاء في حال تعرض الإعلام له وبمعزل عما إذا كان التعرض محقاً أو لم يكن كذلك. وأهم من ذلك، لم يتحرك أي من هاتين الجهتين لضمان تنفيذ الأحكام الصادرة في قضايا الاحتجاز التعسفي أو لوضع حد نهائي لجناية التوقيف التعسفي التي مارسها الأمن العام على أعداد كبيرة من اللاجئين ولفترات وصلت أحياناً الى 3 الى 4 سنوات. ومن المهم التذكير هنا بأنه ما بين عامي 2009 و2010 أصدر القضاء ما يقارب 17 حكماً بوجه الإدارة تدينها بممارسة الاحتجاز التعسفي والتعدي على الحرية الشخصية. وقد تم إبراز هذه الأحكام والتنويه بها باستمرار من قبل وسائل إعلام عدة.

وبذلك، شكل الاشتراك في هذه المعركة بين قضاة وإعلاميين تجربة هامة اكتشفوا من خلالها آفاق العمل المشترك بمنأى عن أي دعم رسمي. تجربة تظهر بوضوح أن بإمكان العلاقة بين الإعلام والقضاء أن تخرج عن النمطية الثنائية (الهيبة/الحرية) لتتحد في أنبل ما لهما من وظائف: حماية الفئات الأضعف اجتماعياً في مواجهة السلطات الأكثر نفوذاً. وبالطبع، في المقلب الآخر، كانت هذه السلطات (الأكثر نفوذاً) تكتشف وتسجل مرة أخرى خطورة ما قد يؤدي اليه هذا التشارك الذي كان ولا يزال مكروهاً.  

نشر في العدد الخامس عشر من مجلة المفكرة القانونية  للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا


[1]يراجع، “اللجوء الى الاحتجاز التعسفي، سياسة فوق الدستور” جمعية رواد فرونتيرز، 2010.
[2]جريدة النهار 16/12/2009،جريدة الاخبار 15/9/2009، جريدة السفير 15/1/2010، جريدة صدى البلد 19/1/2010
[3] عمر نشابة، بيسان طي، “لا حرية ليسرى العامري رغم حكم القضاء”، جريدة الاخبار، 16/1/2010
[4] المرجع نفسه.
[5]عمر نشابة، “هيا بنا الى المحكمة”، جريدة الاخبار، 19/1/2010
[6]خالد صاغية، “يسرى العامري”، جريدة الاخبار، 18/1/2010
[7] يراجع، “اللجوء الى الاحتجاز التعسفي، سياسة فوق الدستور”، مذكور أعلاه.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني