تمرّد في ثكنة فخر الدين: سجناء بلا طعام وبلا محاكمة


2021-08-25    |   

تمرّد في ثكنة فخر الدين: سجناء بلا طعام وبلا محاكمة

أمعاء خاوية وأجسام منهكة تملؤها الكدمات هذا هو حال الموقوفين في ثكنة فخر الدين الرملة البيضاء التابع للشرطة العسكرية حسب تأكيدات الأهالي الذين التقوا أبناءهم آخر مّرة الأربعاء. وينقل الأهالي عن أبنائهم أنّهم “بعد انقطاع الخبز لمدّة ثلاثة أيام، بدأ الشبان حركة احتجاجية داخل السجن، فما كان من العناصر العسكرية إلّا أنّ دخلت إلى الغرف، ومن ثمّ لجأت إلى العنف والضرب بالعصي وأعقاب البنادق، الأمر الذي أدّى إلى إصابات في الرأس، الرقبة والظهر”.

تتقاطع رواية الأهالي مع منشور للمحامي محمد صبلوح مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس، على فيسبوك ذكر فيه أنّه في 14 آب اعترض السجناء على عدم تزويدهم بالطعام واحتجّوا عبر القرع على القضبان الحديد بالملاعق، فما كان من العناصر الأمنية إلّا أن دخلت الزنازين واعتدت عليهم بالضرب ما أدّى إلى إصابة بعض السجناء بجروح ورضوض. وقد رفع مركز حقوق السجين شكوى بالواقعة إلى النائب العام التمييزي غسان عويدات.

يأتي هذا الواقع ليزيد من مخاوف الأهالي على مصير أبنائهم داخل السجن حيث يقبعون منذ شهور من دون محاكمة، ويعيد تسليط الضوء على ملفّ التعذيب الذي أثارته نقابتا المحامين وجهات حقوقية خلال الفترة الماضية. كما يفتح الباب للحديث عن تأثير الأزمة الاقتصادية والمالية وأزمة المحروقات على نوع الخدمات داخل السجون اللبنانية ومراكز الاحتجاز والنظارات إضافة إلى طول أمد التوقيف من دون محاكمة.

خائفون على أبنائنا 

تواصلت “المفكرة القانونية” مع عدد من أهالي الموقوفين في ثكنة فخر الدين حيث أجمعوا على التعبير عن مخاوفهم بشأن الوضع الراهن داخل مركز التوقيف بانتظار المحاكمة. فيتحدث عبد الحفيظ شمسين والد الموقوف منذر، أنّ ابنه أوقف قبل عام تقريباً في منطقة المنكوبين، وأنّه نهار السبت الماضي 14 آب، كان على اتصال مع ابنه عبر الهاتف، فسمع أصوات طرطقة وتحطيم داخل السجن، فأبلغه منذر بأنّ هناك حركة احتجاجية داخل السجن بسبب عدم تأمين الخبز منذ ثلاثة أيام، كما أن المياه مقطوعة في دورات المياه وكذلك الكهرباء. وقال منذر لوالده إنّ الكهرباء كانت بدأت في الفترة الأخيرة تنقطع بشكل مستمرّ يصل أحياناً إلى 4 ساعات قبل إلى أن تنقطع نهائياً. وفي اليوم التالي، تواصل الأهل مع ابنهم مجدداً فأخبرهم أنّهم تعرّضوا للضرب على يد العناصر الأمنية في السجن. ويعلّق الوالد: “يمكن للعناصر الأمنية معالجة الأمور في السجن بطرق شتى غير الضرب”، ويضيف: “ابني مصاب بجروح في رأسه ورقبته” ولا بدّ من الكشف عليه وعلى زملائه من قبل طبيب شرعي.

ويقول الوالد إنّ ابنه أخبره أن التغذية سيئة داخل السجن، لذلك حاول الأهل استدراك الوضع من خلال تأمين بعض الأغذية وعلب المعلّبات، كما يلفت إلى أنّ الأهالي حتى بدأوا يلمسون تغيّراً في معاملة القيّمين على السجن من عناصر أمنيين في الشهرين الماضيين.

يقول علي خالد شقيق أحد الموقوفين في الثكنة نفسها إنّه بعد ورود خبر تعرّض الموقوفين للضرب، توجّه الثلاثاء إلى الثكنة للاطمئنان على شقيقه: “كانت نفسيته متعبة وجسمه مدبّغ، ولم يجرؤ على الكشف عن ظهره لأنّ هناك عناصر أمنية في القاعة”. ويتوجّه خالد إلى السلطات الرسمية “تركتموهم من دون محاكمة، ومن دون طعام، أو ماء، وفوق كلّ ذلك تضربونهم”، مؤكداً “الأهالي مستعدّون لتأمين الأكل لأبنائهم صباحاً، ظهراً ومساءً. ولكن أفسحوا لنا المجال لإطعامهم وإشباعهم”. ويعتقد خالد أنّ “المشكلة ليست مشكلة شقيقه أو ثكنة فخر الدين، بل هي معاناة شاملة لكافة السجناء في لبنان ووجوب معاملتهم كبشر، لأنّك إذا لم تطعم القط الذي تربّيه في المنزل، ينفر منك ويرحل، فكيف الحال بالإنسان الذي لديه قدرة تحمّل محدودة؟”.

يوضح خالد أنّ شقيقه موقوف من دون محاكمة منذ 4 أشهر وهو يبلغ من العمر 49 عاماً وهو أب لستة أولاد يعيشون معاناة كبيرة في ظلّ غياب والدهم. ويطالب بتسريع محاكمته و”إن كان مذنباً لتطبّق بحقه العقوبة التي يفرضها القانون. مطلبنا مطلب حق، ولا نخاف من أحد وسنستمر في تحركّاتنا لإنصاف السجناء”.

من جهتها، تتحدّث السيدة فاطمة زوجة عبد الهادي غزاوي عن تعرّضه للضرب داخل السجن، وفقدانه الوعي وسقوطه على الأرض. وتضيف “أنّه تمّ رمي البيبسي والزعتر على الشباب بعد ضربهم”، قائلةً “بدلاً من رميها عليهم، أعطوهم إياها لكي يغتذوا بها”. وتروي فاطمة التي تتواصل باستمرار مع زوجها منذ توقيفه في الأوّل من أيلول 2020 من دون محاكمة. توضح أنّها والدة لثلاثة أطفال، وتعيش مع والدَي زوجها الكبيرين في السن، تعيش على الاستدانة وفاعلي الخير، كما أنّها تحتاج “500 ألف ليرة في كلّ مرة تزور فيها زوجها، لأنّ كلّ شيء غالي، وأجرة الطريق من البدّاوي إلى بيروت تقارب المئة ألف ذهاباً وإياباً”.

تصف فاطمة الحالة القاسية التي تعيشها الأسرة من خلال العودة بالذاكرة قليلاً، “عندما داهمت القوى العسكرية منزلي، جاء قرابة الستين عنصراً، لم تتسع لهم الغرفة التي نعيش فيها، فانتظرت مجموعة كبيرة منهم في الخارج”، فيما يكرر ابنها أمامها “أنّه استيقظ فوجد البنادق في رأسه، فظنّ أنّهم يريدون قتله”. وتكرّر أنّها ليست المرّة الأولى التي يتعرّض فيها للضرب، بل سبق أن تعرّض لذلك في وزارة الدفاع، حيث “قيل له إن لم تعترف سنحضر أمك وزوجتك وأختك إلى هنا وفي منتصف الليل”، فيما تعتبر أنّ “العنف يولّد نقمة لدى المسجون”. تتطلّع فاطمة غزاوي إلى خروج زوجها سالماً من السجن، وأن تتعرّف عليه ابنته الصغيرة لأنّه “سجن بعد شهر من ولادتها”. وتتوجّه إلى القاضية نجاة أبو شقرا (قاضية التحقيق العسكري) أن تنظر في ملفّات الموقوفين وتخلي سبيلهم أو تصدر القرار الظنّي لكي تتمّ محاكمتهم ليتمكّن زوجها من رؤية أهله المرضى وكبار السّن قبل أن يغلبهم نقص الطعام وقلة الرعاية بسبب وضعهم المعيشي المذري وانقطاع الكهرباء والماء “هم لم يستحموا منذ سبعة أيام”.

رد الجيش

تعليقاً على الحادثة، قال مصدر عسكري لـ”المفكرة” إنّه “صحيح أنّ الخبز تأخّر فقد انقطع من منطقة بيروت للعسكر والمساجين مثلما انقطع كلّ المواطنين لذلك اضطررنا لجلب الخبز من أفران الجنوب التي نحن متعاقدون معها. وفي هذه الأثناء جاع المساجين مثلهم مثل العسكر فحصلت حالة تململ بينهم وقاموا بخلع باب السجن وخرجوا ما اضطرّ عناصر الجيش للتصدّي لهم لمنعهم من الخروج من الثكنة، وحصل تضارب وأعيد السجناء إلى داخل السجن”.

وأضاف المصدر أنّ النيابة العامّة العسكرية فتحت تحقيقاً في الحادثة واستجوبت الجنود المناوبين. وعلمت “المفكرة” أن مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ترك الجنود رهن التحقيق.

شكوى لدى النيابة العامّة

إزاء هذه التطوّرات داخل سجن ثكنة فخر الدين، تحرّك المحامي محمد صبلوح مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس بصفته وكيلاً عن أحد السجناء الذين تعرّضوا للضرب يوم وتقدّم بشكوى مرفقة بادّعاء شخصي لدى النيابة العامّة التمييزية بـ”تعذيب الموكّل وتعريضه للأذى والإهمال في علاجه والاستهتار بتأمين أبسط حقوقه وتعذيب السجناء في نفس اليوم”. واستند صبلوح إلى المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تخوّل النائب العام التمييزي صلاحية مراقبة موظفي الضابطة العدلية في نطاق الأعمال التي يقومون بها بوصفهم مساعدين للنيابة العامّة. وأشار في شكواه إلى واقعة “ممارسة أبشع أنواع الإذلال والتعذيب في السجن وبدلاً من علاجه وضعوه في السجن وحرموه من التواصل مع عائلته”، مؤكّداً أنّ “هذه الجريمة تشكّل مخالفة للقانون اللبناني، والاتفاقيات الدولية”. وطالبت الجهة المدّعية بـ إنزال أقصى العقوبات بحق المرتكبين، و”تعيين طبيب شرعي مستقلّ بأقصى سرعة ممكنة للكشف عن الموكل وجميع السجناء الآخرين”.

وتطرّق في الشكوى إلى انقطاع التيار الكهربائي في السجن والنقص في المياه والطعام وسوء الإنارة وعدم تعريض السجناء لأشعة الشمس وسوء الإدارة والقسوة في المعاملة. وفصّل في الشكوى حادثة تعرّض السجناء للضرب بعد احتجاجهم على انقطاع الخبز، وأشار إلى أنّ إدارة السجن لم ترسل أيّاً من السجناء الذين أصيبوا في الحادثة للعلاج ولم تعرضهم على طبيب شرعي وأنّها بدلاً من ذلك منعتهم من الاتّصال بأهاليهم ابتداءً من 16 آب.

ويوضح صبلوح لـ”المفكرة” في اتصال في أنّه تلقّى عدداً كبير من الاتصالات من الأهالي تشير إلى تعرّض أبنائهم للضرب بسبب المطالبة بلقمة العيش، فأرسل كتاباً إلى قيادة الجيش يعلمهم بما جرى من معاملة لاإنسانية وممارسة التعذيب بحق السجناء. وبادر إلى إقامة شكوى أمام النيابة العامّة التمييزية بموجب القانون 65/2017 الذي يلزم النيابة بتعيين طبيب شرعي خلال 24 ساعة من طلب ذلك. يعتقد صبلوح أنّ “القضاء اللبناني والنيابة العامّة التمييزية تحت الاختبار لأنّ هذا القانون ما زال حبراً على ورق، ولا أحد يلتزم بالمهل”.

ينقل صبلوح مشاهداته لدى زيارته السجناء نهار الأربعاء 18 آب، حيث التقى السجناء وعاين آثار الضرب والتعذيب على 3 ممّن التقاهم، وقد أبلغوه بوجود حالات أخرى بعضها لرجال كبار في السن. ويقول إنّه “في حال لم يتجاوب القضاء اللبناني مع مطالب الضحايا، واستمرار المماطلة من خلال تعيين طبيب شرعي بعد مرور أكثر من 7 أيام على الواقعة من أجل محو آثار التعذيب، فإنّه بعد توثيق الحالات، سيلجأ إلى المراجع المختصّة في الأمم المتحدة من أجل إدانة لبنان بسبب استمرار انتهاكات حقوق الإنسان وتغطيتها من قبل القضاء اللبناني”.

وبالفعل، يقول صبلوح إنّ النائب العام التمييزي (غسان عويدات) أحال الشكوى إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (فادي عقيقي)، وحتى اليوم، أي بعد مرور ما يزيد عن الأسبوع على ذلك، لم تصل إلى المفوّض بحجّة تأسيس ملف الدعوى لدى النيابة العامّة العسكرية، علماً أنّ البت بطلب تعيين طبيب شرعي يجب أن يتم خلال 24 ساعة من تاريخ التقدّم به.

يطالب صبلوح بالانتقال من سياسة التعذيب والضرب، إلى اعتماد سياسة تأهيل السجين لعدم دفعه نحو العنف والتطرّف نتيجة الممارسات الخاطئة لدى الأجهزة الأمنية والقضاء. ويتطرّق صبلوح إلى مسألة “عدم قدرة وزارة الدفاع أو الداخلية على تأمين متطلّبات السجن وأبسط حقوق السجناء، والكثير من السجناء يتعرّضون للاختناق بسبب الاكتظاظ داخل السجون، ويعيشون من دون إضاءة لعدم توفّر المال لشراء لمبات”، كما تعجز الدولة عن تأمين تكاليف الاستشفاء “هناك مريض يئنّ من الوجع داخل السجن، يحتاج إلى عملية وصل أمعاء، وقد طالبه مستشفى ضهر الباشق بـ2500 دولار كاش لمعالجته لأنّ وزارة الداخلية غير قادرة على تغطية النفقات”. كما يطالب الجهات الرسمية بالتوقف عن المكابرة والاعتراف بعدم القدرة على تأمين الطعام للسجناء لأنّه “يتم تقديم كميات ضئيلة بسبب عدم القدرة على تأمينه”، معبّراً عن “استعداد المجتمع المدني ونقابات المحامين لجمع المساعدات من أهل الخير وتأمين الطعام لوقف الموت البطيء داخل السجون”.

تم تحديث هذه المقالة بعد نشرها من أجل إزالة إسم أحد المساجين حماية لخصوصيته.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، محاكم جزائية ، قرارات قضائية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني