استغاثات رومية (2): كل الطرق هنا تؤدي إلى الموت


2022-10-28    |   

استغاثات رومية (2): كل الطرق هنا تؤدي إلى الموت

لا يزال عدّاد الوفيات في السجون التابعة لقوى الأمن الداخلي يسجّل أرقاماً جديدة، فحين بدأنا العمل على هذا التحقيق في أواخر آب سجّل العدّاد 17 وفاة في السجون، أما اليوم فارتفع الرقم إلى 19 مع وفاة محمود قطايا (٣٦ عاماً) يوم الجمعة 21 تشرين الأول في سجن رومية ووفاة الأربعيني حسين الفتوح في القبة في 24 تشرين الأول.

 في الجزء الأول من هذا التحقيق حاولنا رسم واقع الرعاية الصحية في رومية بناء على مصادر عدة سواء جهات رسمية أو الأهالي أو معنيين بشؤون السجون وأسباب الوفيات وكذلك مشكلة الاكتظاظ وأسبابها والحلول الممكنة لها. في الجزء الثاني سنعرض بعضاً من قصص الضحايا الـ 18 الذين فقدوا حياتهم داخل سجوننا.

19 مسجوناً توفوا هذا العام

صرّح مصدر قوى الأمن الداخلي أنّ أعداد السجناء المتوفّين في لبنان هذا العام هو 17 شخصاً وجاء تصريحه قبل وفاة محمود قطايا وحسين فتوح. والعدد يشمل سجن القبّة ورومية وثكنة فخر الدين. وتؤكد نائبة رئيس جمعية أهالي السجناء رائدة الصلح الرقم وترجّح في الوقت نفسه أن يكون الرقم أعلى “بسبب وجود حالات أخرى لا نعرف بها ولا يتم التصريح بشأنها”.

بالنسبة لأهالي السجناء والموقوفين فإنّ الأرقام مرعبة، بخاصّة وأنّ عدداً من حالات الوفاة حصلت خلال فترة زمنية قصيرة. وتمكّنت “المفكرة” من معرفة أسماء بعض المتوفين: سبعة توفوا في شهر شباط وحده في رومية وهم: إيلي مسلّم (سجن المحكومين)، رياض حريراتي (60 عاماً) توفي في المركز الطبي في رومية في 9 شباط، إبراهيم طويريج في 11 شباط، طارق أبو العينين (المبنى دال) في 14 شباط، يوسف الحسن فتوني في 18 شباط، غسّان صليبي في 25 شباط، أحمد فنّاس في 26 شباط.

وتوفي يوسف حسن في ثكنة فخر الدين في 18 شباط.  وفي أيار توفي محمد قطيش في المأوى الاحترازي. وفي شهر آب 2022 توفي السجين خليل يوسف طالب في المبنى دال، وصلاح حيدر توفي في مبنى الأحداث وسجين ثالث نقل أحد الموقوفين أنّه توفي خلال إشكال بين السجناء.

أهالي المتوفين: “كان بالإمكان إنقاذ أبنائنا”

توفي قبل نقله إلى المستشفى

المحكوم صلاح حيدر الذي كان يعاني من مرض جلدي منذ الولادة تطوّرت حالته في السجن بحسب شقيقته يُسر بسبب انعدام النظافة وسوء التغذيّة. تقول يُسر لـ “المفكرة”: “اتصل بي أخي وطلب منّي أن أدفع لمستشفى الحياة تكاليف دخوله المستشفى، فتوجهت في اليوم التالي ودفعت مليونين ونصف المليون ليرة في 16 آب لقسم الطوارئ من ثم أبلغت إدارة السجن”. لكن  تلفت يُسر إلى أنّ “وضع أخي ساء جداً، وعلمت من زملائه الّذين اتصلوا بي أنّ جلده بدأ ينزف وجسمه تحوّل إلى اللون الأزرق ولم يعد قادراً على الحركة”. وتقول إنّه مرّت أربعة أيّام من دفعها للمستشفى من دون أن يتمّ نقله وحين سألت: “شرح لي زملاؤه أنّهم أخذوه إلى المركز الصحّي لكن قالوا له روح ارتاح اليوم بكرا منّزلك على المستشفى”. وفي 22 آب اتصل زميل صلاح بيُسر وقال لها إنّ وضع أخيها سيئ وتمّ نقله إلى المستشفى من دون تحديد أي مستشفى. تقول يُسر: “علمت لاحقاً أنّه كان متوفياً حين اتصلوا بي، لكن لم يعلموني كي لا أُصدم”. بعدها تواصلت يُسر مع إدارة السجن لمعرفة مكان وجود شقيقها لكنّ بحسب قولها، “لم يردوا على اتصالاتي المتكررة، فذهبت أبحث من مستشفى إلى آخر عن مكانه، حتى اتّصلت مستشفى ضهر الباشق بي وأعلموني أنّه عندهم”. تقول يُسر: “مستشفى ضهر الباشق تبعد مسافة خمس دقائق عن سجن رومية، كان بإمكانهم نقله إليها من دون حاجة إلى الكثير من المحروقات”.

المصدر الأمني يرد على فرضية أن يكون صلاح توفي جرّاء تقصير أو إهمال مشيراً إلى أنّ صلاح كان يتلقى الرعاية الصحية ويوجد تقارير تُفيد بذلك، وكان قد سبق ونُقل إلى المستشفى بسبب التهابات جلديّة، وخلال جائحة كورونا تم عزله لحمايته، كما خضع في العام 2021 لفحوصات طبيّة. وعن وفاته، يشرح المصدر أنّ إدارة السجن طلبت من شقيقته دفع المبلغ المالي لنقله، وجرى ذلك، وكان موعد الحجز الذي حددته المستشفى 23 آب، في حين توفّي صلاح في 22 من جرّاء توّقف قلبه.

صلاح حيدر

دخل السجن ليمرض ويموت

لم تمر سوى ستّة أشهر على توقيف أحمد فنّاس (40 عاماً) في سجن رومية حتّى أُصيب بعدوى جرثوميّة تُصيب الجلد ممّا أدّى إلى نقله إلى المستشفى بعد معاناته من أوجاع شديدة. بحسب شقيقه محمود فإنّ “وضع أحمد المالي كان صعباً قبل توقيفه إذ كان يعمل في السمكريّة ومدخوله متواضع، فورّط نفسه في بيع مسدس وسلاح حربي ليكسب بعض المال”. ويُضيف: “الظروف الماليّة دفعته للمخاطرة ولكنّ النيابة العامّة العسكريّة ادّعت عليه بالإرهاب”. يروي محمود  لـ “المفكرة” ما حصل مع أحمد في رومية مشيراً إلى أنّ “أحمد التقط عدوى جرثوميّة  في جلده وهو في السجن وبدأ يعاني من التهاب وأوجاع شديدة حتّى تم نقله إلى المستشفى بعدما ساءت حالته”. ويضيف “طلب المستشفى منّا شراء إبر خاصّة بحالته وكانت هذه الإبر مقطوعة من الصيدليات بقينا لأيام نبحث عنها، وبعد بحث وجدتها في النبطية وتمّ إعطاؤه إياها في المستشفى وتحسّنت حالته”. ويلفت محمود إلى أنّه  “تكفل بكافة التكاليف من دواء ومستشفى وقد دفعت إدارة السجن أجرة السرير فقط”.

انتكس أحمد بسبب إصابته بفيروس كورونا في المستشفى بحسب شقيقه، وبقي لنحو شهرين طريح الفراش. وأدّت المضاعفات التي عانى منها أحمد إلى وفاته في 26 شباط.

يجد محمود أنّ الاكتظاظ في رومية وانعدام النظافة كانا السبب ليلتقط شقيقه العدوى في الجلد وليعود ويتدهور وضعه بعدما التقط عدوى كورونا. ويُشير إلى أنّ أحمد كان دائماً يشكو أمامه من عدم ارتياحه في السجن وامتناعه عن تناول الطعام هناك كما استيائه من انعدام النظافة. ويُضيف، “أحمد كان يطلب منّي شراء الماء والطعام له لأنّه لم يحتمل استخدام الماء والطعام المتواجدين في السجن”. ويقول: “السجن هو للنوم فقط أمّا الطبابة والأكل هو على حساب أهل السجين”.

أحمد فنّاس

تأخّر تأمين المال للعمليّة

في شباط توفي غسّان صليبي (خمسيني) في سجن رومية بعد معاناته من ارتخاء في الصمام التاجي في القلب، وبحسب المحامي محمد صبلوح، فإنّ صليبي كان يحتاج لعمليّة جراحيّة طارئة بكلفة 7500 دولار. وقام بعض الأهالي بحملة لجمع تبرّعات له، ممّا أخّره أشهراً عن موعد العملية التي كان من المفترض أن يجريها في كانون الأول 2021، ولكن لم يجرِها سوى في شباط الماضي حين تمكّن الأهالي من تأمين المبلغ. وقد توفّي غسّان خلال إجرائها في مستشفى رفيق الحريري الحكومي.

وفيات أخرى   

أما في السجون الأخرى، ومراكز التوقيف، فقد توفي الموقوف نضال بربور يوم الثلاثاء 13 أيلول في سجن القبة لأسباب نسبتها عائلته إلى “إهمال إدارة السجن لطلباته المتكررة للرعاية الصحية” مع العلم أنّ إدارة السجن أنكرت ذلك مشيرةً إلى أنّه جرى إسعافه خلال 20 دقيقة. وأشارت الوثيقة الصادرة عن مستشفى طرابلس الحكومي التي نُقل إليها الموقوف أنّه “وصل متوفياً إلى المستشفى وأنّ أسباب الوفاة توقف في القلب والتنفس”. وكانت “المفكرة القانونيّة” قد تابعت وضع سجن القبّة بعد وفاة الموقوف، وتبين “غياب المعاينة الطبية عن إجراءات دخول السجناء الجدد، وشغور منصب أحد الأطباء الثلاثة المناوبين بسبب استقالة أحدهم.

كذلك توفي الموقوف بشار عبد السعود في 31 آب خلال التحقيق معه في مركز أمن الدولة في بنت جبيل بعد تعرّضه للتعذيب، وقد طالبت “المفكرة” ومنظمات أخرى نقل التحقيق حول تعذيبه ووفاته من القضاء العسكري إلى القضاء العدلي لضمان التحقيق العادل في قضيته.

يقلّل المصدر من المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي من أهميّة عدد المتوفين خلال العام 2022 معتبراً أنّه لا يقلّ عن السنة السابقة. ويؤكد أنّ نسبة الوفيّات في العام 2021 هي ثلاثة ونصف بالألف فيما هذا العام لم تتخطى الثلاثة بالألف، مشيراً إلى أنّ حالات الوفاة خارج سجن رومية أي في لبنان هي 4.4 بالألف. كما اعتبر أنّ وضع المرضى في رومية أفضل من وضع المرضى خارج السجن، وأنّ الوفيات في السجن أقل بكثير من الوفيات في لبنان.

وزير الداخليّة قال في حديث تلفزيوني “إنّنا نحقق في كل حالة وفاة تحدث داخل أي سجن وكل الحالات الطارئة تُنقل الى المستشفى”، إلّا أنّ الأهالي وبخاصّة ذوي المتوفّين الّذين تواصلت معهم “المفكرة القانونية يفيدون بأنّ مُعظم حالات الوفاة تُنسب لأسباب طبيعية كالنوبة القلبيّة والجلطة الدماغيّة وأنّه “لا يُفتح أي تحقيق دقيق لفهم الأسباب التي أدّت إلى الوفاة”، وهو أمر يُقرّ به المصدر الأمني إنما يُعيده إلى “رفض الأهالي تشريح الجثة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة”. 

وأكد عدد من أهالي السجناء المتوفين الّذين قابلتهم “المفكرة” أنّه لم يسألهم أحد عن رغبتهم في تشريح جثة أبنائهم المتوفين. وقال المحامي محمد صبلوح إنّه في حال طُلب من الأهل تشريح الجثة ورفضوا، يحصل ذلك بصورة خطية وليس شفهياً، ما يعني أنّه في حال رفض الأهل فإنّه يوجد مستند خطّي بهذا الرفض.

أخاف أن يموت ابني في السجن

لا تختلف مواقف أهالي السجناء عن بعضهم البعض، الأمهات التي تواصلت معهنّ “المفكرة” يجتمعن على المخاوف نفسها، وهي سوء التغذية في السجن وقلّة النظافة والأمراض التي تنتقل بالعدوى، والصحّة النفسيّة لأبنائهن كما الوضع المادي الصعب الذي تعانيه معظم عائلات المساجين و الأكلاف العالية التي يتحمّلونها لتأمين كلفة الطعام والطبابة. وعبارة موحّدة يكررها جميع أهالي السجناء، وهي “نخاف على أبنائنا من التحوّل إلى مجرمين في السجن أو أن يخرجوا أمواتاً وكأنّ حكم الإعدام صدر بحقهم”.

أم أحمد (اسم مستعار) لديها ابن عمره 21 عاماً، دخل السجن وهو قاصر لأنّه حمل جريمة لم يرتكبها بحسب قولها، بعدما أقنعه أصدقاؤه أنّه قاصر ولن يُحاكم إذا تحمّل الجريمة وحده. كانت أم أحمد تخشى أن يؤذي ابنها نفسه بسبب الوضع النفسي الصعب الذي يمر به في مبنى الأحداث في سجن رومية. تقول: “أصبح هزيلاً جداً وزنه 40 كيلو، منذ عامين ونصف وهو يعاني، آخر مرّة زرته كان يبكي بشدّة ويطلب مني إخراجه من السجن”. وتُضيف: “اهترأت أسنانه من سوء التغذية، هو شاب صغير وأسنانه لا تعينه ليأكل، وحين لجأت لطبيب الأسنان في السجن طلب منّي ألفي دولار، كيف لي أن أحمل هذا المبلغ وأنا أصلاً قلّصت عدد زياراتي للسجن بسبب غلاء كلفة المواصلات؟”. وقد حصل ما كانت تخشاه الوالدة “ذات مرّة خلّصه زملاؤه من المشنقة حين كان يحاول الانتحار، ومرّة أخرى شقّ يده بالسكين من الكوع إلى المعصم وتمّ نقله إلى المستشفى”. وتستذكر الحادثة بصوت مخنوق: “حين أعادوه إلى السجن، نزلو فيه خبيط حتى فقد الوعي”.

تعتبر أم أحمد أنّ المعاملة التي يتلقاها سجناء رومية غير إنسانيّة وأحياناً كيدية، “قبل أسبوعين اعتصمنا نحن أهالي السجناء أمام السراي الحكومي تزامناً مع إعلان سجناء رومية الإضراب عن الطعام، ولاحقاً بعد الاعتصام دخلت القوى الأمنيّة إلى زنزانات السجناء وقاموا بتعنيفهم وإجبارهم على خلع ملابسهم وكسروا جميع مقتنياتهم مثل المراوح والغاز وغيرها كما سحبوا الهواتف الخليوية المخبأة” بحسب أم أحمد. وتقول: “بتنا نخاف من الكلام حتى لا ينتقموا من أبنائنا في السجن”.

في الآونة الأخيرة قلّت زيارات الأهالي لأبنائهم في السجون بسبب ارتفاع تكلفة التنقلات، باتوا ينتظرون الاتصالات من أبنائهم بفارغ الصبر لمعرفة أحوالهم في السجن.

تشرح والدة أحد السجناء وهي سيدة سبعينيّة أنّ الزيارات إلى رومية باتت عملاً شاقّاً، فجزء كبير من الأهالي يعيشون في مناطق بعيدة عن السجن، هذا غير أنّه “حين نصل نخضع لتفتيش دقيق وكأننا نهرّب شيئاً معنا”. وتُضيف الوالدة: “ننتظر لساعات بالدور لنتمكن من الدخول، لا يوجد حمامات وبعض منّا مُصاب بالسكري ويحتاج دخول الحمام بشكل متكرّر”. وبلغ الأمر بها أن “لبست حفاضاً تحسّباً من عدم تمكّني من الصمود لدخول الحمّام، وحين وصلت إلى التفتيش لمست المفتشة منطقتي الحميمة وشعرت بالحفاض وأرغمتني على خلعه”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني