استئناف بيروت تأذن بملاحقة سمسرة العدل (2): دروسٌ عن الفساد في جسميْ العدالة


2021-06-09    |   

استئناف بيروت تأذن بملاحقة سمسرة العدل (2): دروسٌ عن الفساد في جسميْ العدالة
رسم عثمان سلمي

بعد تأخير غير مبرّر لخمس سنوات ونصف السنة، باشرت النيابة العامّة الاستئنافية ملاحقة المحامييْن ماغي وزني وزوجها وسيم شعر في ما اصطلح على تسميته قضية سمسرة العدل. ويُنتظر أن يتمّ استجوابهما في تاريخ 15 حزيران المقبل. وما أمكن هذا الأمر أن يحصل إلّا بعدما فسختْ محكمة استئناف بيروت قرار نقابة المحامين بحجب إذن الملاحقة في أوائل هذا الشهر. وإذ تعلّمنا هذه القضيّة الكثير عن آليّات السّمسرة القضائية وعن شبكات المصالح المكونة من قضاة ومحامين خلافاً للسردية النمطية التي غالباً ما تحصر الفساد القضائي في القضاة دون المحامين وتغيّب الروابط فيما بينهم، فإنّها تفتح نقاشاً واسعاً حول آلية أخرى من آليات الإفلات من العقاب: حصانة المحامين. ففي حين وُجدت هذه الحصانة لضمان المحاكمة العادلة، تتيح لنا هذه القضية معاينة قضية استُخدمت فيها الحصانة كأداة لهدمها. في الحلقة الأولى من هذه المقالة، تحدّثنا مطوّلاً عن مقاربة النقابة لحصانة المحامين. وفي هذه الحلقة الثانية نتناول الدروس التي تعلّمنا إياها هذه القضية حول الفساد في جسميْ العدالة (المحرر).         

تصلُح هذه القضيّة كنموذج مُشبع بالدُّروس حول ممارسات الفساد القضائيّ، وأيضاً حول مدى فعاليّة المؤسّسات القائمة في مكافحته أو وضع حدٍّ له. وإذْ يُؤكِّد هذا النّموذج تصوّراتٍ نمطية بشأن مؤسّسات العدالة وبخاصّة لجهة تخاذل الأجهزة المخوّلة مكافحة الفساد داخل جسميْ القضاء والمحامين، فإنّ بعضها الآخر يبدو مُناقضاً لهذه التصوّرات. أهمّ الدروس التي ذهبتْ في هذا الاتجاه، هو ما تظهره هذه الحالة من ارتباط عضويّ بين فساد القضاة وفساد المحامين، وذلك خلافاً للرواية التي غالباً ما تُركِّز على الفواصل بين هذين الجسميْن أو تختزل الفساد القضائيّ بفساد القضاة.  

ابحثوا عن شبكات المصالح   

أوّل مشاهد الحادثة، محاميان وهما زوجان يجلسان مع الكاتب العدل ويسعيان إلى إقناعه بقوّة الروابط بينهما وبين القاضي الناظر في قضيته (بلال وزنة) وصولاً لإقناعه بضرورة توكيلهما. وعدا عن كون القاضي عمّ المحامية، فهو على صلة وثيقة بهما حيث تمّ بفضله حفظ شكوى قُدّمت ضدهما مشابهة للشكوى المقدّمة ضدّ الكاتب العدل (إتجار بالبشر). يحصل أيضاً خلال المشهد نفسه أن يتّصل القاضي بالمحامي الذي يسارع إلى تلقّي المكالمة والتحدّث إليه بصوت مسموع في مسعى لإفهام الكاتب العدل قوّة الروابط والتواصل المثمر بينهما. فإذا تمّ ذلك، أمكن للمحامييْن إذ ذاك الانتقال إلى المشهد الثاني الذي يتمثل في تخيير الكاتب العدل بين أمرين: إمّا توكيلهما للمدافعة عنه في قضيّته فيتمّ مؤكّداً إنهاؤها لصالحه بصورة فوريّة، وإمّا عدم توكيلهما فيها فيتمّ مؤكّداً إصدار قرار ضدّه. هكذا بكلّ بساطة. وتزداد الشُّبهة حول ارتكاب صرف نفوذ حين نعرف أنّ المبلغ الذي اشترطاه لقبول التوكّل هو مائة وخمسين ألف دولار أميركي مع رفضهما الكُلّي إعطاء أيّ معلومة حول أساليب الدّفاع التي سيعتمدونها. 

وفي حين تلفت هذه الأحداث الانتباه إلى الروابط العائلية القائمة بين العديد من القضاة والمحامين والتي من شأنها أن تُسهِّل أعمال الفساد القضائيّ في القضايا المطروحة، فإنّ متابعة إجراءات الملاحقة والمساءلة في كلا الجسميْن تظهر أنّ هذا النوع من الشبكات (العائلية) يبقى قاصراً عن حماية المُنخرطين فيها ما لم يتفرّع عنها امتدادات إلى شبكات مصالح أوسع وأكثر قوّة، هي تحديداً شبكات حزبيّة متجذّرة في الهيئات المعنية بإدارة شؤون المحامين أو القضاة أو مساءلتهم. وهذا ما نجدُهُ في هذه القضية، حيث ينشط كلا الزوجان في إطار حزب من أحزاب السلطة، الزوجة في حركة أمل والزوج في تيار المستقبل.  

صرف النفوذ أو المنافسة غير المشروعة بين المحامين  

الدّرس الثّاني قوامه أنّ مفاعيل انخراط محامين في شبكات المصالح (والفساد) تؤثّر ليس فقط على زبائنهم أو أخصامهم أو الحق العامّ، ولكنها تؤثّر أيضاً وربّما بالدرجة الأولى على زملائِهم الذين هم في موقع منافسة أو مخاصمة. فالعَرضُ الذي قدَّمهُ المحاميان للكاتب العدل بتوكيلهما مقابل نتيجة مضمونة بفعل ما لديْهما من نفوذ واضح لدى القاضي، ترافَقَ مع تحذيره من الاستمرار في التَّعامل مع الوكيل غير النّافذ الذي كان اختاره، بما يمهِّد حسب المحامييْن لإدانة شبه أكيدة. ومن البدهي أنّ المحامييْن مارسا بفعل هذا العرْض ما جاز وصفه “منافسة غير مشروعة”، طالما أنّهما لم يتورّعا عن استخدام وسائل غير قانونيّة لخدمة المُتقاضين، بما يُعطيهما أولويّةً بالنسبة لسائر المحامين الذين يمتنعون عن استخدام هذه الوسائل أو ليس بمقدورهم القيام بذلك. وبالطّبع، العرض الذي قدَّمَهُ هذان المحاميان ليس فريداً من نوعه بل يعكس ممارسةً راجت وتنامَتْ بفعل نشوء شبكات المصالح والفساد داخل العدلية وتناميها، وبخاصّة في ظلّ تقاعس الأجهزة المخوّلة محاسبة القضاة أو المحامين المنخرطين في هذه الشبكات. ومن شأن هذا الأمر أن يُظهّر بوضوح الغبن الواقع بين المحامين وفق انتماءاتهم وارتباطاتهم وأيضا تفاوت الأسلحة المُستخدمة منهم، بما يتعارض مع “مبدأ تعادل الأسلحة” الذي هو شرط للمحاكمة العادلة. ومؤدّى كل ذلك هو تظهير المحامي المُنخرط في شبكات المصالح على أنّه محامٍ قدير في موازاة تظهير من ليس كذلك على أنّه ذو قدرات محدودة وغير مؤهّل للتوكّل في القضايا الشائكة أو الهامّة. 

وندرك هنا نتائج مشابهة لما توصّلنا إليه عند النّظر في الممارسات المُعتمدة لإجراء التشكيلات القضائية وبخاصّة لجهة تأثيراتها على القضاة وتصوّرهم لأخلاقيّاتهم. فتماماً كما يؤدّي تدخّل قوى الحكم في التشكيلات القضائية إلى ربط الارتقاء المهنيّ للقضاة بمدى قربهم من القوى السياسية وتالياً بمدى ابتعادهم عن أخلاقيات الاستقلالية، كذلك يؤدّي سواد شبكات المصالح والمنافسة غير المشروعة إلى ربط النجاح المهني للمحامين بمدى انخراطهم في هذه الشبكات وتالياً بمدى ابتعادهم عن أخلاقيّات المهنة وآدابها والتي تفترض الأمانة والصدق في ممارسة حقّ الدفاع. وتماماً كما يصبح المسار المهنيّ للقضاة بمثابة دعوة مستمرّة لهم لتوثيق أواصر علاقاتهم مع القوى السياسية النافذة والتنازل عن أخلاقياتهم بما تفترضه من استقلالية وتجرّد، كذلك يصبح المسار المهني للمحامين بمثابة دعوة مستمرة للانخراط في شبكات المصالح والفساد وهو الانخراط الذي يصبح مرادفاً للنجاح المهني. في المقابل، على أيّ قاضٍ أو محامٍ يتمسّك بأخلاقيات مهنته أن يلازم محله ولا يتطوّر بفعل تصلبه “الحنبلي” وانسلاخه عن الواقع.

فشل مساءلة الفساد القضائي

الدرس الثالث يتّصل بمدى فعالية المؤسّسات المعنيّة في مساءلة مخالفات العاملين في المهن القانونية. وهنا، نكتفي بتسجيل عدد من الملاحظات: 

أوّلاً، على صعيد مساءلة المحامين، برّرت النقابة قرارها بحجب الإذن عن ملاحقة المحامييْن بأنّه تمّ إحالتهما إلى المجلس التأديبي. لكن، رغم انقضاء خمس سنوات ونصف السنة منذ ذلك الإعلان عن ذلك، لم يتسرّب أيّ شيء عن إجراءات تأديبهما بفعل خضوع تأديب المحامين كما القضاة للسرّية التامّة. لكن من البيّن أنّ المحامييْن المذكورين ما زالا يُمارسان المهنة، بما يعني أنّهما أفلتا بأقلّ تقدير من أيّ عقاب يحدّ من حقّهما في ممارسة المهنة وعملياً من أيّ عقاب يتناسب مع خطورة الفعل المعزو لهما. وما يعزّز هذا الاعتقاد هو تمسُّك بعض أعضاء مجلس النقابة حتى الرمق الأخير بالدفاع عنهما أمام محكمة استئناف بيروت كما سبق بيانه في الحلقة الأولى من هذه المقالة. ويُرجّح أن يكون توجّه نقابة المحامين إلى تحصينها حيال الملاحقة الجزائية مرتبطاً بانتمائهما الحزبي ونشاطهما في انتخابات النقابة، حيث أنّ الزوجة ناشطة في حركة أمل، وزوجها ناشط في تيار المستقبل كما سبق بيانه.  

ثانياً، على صعيد محكمة استئناف بيروت الناظرة في الطعن المقدّم ضدّ حجب الإذن عن ملاحقتهما، استغرقتْ الدعوى أمامها مدة خمس سنوات ونصف السنة، قبلما يصبح بإمكان النيابة العامّة أن تباشر الدعوى التي يفترض أن تستغرق بدورها سنوات طويلة، من دون أن يوقف هذان المحاميان عن مزاولة المهنة. كما كشفت هذه القضية عن الدور السّلبي الذي يؤدّيه تواجد ممثليْ مجلس النقابة في هيئة المحكمة. فعدا عن تناقض المصالح البيّن بفعل اشتراكهما السابق في اتّخاذ القرار المطعون فيه، فإنّ رأيهما جاء بمثابة موقف نقابي من دون أن يكبّدا نفسيْهما مناقشة ما خالفا المحكمة عليه بما أبرزته من معطيات وأدلّة. ومن هنا أهمية إعادة النظر في تكوين هذه المحكمة.    

ثالثاً، على صعيد محاسبة القاضي المعنيّ بهذه القضية، فقد صدر حكم تأديبيّ ابتدائيّ بصرفه من الخدمة في نيسان 2019، وقد تسرّب الحكم إلى الإعلام خلافاً للأصول القانونية. وفي حين أنّ الأجهزة القضائية تكون اتّخذت خطوات أكثر تقدّماً من الخطوات المتّخذة في نقابة المحامين، إلّا أنّ المحاسبة هنا أيضاً تبقى قاصرةً لأسباب ثلاثة: (1) أنّ العقوبة التأديبيّة تمثّلت في صرفه من الخدمة وليس عزله، ممّا يحفظ للقاضي حقّ قبض تعويضات نهاية خدمته كاملة، وهذا أمرٌ يبدو غير متناسب مع خطورة الأفعال المعزوة إليه في حال ثبتَتْ صحّتها. و(2) إذ استأنف القاضي الحكم أمام الهيئة العليا للتأديب منذ أكثر من سنتين، لا نعرف شيئاً عن المرحلة التي وصلت إليها المحاكمة أمام هذه الهيئة بفعل سرّية الإجراءات، و(3) أنّه ما زال يزاول أعماله رغم الارتياب المشروع بحياديّته ونزاهته، والناتج عن الأفعال المنسوبة له في فيديو شهده وسمعه الرأي العام وصدور حكم تأديبي بصرفه من الخدمة. ومن شأن هذا الأمر أن ينعكس سلباً على عمل القضاء ولكن أيضاً على شعور المتقاضين بالطمأنينة في الملفات التي ينظر فيها. وقد أمكن ذلك بعدما امتنعتْ هيئة التفتيش القضائي عن توصية وزارة العدل بوقفه عن العمل. 

هذا ما أمكن قوله بشأن هذه القضية التي يصلح أن تكون مدخلاً لإطلاق ورشة إصلاح شامل في قطاع العدالة، ورشة يؤمل أن تنتهي إلى تجديد ثقافي وأخلاقي يترافق مع إصلاحات قانونية جذريّة. فلنتابع…

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، محاكم جزائية ، مؤسسات عامة ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني