ارتياب كاريكاتوري في قضية النافعة: لهذه الأسباب رفضت استئناف بعبدا تنحية الخطيب


2022-11-28    |   

ارتياب كاريكاتوري في قضية النافعة: لهذه الأسباب رفضت استئناف بعبدا تنحية الخطيب

بتاريخ 24/11/2022، ردّت محكمة استئناف بيروت طلب الردّ المُقدّم لديها في قضية فساد النافعة. وكان المحامي مروان ضاهر وكيل المديرة العامّة لهيئة السّير (وضمنها النافعة) هدى سلوم قدّم هذا الطلب في 21/11/2022 بوجه المحامية العامة في النيابة العامة في جبل لبنان نازك الخطيب. وقد استعاد الطلب بشكل تفصيلي ما كان ورد في بيان مجلس نقابة المحامين في طرابلس الصادر غداة توقيف سلّوم. كما يلحظ أن وكيل هذه الأخيرة عمد في موازاة ذلك إلى تقديم دعوى ثانية هي دعوى مخاصمة الدّولة على خلفية نفس المخالفات أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز. ومن أبرز أسناد دعوى الردّ أن القاضية الخطيب وجّهت كلمات قاسية لسلوم ووكيلها وتابعت التحقيقات رغم غياب الكاتب وبصورة تعكس تحيّزا واضحا وكأنها اتخذت منذ بدء التحقيق الموقف الواضح ضدّ السيّدة سلّوم وينتْ مجمل التحقيقات على مواقف ووجهة محددة مسبقا أو رأي مسبق. ومن المخالفات المُدلى بها أيضا، إجراء تحقيقات خارج نطاق قصر العدل في مركز المديرية العامة لقوى الأمن. ومنها أيضا خرق سريّة التحقيق وتسريب معلومات هامّة وأساسيّة تتّصل بمراحل التحقيق، كان يُفترض أن تبقى وفق طالبة الردّ حبيسة جدران قصر العدل وضمن مكنونات القاضي. وقد ذهبت هذه الأخيرة إلى حدّ القول بأن هذه التحقيقات كانت تجري “ضمن مواكبة وسائل الإعلام”. وعليه، لخّصت المحكمة أسباب الردّ بصورة معبّرة “بأنها تمحورت حول مؤشرات واستنتاجات وأسباب ومواقف ونوايا وانحياز واضح وكأنّنا بالقاضي المطلوب ردّه لا عمل له هنا سوى المسارعة لاتّخاذ الموقف ضدّ المدعية (سلوم)”. وقد بدتْ المحكمة من خلال ذلك وكأنّها تبرز وجها كاريكاتوريا للطلب، موحية بأن طالبة الردّ لا تستطيع فهم اجتهاد القاضي على أنه اضطلاع بواجب مجرد عن أي مصلحة ولا تستطيع فهم إرادة التحقيق معها أو بشأن مسؤوليتها إلا على أنه استهداف لشخصها. 

فإذا صرّحت بذلك، بدتْ المحكمة وكأنها ترجع خطوتيْن إلى الوراء لإعادة تذكير طالبة الردّ ببديهيّات العمل القضائيّ السليم بما يظهّر أكثر فأكثر الطابع الكاريكاتوري لطلبها وما يعكسه من فهمٍ ملتبس وهجين للعمل القضائي وحدوده، وبشكل أعمّ لمفهوم المساءلة.

فهي ذكّرت أولا أنّه من المفترض أن يقوم القاضي “بعمله بشكل جدي” وأن يقرن “الجديّة بروح المسؤولية” من خلال اللجوء إلى كلّ وسائل التحقيق سعيا لبلورة النتائج النهائية أو تمهيدا لإصدار القرارات والإجراءات القانونية الواجبة. بمعنى أن تصرّف القاضي على هذا الوجه إنّما هو أمر طبيعيّ يُستنتج منه أن القاضي يقوم بعمله كما يجب ولا يمكن أن يستنتج منه أبدا خروجه عن موجب التحفظ أو اتخاذه موقفا مسبقا من المدعية. وأنه لو كانت هذه التبريرات كافية لقبول طلبات الردّ لفتح ذلك الباب أمام ردّ كلّ قاضٍ يقوم بواجبه لجهة اللجوء لكلّ وسائل التحقيق سعيا لبلورة النتائج النهائية أو تمهيدا لإصدار القرارات والإجراءات القانونية الواجبة.

كما ذكرت ثانيا أن مواكبة الإعلام المحلّي تطورات التحقيق في ملفّات كهذه هي الأخرى أمور تفسّرها ظروف وقواعد العمل الإعلاميّ ولا يستشفّ منها أبدا بحدّ ذاتها خروج القاضي عن موجب التحفّظ أو إفشاء سرّ التحقيق.

فإذا أنهتْ المحكمة التذكير ببديهيات العمل القضائي والعمل الإعلامي، خلصت إلى توصيف دعوى الردّ على أنها لا تعدو كونها مجموعة من الاستنتاجات الذاتية في ذهن المدعية والتي بقيت مجرّدة عن أي إثبات هذا على فرض سيقت كل تلك العوامل أو الاتجاهات ضمن السياق الطبيعي أو افتراض حسن النية الكلية لدى الجهة طالبة الرد”. وهي بذلك أوحتْ أن وحدهما الفهم الخاطئ للعمل القضائي أو سوء النية (وهي أمور غير مشروعة) يسمحان بالارتياب.  

وأخيرا، وبعدما نسفت المحكمة تشكيك الجهة المدعية بحيادية القاضية الخطيب انطلاقا من طبيعة الأشياء، اعتبرت أن كلّ ما أثارتْه المدعية حول إخلال القاضية بموجب قانوني أو خرق منها لأي قاعدة قانونية إنما يدخل في صلاحية المراجع التي هي صالحة لمراقبة عمل القاضي والتدقيق بمدى انطباق عمله مع القواعد القانونية الواجبة الاتباع أم عدم ذلك وهي تخرج تاليا تماما عن اختصاص محكمة الردّ، طالما أنه لا يستشفّ عنها بحال من الأحوال أيّ خروج عن حيادية المحكمة.  

هذا الحكم يستدعي الملاحظات الآتية:

أولا، أعضاء النيابة العامّة يقبلون للردّ ولكن…      

أول الملاحظات هو أن المحكمة قبلت بالشكل دعوى الردّ المقامة ضدّ أحد أعضاء النيابة العامة. وهي بذلك تكون قد اختارت التوجّه الذي يقبل دعاوى ردّ هؤلاء، وإن عادت وردّت الدعوى لعدم صحة مضمونها. وفي حين يعزّز هذا التوجّه من حماية المتقاضين إزاء قضاة النيابة العامة الذين قد تتوفر لديهم أسباب انحياز موضوعيّة، فإنه كان من المحبّذ لو استفادت المحكمة من هذه القضية لتعميق التفكير في هذه المسألة كأن تحدّد المعايير الواجب اعتمادها في ردّ أعضاء النيابة العامة وتحديدا لجهة اختلافها عن المعايير المعتمدة بالنسبة إلى ردّ قضاة الحكم أو التحقيق. إذ أن النيابة العامة غالبا ما تؤدّي بطبيعتها دور الخصم في التقصّي عن أدلة الإدانة، بخلاف القاضي العادي الذي يفترض أن يكون على درجة تامّة من الحيادية.

لكن يسجّل أنه رغم ذلك اعتمدت المحكمة أصولا مختلفة، بحيث اعتبرت أن الخصومة تقتصر في طلبات ردّ النيابة العامة بطالبة الردّ موضوع الملاحقة من دون أي شخص آخر، بحيث أعرضت عن إبلاغ أي من الأشخاص الآخرين طلب الردّ.    

ثانيا، أسباب الارتياب مخالفة لطبيعة الأشياء

هنا بدتْ المحكمة وكأنّها تسعى إلى تلقين الجهة المدّعية درسا من خلال حكمها، بعدما تبيّنت أنّ هذه الأخيرة تعمد إلى تصوير الأمور على خلاف حقيقتها بما يؤثّر سلبا على الأداء القضائيّ برمّته. ويتجلّى ذلك بوضوح في المقاطع التي سعتْ فيها المحكمة إلى مناقشة الأدلّة التي أسندتْ إليها سلّوم دعواها: فمثابرة القاضية الخطيب في تحقيقاتها وانتقالها إلى مراكز قوى الأمن الداخلي كلما رأت ذلك مناسبا بهدف الوصول إلى تكوين ملفها، كلها أمور تنمّ وفق المحكمة عن جدّية لدى القاضية وحسّ عالٍ بالمسؤولية لديها من دون جواز أن يستدلّ منها بحدّ ذاتها أيّ انحياز أو استهداف ضد المدعية كما ادّعت هذه الأخيرة. وبذلك بيّنت المحكمة أن ارتياب المدعية ليس فقط غير مشروع طالما أنه يفترض لوم القاضية لا لسبب إلا لأنها تقوم بعملها كما يجب، بل أنه ينبني أصلا على تصوّر سلبيّ للوظيفة القضائية وحدودها. فكأنّما المدعية ترى أن الوظيفة القضائية يجدر أن تمارس من دون شغف أو استعجال وربما أيضا أن تتوقّف عند حدودها وإلا أصبحتْ محلّ ارتياب. وهو تصوّر يناقض تماما التصوّر المشروع لهذه الوظيفة.

وقد بدتْ المحكمة في كلّ ذلك وكأنّها ترمي إلى دحض ليس فقط توجّه طالبة الردّ بل أيضا وقبل كل شيء توجّها عاما شهدناه مؤخرا في قضايا عدة يعمد إلى تصوير ملاحقة أيّ مسؤول كبير من قبل أيّ قاضٍ على أنها تطاول عليه واستهداف له على خلفية أدواره أو ارتباطاته السياسيّة. ومن الشواهد على ذلك مثلا، ما أورده الوزيران السابقان علي حسن خليل وغازي زعيتر أمام محكمة التمييز بتاريخ 11/10/2021 في إطار دعوى الارتياب المشروع التي أقاماها ضدّ المحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ طارق بيطار، حيث أسندا ارتيابهما المشروع إلى معادة هذا الأخير لكل صاحب مكانة أو حصانة. فعدا عن أنه يعتبر نفسه فوق كل المواقع والمقامات كما جاء في دعواهما تلك، فإن لبيطار وفقهما رأي مسبق في التدابير التي سينتهي إليها بخصوص من هم “من أصحاب المكانات وأهل المروءة الوطنية”.

أمر آخر هامّ نستشفه من حجج المحكمة وهو ردها على مسألة المواكبة الإعلامية للتحقيقات القضائية. وقد ذكّرت المحكمة هنا أيضا أن تداول الإعلام المسائل القضائية (المتّصلة بالشأن العامّ) أمرٌ يدخل في صلب عمله ولا يستشفّ منه بحد ذاته خروج القاضي عن تحفّظه أو تسريبه لمعلومات. وهنا أيضا، بدتْ المحكمة في صدد الردّ على كمّ من الدعاوى التي ذهبت إلى استنتاج خروج القاضي عن التحفّظ أو ميله للشعبويّة أو سعيه لأداء دور البطولة من التداول الإعلامي بالقضية التي ينظر فيها أو انسجام قراراته مع مطالب شعبية بالمحاسبة.

ثالثا، اجتهاد يهدف لحماية القاضي الذي يقوم بعمله ولكن…

أخيرا، يشكّل هذا الحكم مساهمة قضائيّة هامّة في مواجهة طلبات الردّ التعسفيّة وما أسميناه استراتيجية استعداء القضاة التي دأب محامو الدفاع عن الأشخاص النافذين اللجوء إليها، في اتجاه وقف الدّعاوى المقامة ضدّ موكليهم. ويتبدّى النفس الحمائي لدى المحكمة بشكل خاصّ من قولها بأنّ قبول ارتياب كهذا إنّما يؤدي عمليا إلى ردّ مجمل القضاة الذين يعملون بنشاط (وضمنا يتجرؤون) ولا يوفّرون وسيلة تحقيق لبلورة النتائج النهائية أو تمهيدا لإصدار القرارات والإجراءات القانونية الواجبة في حين أن المطلوب هو العكس تماما، أي حثّهم على القيام بذلك. كما يتبدّى في بتّ طلب الردّ من دون إبطاء، على نحو يحول دون كفّ يد القاضية الخطيب عن متابعة الدعاوى التي أحالتها أمام قضاء التحقيق. 

ولكن ورغم هذا التوجّه الحمائي، يرجّح أن تبقى القاضية الخطيب مكفوفة اليد عن متابعة الدعاوى المقامة ضدّ سلوم بموجب الدعوى الأخرى التي أقامتها هذه الأخيرة في اليوم نفسه أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز ولأجل غير مسمّى. يتحصّل ذلك من كون الهيئة ما تزال فاقدة لنصابها بفعل إرادة سياسية قوامها الامتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية بتعيين أعضائها. وبفعل ذلك، ستجد النيابة العامة نفسها مضطرّة للتمثّل بمحام عام آخر قد يصطدم بأساليب الاستعداء نفسها … إن هو تجرأ.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم جزائية ، مؤسسات عامة ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني