استهداف كروم الزيتون في خراج ميس الجبل بقذائف المدفعية
تزنّر النيران زيتون الجنوب، فيما أحرقت قذائف الفوسفور الإسرائيلية 40 ألفًا من أشجاره المعمّرة حتى الآن، وفق وزير الزراعة عباس الحاج حسن، وهو سلاح حارق، وثقت منظمة العفو الدولية استخدام إسرائيل له في جنوب لبنان واضعة ذلك في إطار جريمة حرب.
وفضلًا عن الحرائق والقصف بالفوسفور، يستهدف الاحتلال الإسرائيلي بالصواريخ وقنابل المدفعية المناطق الزراعية بشكل رئيسي، وقد وقع موسم الزيتون هذا العام أسير هذا العدوان، حيث يتمكّن الجنوبيون في حاصبيا ومرجعيون، كما في القرى البعيدة نسبيًا عن الحدود، فقط من قطف زيتونهم، بينما الكروم في القرى الحدودية ومعها عشرات البلدات الخلفية، ممنوعة على المزارعين الذين لم يتمكنوا من قطاف الموسم، خصوصًا مع توسع القصف ليشمل تلالًا وأودية في عمق الجنوب. وهذه هي المرة الأولى في حياتهم التي لا يقطف فيها مزارعو المناطق الحدودية زيتونهم، ولا حتى في تاريخ الصراع على ما تسعفهم ذاكرتهم كما يقولون، إذ أنّهم لم ينقطعوا عن مواسم القطاف حتى في زمن الاحتلال. وكزيتون لبنان كذلك الضفة الغربية في فلسطين المحتلة، حيث تشنّ عصابات المستوطنين هجماتها على المزارعين بالرصاص الحي، وسط استمرار اقتلاع أشجار الزيتون المعمّرة أو قطعها في الأراضي المحتلّة. هي حرب على الزيتون إذًا، على رمز السلام المتجذّر في هذه الأرض منذ كانت وكان أهلها، حرب على الزيتون في كل مكان تطاله النيران الإسرائيلية، يحدث هذا على وقع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة.
وبدأ افتعال النيران بقنابل الفوسفور الإسرائيلية في كروم الزيتون في القطاع الشرقي، لا سيّما في حلتا والهبارية وسهلي المجيدية والماري، فيما الضرر الأكبر كان في تلال كفرشوبا. وفي القطاع الأوسط، أحرقت كروم الزيتون في بليدا وعيترون ومركبا بشكل رئيسي. كما التهمت النيران الآلاف من أشجار الزيتون على كامل الحدود في القطاع الغربي، من رميش وصولًا إلى الناقورة، ومرورًا براميا وعيتا الشعب وعلما الشعب واللبّونة، حيث توجد كتل حرجية كبيرة. وقد وصل القصف بالقنابل الحارقة إلى شيحين، وكذلك قرية الصالحاني المهجورة، والتي تشتهر بأشجارها الرومانية المعمرة منذ قرون. ويقول رئيس جمعية الجنوبيون الخضر هشام يونس في حديث مع “المفكرة القانونية” إنّ الخرائط التي توثّق التعدّيات والحرائق باتت شبه جاهزة، لتسلّم مبدئيًا إلى وزارة الخارجية اللبنانية، التي تجهّز ملفًا متكاملًا يشمل الأراضي الزراعية التي تتألّف بأغلبها من كروم زيتون وتتقدّم بالشكاوى على المستوى الدولي. وتُحدّث الجمعية بياناتها باستمرار طالما أنّ القصف والاستهداف مستمرّان، فيما يشير يونس إلى أنّ وتيرتها في تزايد، وهي تضرب التوازن البيئي في المنطقة وتحرم الحيوانات من ملاذاتها الآمنة وتقضي على الحياة فيها، بينما يترسّب الفوسفور في تربتها وتؤدي إبادة الأشجار إلى تهديد خزانات المياه الجوفية فيها.
زيتون وسط النيران وآخر على أمّه
وسط نيران القصف الإسرائيلي التي لا تنطفئ في كرم إلاّ وقد اشتعلت في كرم آخر، تستعيد فاطمة خليل ذكرياتها في كرم الزيتون المحاذي للسياج الشائك في راميا، قريتها على الحدود مع فلسطين. هناك تُسقط عاداتها، مع جيرانها من مزارعي الزيتون الملاصق للسياج، في هزّ الأشجار الساهية عن السياج الحدودي لتورف ناحية فلسطين، فتتسلق الشجرة وتقطفها حبة حبة، خوفًا من سقوط حبّاتها بالهزّ في الجهة الأخرى للسياج وضياعها في الأراضي المحتلة. وهي تكتيكات يمارسها المزارعون للتعبير عن حرصهم على كلّ حبّة زيتون تجود بها أرضهم. بدورها المزارعة سميرة عيسى ليست متأكدة ممّا إذا كانت النيران قد وصلت إلى زيتونها في راميا، مع توارد الأخبار عن احتراق المزيد من الأشجار يوميًا. وتقول: “حتى لو أحرقوها فإننّا سنزرع غيرها، لكن خوفي كبير على زيتوناتي، قلبي معلّق فيها”، لتستدرك: “هناك دماء تسيل، والإسرائيليون يستهدفون المدنيين والصحافيين. بس هالشجرات مثل أولادي، مع أنّ عمرها أكبر من ستّي وجدي”.
وكانت سميرة عيسى تتحضّر لبدء موسم القطاف في راميا يوم الإثنين 9 تشرين الأول 2023، حينما سمعت أصوات قصف إسرائيلي قادمة من الغرب. وصل خبر عاجل بأنّ قصفًا إسرائيليًا بقنابل الفوسفور طال منطقة الضهيرة، فأضافت إلى زوّادتها رأس بصل، للاحتماء من الغاز السام في حال حملت الريح بعضًا من دخان القنابل إلى كرم زيتونها. فرطت سميرة بعض الأشجار أمام منزلها، واتفقت مع جاراتها على مراقبة الوضع قبل التوجّه إلى القطاف في اليوم التالي، كما هو مخطط. في اليوم التالي، كانت كروم راميا في قلب النار، وظلّ زيتون سميرة وفاطمة وجاراتهما على أمّه.
ومع تتابع الأيام، امتدّت النيران الإسرائيلية إلى عمق الجنوب لتشمل قرى القليلة والشعيتية وزبقين وياطر التي تشهد باستمرار غارات وقصفًا مدفعيًا استشهد فيه الفتى حسين كوراني (16عامًا) من ياطر بعد أن أصيب بقصف استهدفه داخل أحياء القرية على دراجته النارية يوم الثلاثاء 31 تشرين الأول. باتت مئات الكيلومترات المربّعة من محافظتي الجنوب والنبطية في دائرة النار. وبما أن القصف يتركّز على المساحات الزراعية بين القرى -من دون أن ينحصر فيها- فإنّ كروم الزيتون في المنطقة هي بأكملها تحت الخطر الأكبر.
موسم الزيتون: جزء من ثقافة الأرض وناسها
يُعدّ موسم القطاف، أو “فرط الزيتون” وفق التسمية الجنوبية، مناسبة سنوية تجتمع خلالها العائلات لمساعدة بعضها بعضًا. ينضم إلى القاطنين جنوبًا بعض ساكني العاصمة وغيرها من المناطق من أبناء القرى الجنوبية. يعود هذا التقليد السنوي إلى قرون متعاقبة، ولا تزال الحياة تسير على وقع هذا الموسم. وإن كان الجنوبيون في الماضي يحرصون على إقامة أعراسهم قبل هذه المواسم، لكسب الصهر والكنة، وأسرهما، كيد عامل أو عاملة إضافية، فهو كان وما زال فرصة لتأمين مصادر دخلهم للعام المقبل، حيث يتم بيع الزيتون وزيت الزيتون لتوفير سبل العيش للعائلات ودعم احتياجاتها المالية. وعادةً ما تخصّص العائلات عائدات الزيت والزيتون للاعتناء بالأرض وتجهيزها للآتي، من حرث وتزبيل (تسميد)، ثمّ لتغطية تكاليف الزواج والولادة، أو لتمويل التعليم في المدارس والجامعات، وحتى لدعم إمكانية سفر أبنائهم للدراسة في الخارج. وبهذا يظلّ موسم القطاف وجناه جزءًا أساسيًا من حياة الجنوبيين واقتصادهم ومعيشتهم، ليكون للجنوبيين شتلة (تبغ) وشجرة (زيتون) للصمود.
وفيما يستعين أصحاب الكروم الكبيرة بعمال لمساعدتهم مقابل بدل مادي، فإنّ أغلب المزارعين يتبادلون الخدمات من خلال التعاون على قطف الكرم وراء أخيه. تساعد الأسر غير المالكة للأراضي، أو التي تملك القليل من الأشجار، الأسر صاحبة الكروم الأكبر، مقابل حصة من الزيتون أو من زيته بعد العصر. مع بدء الموسم، الذي تعلنه “الشتوة” الأولى في تشرين الأول من كلّ عام، ينتشر الكبار والصغار، نساء ورجالًا، أطفالًا وكهولًا، بين الزيتون الفتي منه والمعمّر، توضع البسط تحت الأشجار لجمع ما يتساقط من هزّ أغصان الأشجار، ليتم لاحقًا قطف ما بقي عليه بعد تسلق هذه الغصون. في آخر الموسم، تستضيف الكروم الكثيرين ممّن يأتون بهدف “البعورة”، أو “التعفير”، وهو قطف ما أغفله الأهالي من زيتون، إن كان لصعوبة الوصول إليه أو لأي سبب آخر، فيجني هؤلاء غلّة كبيرة مجانًا. اليوم، تقول سميرة إنّ الزيتون “أسير” القصف الإسرائيلي والحرائق الهائلة التي يتمّ إشعالها فيها بقنابل الفوسفور، ومصير الموسم أن يتساقط أرضًا ليكون طعامًا للخنازير البرية: “قلبي بيعصر، ما مرق علينا هيك شي”، وهي تمسح على وجهها وقد احمرت تقاسيمه. تكشف سميرة أنّها ظلّت في قريتها أسبوعًا تحت القصف تمسّكًا بالموسم الذي لم تستطع أن تدر له ظهرها بسهولة، لكن اقتراب الغارات واستهداف المنازل المدنية وتكثيف رمي الفوسفور وضرورة حماية الأطفال وإبعادهم عن الخطر، عوامل اجتمعت لتحتّم عليها النزوح مع أسرتها.
بدوره أحمد ناصر من بيت ليف لم يقطف موسم الزيتون في أرضه، وهو مزارع صغير يملك بضع عشرات منها، أبلغه جيرانه الذين ما زالوا في قريته عيتا الشعب أنّ الفوسفور نال من كرمه، ولم يتحقّق بعد من حجم الأضرار. بالمثل، يتحدّث عبد العزيز السيّد عن اضطراره للنزوح من قريته بيت ليف قبل التمكّن من قطف الموسم، لتبدي ابنته تخوّفها من ضياع “رزق السنة”.
الزيتون: دورة اجتماعية واقتصادية متكاملة
وبقتل الموسم، تُجهز نار العدوان على دورة اجتماعية وثقافية واقتصادية متكاملة. في العادة، وبعد جني الزيتون، تجتمع المزارعات على تمليحه ورصّه، ويخصّص قسم منه للتخليل، وقسم للكبس بالزيت، فيما يحوّل قسم ثالث للعصر واستخراج زيت الزيتون سيد المائدة، ورافعة غالبية الأطباق المحلية. ومع ضرب موسم الزيتون أغلقت المعاصر أبوابها في القرى الحدودية، فيما تستمر معاصر القرى الخلفية بإمكانياتها التشغيلية الدنيا، بسبب ندرة المزارعين بعد أن كانوا يتهافتون عليها حاملين محاصيلهم، وهو ما يشرحه محمد كوراني، صاحب معصرة ياطر لإنتاج زيت الزيتون: “قليل من الأهالي فقط تمكّنوا من اقتناص الفرصة لقطف بعض زيتونهم مخاطرين بحياتهم، قبل أن يصبح القصف على المنطقة أمرًا متوقعًا بين لحظة وأخرى”. ويشير صاحب المعصرة إلى تلال ياطر المقابلة وواديها المتّصل بتلال زبقين، مؤكدًا أنّ الزيتون في كرومها لم يقطف، فيما تمكن الأهالي من اغتنام الموسم في كروم القسم الشمالي من القرية الذي لم يطله القصف. يكشف كوراني عن تراجع إنتاج الزيت لديه بأكثر من 85% هذا العام، مقارنة بالأعوام السابقة: “كنّا نعصر 100 تنكة في اليوم الواحد لكننا اليوم ننتج في أحسن الأحوال 15 تنكة يوميًا، وكنّا نفتح معاصرنا شهرين، لكننا سنغلقها خلال أيام”. وبالمثل، فإنّ معصرة المختار في كفرا توقفت حجارتها الضخمة عن الدوران فوق ثمار الزيتون باكرًا هذه السنة، حيث غابت محاصيل الحنية ومجدل زون والطيرة وحانين وعيتا الجبل وغيرها من القرى. واقع يوثقه بلال عبادة الذي يقول إنّه لا يزال يفتح معصرته لعل أحد المزارعين ينجوا ببعض من موسمه.
ولا تزال المعاصر هنا تقليدية، تعصر زيتونها “على البارد”، حيث يُغسل الزيتون بعد تنقيته من الأوراق ويمرر إلى أوعية ضخمة لتطحن حباته بحجارة غرانيت ضخمة، ثم يسكب المزيج المطحون على سلال مصنوعة من القش تُرتّب فوق بعضها في مكبس لاستخراج الزيت، لتتم لاحقًا تصفيته وتنقيته. ويفضل الجنوبيون هذه الطريقة التقليدية، ولا يثقون بتسليم خيراتهم لآلات في معاصر حديثة، “لأن زيت الزيتون حساس”، تشرح سميرة “فنحن حتى بعد عصره، نحافظ على تغطيته وتدفئته ونعتني به برموش عيوننا حتى يحافظ على جودته”.
بدورها تسمّي أم علي سويدان زيت الزيتون بـ “زيتات أرضنا وديّاتنا” وتتحدث عن الزيتون كمن يتغزّل بعزيز أو حبيب: “بحب زيتوني كيف ما كان، بحبّته الكبيرة والصغيرة، وبالأخضر والأسود منه، وما بفوّت ع بيتي غيره”، وتتحوّل نظرات الحب في عيون المزارعة الأربعينية إلى غضب وهي تقول: “غضبي كبير على عدوي، فالزيتون جزء من هويتنا وحياتنا ويومياتنا، لكن من يقتل البشر لن يتورع عن إحراق الكروم أو احتجازها رهينة نيران طائراته الحربية”.
روى لنا بعض من بقي في مارون الراس كيف أنّ الاهالي يلتزمون بيوتهم، لأنّ طائرات الـ MK الإسرائيلية تستهدف كل ما يسير على قدمين في الكروم والبساتين، ويراقب المزارعون زيتونهم عن قرب وقد اسودّت ثماره، وحان موعد تساقطه، من دون التمكن من إنقاذه. وخلال التصعيد الحالي، استهدف القصف الإسرائيلي 6 سوريين من العاملين في كروم الجنوب، يوم الأحد 22 تشرين الأول، وهم في طريقهم إلى عيترون لإنجاز بعض الأعمال الزراعية، ليصاب أفرادها بجروح، بينما حوصر سائق لبناني وسبعة عمال زراعيين سوريين بالنار يوم الخميس 26 تشرين الأوّل، بعد أن أعطب شاحنة يستقلونها بإطلاق النار عليها. واستشهد الراعيان الجنوبيان ربيع الأحمد (20 عامًا) وأمجد المحمد (22 عامًا) في بلدة الوزاني اليوم الخميس، بعد أن أطلقت قوات الاحتلال النار عليهما أثناء رعيهما الماشية قرب نهر الوزاني.
ونضال المزارعين الجنوبيين بوجه الاعتداءات الاسرائيلية عليهم لم يتوقف رغم التحرير عام 2000. الألغام والقنابل العنقودية كانت تنتشر في الكروم، وهي رغم نزع معظمها لا زالت تتفجر ببعضهم، فكان آخر ضحاياها، ضمن قائمة طويلة تمتد بالزمن إلى سنوات وعقود، المزارع محمد خليل الذي بُترت ساقه مطلع العام الجاري إثر انفجار لغم من مخلفات الاحتلال في وادي سواده، جنوب مسقط رأسه عيتا الشعب.
الزيتونة هي نفسها شمال الحدود وجنوبها
تكتمل فصول الحرب على أشجار الزيتون في فلسطين. ففي شرق الأراضي المحتلة، وتحديدًا في بلدة الساوية جنوب نابلس في الضفة الغربية، قتل مستوطن إسرائيلي يوم السبت الماضي الفلسطيني بلال صالح (40 عامًا) برصاصة في الصدر بينما كان يقطف ثمار الزيتون، فيما تتواصل هجمات المستوطنين ضد الفلسطينيين خلال توجههم إلى القطاف. ويحمي جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتداءات المستوطنين ويصدر بنفسه قرارات حظر قطف الزيتون على الفلسطينيين. وتتنوع اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة على أشجار الزيتون قلعًا وحرقًا وتلويثًا وتسميمًا وإبادة، ليقضي على أكثر من مليوني شجرة منذ نكبة عام 1948، بهدف تحويل الأراضي إلى أرض بور، ليطبق عليها قانونه (قانون الأرض البور أو غير المعمرة لعشر سنوات) للاستيلاء عليها، لنصل إلى واقع أنّ معظم الأراضي الزراعية في الضفة الغربية هي تحت سيطرة المستوطنين، لا الفلسطينيين الذين يعيشون في معازل، تسلب أرضهم شجرة بعد شجرة، كما تستباح أحياؤهم بيتا بعد بيت، ضمن سياسات التطهير العرقي في حقّهم.
قبل 75 عامًا من اليوم، كانت كروم الزيتون واحدة من لبنان إلى فلسطين، وكانت الكثير من الأسر اللبنانية تملك أراض في الجهة الأخرى من الحدود، وبالمثل، كانت مواسم القطاف تجمع أبناء الجليل مع أبناء الجنوب. اليوم، يُعدّ استهداف الزيتون حملة محسوبة لقطع الروابط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تربط السكان بأراضي أجدادهم وتعزز تضامنهم، وليست مجرّد أعمال عشوائية لتدمير البيئة واعتداءات عشوائية، ولكنها تحركات استراتيجية تهدف إلى محو عنصر حيوي في الهوية المحلية لأصحاب الأرض. ويضرب هذا المحو المتعمّد جوهر هوية الأرض وسكانها، ليؤكد أنّ تراث أهل الأرض الثقافي لا قيمة له في نظر المحتلين. يصبح هنا تمسّك الجنوبيين بزيتونهم، وكفاح الفلسطينيين لقطفه كل عام، رغم الهجمات الإسرائيلية، نضال تمارسه هذه المجتمعات ليس فقط لعدم خسارة سبل عيشها ولكن أيضًا لحفظ جزء حيوي من تراثها، والأهم التشبث بالأرض، أرضهم، وبملكيتها.
ولا شك أنّ أشجار الزيتون هذه تشكّل شريان الحياة للاقتصاد المحلي، حيث توفر الدعم لعدد لا يحصى من الأسر. فيرى الجنوبيون في حرق 40 ألف شجرة زيتون اعتداء مباشرًا عليهم، ويصبح قلع كروم فلسطين وسيلة للقضاء على المنافسة على هذا المورد الذي لا يقدّر بثمن. ويستغل المحتلّون الأرض لتحقيق مكاسب اقتصادية خاصة بهم، مما يؤدي إلى تكريس دورة من التبعية والاستغلال الاقتصادي.
يصلّي الجنوبيون اليوم كي لا تصل النيران إلى أشجار الزيتون الروماني، وهي أشجار يقدر عمرها ببضعة آلاف من السنين، وتتميز بجذوعها الضخمة والعتيقة غزيرة الثنايا، والأغصان المتفرعة من الجذع الأم. وتنتشر هذه الأشجار في غير موقع، ومنها قرية الصالحاني، المهجورة منذ أن قتلت القوات الإسرائيلية الغازية عام 1982 آخر أهلها، عائلة من آل عيسى، وحوّلتها إلى موقع عسكري للتدريب والرماية، ومرابض للدبابات، ما أدى إلى تضرّر الكثير من منازلها القديمة وزيتونها المعمّر، لكن قوّة الحياة في جذوع هذه الأشجار ساعدتها على الصمود، وهي المعروفة بأنّها حتى لو تم اقتلاعها وقطع جذورها، فإنّ الحياة ستتدفق فيها بمجرّد أن يعاد زرعها. تحكي قصة قرية الصالحاني أهمية أشجار الزيتون التي يمكن أن تبقي ذكر قرية حيًّا حتى لو قُتِل كل أهلها.
“الصمود مع الزيتون” هو ردّ أصحاب الأرض
مقابل هذه الرمزية الثقافية والتاريخية التي تحملها شجرة، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي يبيدها اليوم في عرض متعمّد للهيمنة، وفي رسالة مفادها أنّ المحتلّين يمتلكون القدرة على إعادة تشكيل المشهد وحياة الناس متى شاؤوا. كما يقوم بعض المستوطنين الذي يدركون هذه القيمة والرمزية باقتلاع أشجار الزيتون المعمّرة ويزرعونها أمام بيوتهم ليقولوا بعد سنوات “نحن كنّا هنا منذ آلاف السنين”.
وفي مواجهة هذا التدمير، يبرز نضال الفلسطينيين للدفاع عن زيتونهم، ولو بصدور مفتوحة يُفرِّغ فيها المستوطنون رصاصهم، كما تبرز إرادة التحدي والصمود بعيون الجنوبيين في لبنان، تترجمها أم علي سويدان بكلماتها من منزلها في ياطر: “نرفض إظهار الحزن على زيتوننا، بل نقول أننا سنزرع مكان هذه الأشجار التي يعود عمرها إلى مئات وآلاف من السنين، وستكبر بدورها لمئات وآلاف سنين آتية، سنزرعها لنا ولأولادنا وأحفادنا، فهل يملك الاحتلال ما يكفيه من السنوات ليحاربنا كل هذا العمر؟”
من الضفة الغربية إلى جنوب لبنان، تقف أشجار الزيتون كشاهد صامت على صمود الشعوب المزارعة لها. الشجرة التي تواجه الحرب، رغم أنّ أغصانها رمز عالمي للسلام، قد تنال النيران منها، وقد تحمل جذوعها ندوب الصراع، لكنها تقف كرمز للأمل الذي لا يتزعزع، متجذّرة في تربة الأرض التي نجت من عواصف لا حصر لها. هذا التشبث بأشجار الزيتون لا يتعلق فقط بالبقاء والمعيشة، إنه إعادة تأكيد للهوية، وشهادة على الرابطة غير القابلة للكسر بين الشعب وأرض أجداده. قد تتحمل أشجار الزيتون ثقل نيران الاحتلال، لكنها تظل صامدة، وهي شهادة حية على الروح التي لا تُقهَر لأولئك الذين يقاومون اقتلاعهم.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.