الجنوبيون: البيت والأرض وشبح الحرب


2023-10-28    |   

الجنوبيون: البيت والأرض وشبح الحرب
آثار الحريق الذي نشب في يارون نتيجة القصف الإسرائيلي (الصورة من صفحة الدفاع المدني)

في الجنوب هذه الأيام، قصف وقطف زيتون، ونزوح وتسليم تبغ، وترقب وقلق ومتابعة أخبار مروّعة تأتي من غزة، وكذلك جمعات أمام منازل القرى وفوق أسطحها وعلى شرفات مدينة صور وكورنيشها. في الجنوب جبهة مشتعلة، وإن سُميت ضمن “قواعد الاشتباك” للإيحاء بضبطها، وقرى حدودية متاخمة لفلسطين نزح غالبية أهلها، وأخرى تنهمك باستضافة النازحين، يتحضر الناس كأنّ الحرب الأوسع غدًا، ثم يروون زرعهم، أو يستكملون قطاف كرم، ويتابعون حياتهم كأنّ الحرب لن تأتي أبدًا.

بدأ تصاعد التوتر على الحدود يوم الأحد 8 تشرين الأوّل 2023، بعد يوم من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة. يوم الإثنين، استيقظت سمر على صوت القصف الإسرائيلي عند أطراف بلدتها الضهيرة، وفيما ساد الترقّب القرية، شاهدت قذائف الفوسفور وكأنّها تهوي صوب منزلها: “كان صوتها غريبًا وهي تتفجر في السماء، سلاح لم أره عن قرب سابقًا، مرعب، وحارق”. أمسكت سمر، الأرملة ومزارعة التبغ حتى آخر شبر على الحدود مع فلسطين، يد ابنتها زكية، وركضت نحو سيارتها “الرابيد”: “كانت قنابل الفوسفور تتساقط في السهل، وأنا وابنتي نحبس أنفاسنا خوفًا من استنشاق غازها، نده عليّ جاري طالبًا ألّا أستعمل الرابيد خوفًا من أن يتم الاشتباه به كآلية يستعملها المقاتلون، فقلت له الضهيرة كلّها رابيدات”. 

غادرت الأسرة فيما الدخان يغطّي محيط المنزل “لم نعد نراه ونحن نترك القرية”. قصدت مقرّ الكتيبة الغانية التابعة لقوات اليونيفيل التي رفضتْ استقبالها مع نازحين آخرين “يمكن خايفين تستهدفهم إسرائيل إذا استقبلونا وتتكرّر مجزرة قانا الأولى”. تستذكر سمر هنا قصف المدفعيّة الإسرائيليّة مقرّ القوات الفيجية التابعة لقوات اليونيفيل في قانا، بعد لجوء المدنيين إليه هربًا من عدوان “عناقيد الغضب” عام 1996، حيث سقط 250 مواطنًا ومواطنة بين شهيد وجريح جلّهم من الأطفال. 

انتظرت سمر بزوغ الفجر في السيارة مع ابنتها، قبل أن تتوجّه إلى صور. لا تفارق الضحكة وجه سمر التي تكرّر في كلامها كلمة “فزعت”، لتضيف “أنا أرملة مسؤولة عن طفلة” وكأنّها تبرّر لماذا غادرت بيتها الذي أحاط به القصف الفوسفوري في ذلك اليوم، رغم أنّها لا تحتاج إلى تبرير، بل تهنئة على سلامتها بعد أن تضرّر بيتها بالفعل بالقصف الإسرائيلي بعد يومين على مغادرتها.

بدورها الحاجة السبعينية ترفندي، باقية في عيتا الشعب، وهي تذرّعت لأبناء أخيها بأنّها مضطرّة أن تنهي “حواش” الزيتون، لتضمن خروجهم من القرية من دونها إلى مكان أكثر أمانًا. تصاعدت حدة المعارك، وباتت كروم الزيتون في قلب منطقة الخطر. يوم الإثنين، مدّت ترفندي بساطًا تحت زيتونة وحيدة قريبة من منزلها، وقطفتها حتى آخر حبة لا تزال آمنة، وفي اليوم التالي، قصف الاحتلال الإسرائيلي المكان. رغم هذا، تقول بتول إنّ عمّتها باقية “ولا كأنّ صار شي، ومش عم تقنع، هي بس كان بدها تهرِّب الأولاد، ولم تكن تخطّط أبدًا للمغادرة”، وفي عيون الشابة والأم لطفلين مزيج من الخوف على عمّتها، والتفاخر بإصرارها على البقاء: “راسها يابس” مع ابتسامة وضربة كف بكف.

قصف إسرائيلي بقنابل الفوسفور فوق عيتا العشب

من نزح؟ من لم ينزح؟ 

انطلق النزوح بشكل رئيسي من “القرى المواجهة” التي تقع على الشريط الحدودي، حيث القصف الإسرائيلي اليومي والاشتباكات المفتوحة بين مقاتلي حزب الله وجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي المحكوم حتى اليوم بما اصطُلح على تسميته بـ “قواعد الاشتباك”. رغم ذلك، تشهد القرى الواقعة خلف قرى المواجهة نزوحًا وعودة بين يوم ويوم، فيما قرّّر مواطنون مغادرة قراهم خوفًا من توسّع الّحرب، هم الذين لا تزال ذكريات حرب تموز حاضرة في أذهانهم. حينها، كانت الكلفة البشرية الأعلى من المدنيين الذين استهدفتهم إسرائيل، وقُتل الجنوبيون في بيوتهم وفي السيارات على الطرقات، وقُصفت الطرقات والجسور وهدد الاحتلال القرى والمدن بالإخلاء الفوري، محذرًا بأنّ كلّ من يبقى فيها هو “هدف عسكري”، ليستشهد أكثر من 1200 مدنيّ كان معظمهم من الأطفال والنساء. ذكريات ما زالت طازجة في وجدان من عاشوها، وتسعى كلّّ أم وأب إلى حماية أطفالهم، كما أنفسهم، من تكرارها.

اليوم، التصعيد العسكري على الحدود محصور، لكن جولات العدوان تتكرّر، فيطال القصف الإسرائيلي منازل المدنيين على طول الحدود، ويتعدّّاها إلى قرى غير محاذية للسياج، مثل زبقين وطير حرفا وياطر التي دُمّر فيها مبنى من طبقتين. بالتوازي، سقط حتى الساعة 3 شهداء من المدنيين على الأقل، وشاهد العالم وعلى الهواء مباشرة استهداف فريق صحافيين في علما الشعب يوم الجمعة 13 تشرين الأوّل سقط فيه الزميل عصام عبدالله شهيدًا، وجُرحت ست زميلات وزملاء

تنقسم المنطقة بين الحدود مع فلسطين ونهر الليطاني، أو ما اصطلح على تسميته بجنوب الليطاني، إلى 3 مناطق رئيسية، أوّلًا “منطقة المواجهة المتاخمة”، من رأس الناقورة غربًا مرورًا بعلما الشعب ومروحين وعيتا الشعب ورامية ومارون الراس وصولًا إلى عيترون وصعودًا نحو بليدا وميس الجبل وحولا ومركبا والعديسة فكفركلا حيث بوابة فاطمة، ونزولًا حتى الغجر ثم شبعا في أقصى الشرق. وثانيًا، القرى التي تقع خلفها، وهي مناطق “ذات توتر عال”، وهي تمتد من البياضة على شاطئ البحر إلى المنصوري وياطر وزبقين وبنت جبيل وعيناثا ثم كونين وشقرا، فيحمر والقليعة ومرجعيون وإبل السقي وراشيا الفخار والهبارية. ويصنّف كل شمال هذه البلدات، من مدينة صور غربًا إلى مجرى نهر الليطاني شرقًا، مناطق ذات توتر منخفض، وذلك بحسب خرائط اطّلعت عليها “المفكرة القانونية” لدى وحدة إدارة الكوارث في اتّحاد بلديات صور. 

خريطة في وحدة إدارة الكوارث في صور تظهر قرى المواجهة بالأحمر وقوى التوتر العالي بالأصفر وقرى التوتر المنخفض بالأزرق

يقول حسين، أستاذ المدرسة الخمسيني من مارون الراس، الذي لم يغادر قريته بعد، فيما أولاده يسكنون أصلًا في سكن جامعي في بيروت، إنّ المحال التجارية في القرية مقفلة والمصالح مشلولة والحركة مقيّدة بشكل خانق بفعل التحليق الكثيف لطيران الاحتلال. “نأكل من مونتنا أو ما نحصّله خلال ساعات الهدوء، لم نعد نجرؤ على التجوّل حتى في محيط منزلنا، لأن الـ MK) تترصّد أيّ حركة لتُغير عليها، وحتمًا لا يخرج أحد خارج المنزل بعد الـ 7:00 مساء”. وقد شكل واقع تعطّل الحياة عاملًا إضافيًا حتّم النزوح على كثير ممن التقيناهم، مثل إحدى أسر بليدا التي قصدت منزل أقاربها في الضاحية كي يلتحق أولادها بمدرستهم التي علّقت الدروس في فرعها الموجود في رميش على الحدود. 

بين الخطر وعدم الرغبة في النزوح

يختلف تعامل الجنوبيين مع هذه التطورات باختلاف ظروفهم، ولكن نسبة النزوح من البلدات الحدودية المتاخمة عالية على وقع القصف الإسرائيلي اليومي. فغادرت آلاف الأسر قراها، فيما يتحوّل النزوح إلى سلوك فردي في القرى والبلدات ذات التصنيف الأقل خطورة، وهو بكل الأحوال قرار شخصي طالما لا توجيهات رسمية في هذا الشأن. وإذ تقدّّر المنظمة الدوليّة للهجرة عدد النازحين من المناطق الحدوديّة حتى اللحظة بـ 19 ألفًا، توضح مصادر وحدة الكوارث في اتّحاد بلديات صور أنّ الرقم مجرّد تقديرات لا تستند إلى عدد النازحين الفعلي، خصوصًا أنّ هؤلاء توزّعوا بين من انتقل ببساطة إلى منزل له خارج منطقة الااشتباكات، أو حلّ ضيفًا عند قريب أو صديق أو في منزل فتحه له مغترب، أو استأجر شقة إذا ما استطاع إليها سبيلًا. ولجأت عشرات الأسر ّيبلغ عديدها أكثر من 1000 بقليل، إلى 3 مدارس حوّّلتها وحدة الكوارث إلى مراكز إيواء، هي المهنية، التكميلية ومتوسّطة صور الرسمية للبنات.

ورصدنا عودة نازحين خلال جولتنا في مدرسة صور التكميلية، حيث التقينا بفاطمة وهي تحمل رضيعَيْها وحقائب يد مليئة بالحاجيات، فيما يحاول ابنها أحمد ذو الـ 13 عامًا جمع قواه للتعامل مع وزن الشنطة على ظهره وعدد من الأكياس في يديه، قبل أن يضعها أمام بوابة المدرسة ليستريح قليلًا. قرّرت أسرة فاطمة العودة إلى بلدتها المنصوري بعد أن عاد جيرانهم: “بس قلبنا حاسسنا إنه رح نرجع نفل” تقول السيدة بنبرة مزاح، لتستدرك: “يعطيهم العافية الشباب (المتطوّعون في المدرسة) بس بيت الواحد أحلى له”.

تتشابه قصص النازحين في المهنية في نواح وتختلف في أخرى. يجمعهم النزوح، لكن منهم من نزح تحت القصف، ومنهم من نزح مع اقتراب الضّربات، كالحاج أبو خليل، سائق التراكتور القادم من أطراف بنت جبيل الذي يقول: إنّ “أولادي ألحّّوا عليّ بضرورة المغادرة حيث لم يطيقوا صوت الغارات التي تجعل البيوت تهتز وتهتز معها قلوب السكّان”. يقول أبو خليل، وهو يشدّ على كلماته وفي عيونه نظرة حادة: “أنا بدّي  إبقى جنب ‘أرضاتي'”، ليحنو صوته قليلًا فيضيف: “لكن ما بترك أولادي يفلّّوا لحالهم ولا بربطهم فيي”. ويقع منزل أبو خليل عند مثلث بنت جبيل –  مارون الراس – عيترون، وقد وصل القصف الإسرائيلي إلى منطقة سكنه.

في المدرسة المحاذية، تجلس أم علي مع بناتها وأحفادها في الملعب، هم نزحوا من عيتا الشعب بعد أسبوع من بدء المعارك، وبعد أن وصل القصف الإسرائيلي إلى داخل قريتهم. عاشت الأسرة أسبوعًا قاسيًا: “صوت الطيران الحربي المنخفض كان مرعبًا، وكل ما سمعنا صوت غارة أتفقّد حولي لأتأكد أنّ الغارة لم تكن على منزلنا، لكن رغم هذا، لم أرد أن أغادر”. تردّدت الأسرة بالنزوح “خصوصًا أنّنا مش عارفين إذا نحن بحرب أو مش بحرب” تقول الإبنة سارة، قبل أن تتخذ قرارها بالمغادرة بعد غارة إسرائيلية على بعد أمتار من المنزل، وصلت شظاياها إلى باب المنزل و”رابيد” العائلة، “وتسببت بحالة صدمة لأبي علي”، تقول أم علي فتضحك “كما رعبت قلوب الأولاد والأطفال، فهربنا من دون أن نأخذ معنا حتى ثيابنا”.

سبق لأم علي وأسرتها عيش حرب تموز بأيامها الـ 33 في قرية رميش المحاذية، والتي لم تصل إليها المعارك حينها، “لكن اتصلنا بصديق من أهاليها هذه المرة فأخبرنا أنّه غادر قريته بفعل اشتداد أصوات المعارك فتوجّهنا إلى صور باعتبارها أقرب نقطة بعيدة عن القصف”. وبالفعل، نزح قسم من أهالي رميش مع اشتعال الجبهات في القرى المجاورة، وتشرح ابنة القرية منال (30 سنة)، وهي من سكان عين الرمانة، أنّ معظم الجيل الجديد في القرية (رميش) لديه منزل في بيروت، وأولادهم إما في الجامعات أو موظفون فيها، من هنا فإنّ كثيرين فضّلوا جلب عائلاتهم ليكونوا قربهم، ممّا أدى إلى مغادرة نسبة معتبرة من سكان القرية.

وكما في المدارس، كذلك في المنازل التي استقبلت نازحين، تجد عائلات بأكملها متجمّعة حول نفسها، تتابع الأخبار وتمضي وقتها بأحاديث من وحي الحدث. في منزل في منطقة الحوش، تتوسّط الحاجة رياسة عائلتها وأمامها طاولة بلاستيكية عليها إبريق شاي كلما فترت حرارته تشير إلى حفيد لها “جدّد يا إبني”، أي أعدّ لنا إبريق شاي جديدًا. نسألها عن الوضع، فتفضّّل أن تعود بذاكرتها إلى عدوان تموز، تروي كيف أنّها مشت من رميش، حيث كانت نازحة، إلى قريتها عيتا الشعب، نحو ساعة فور وقف إطلاق النار، “قبل ما إلحق ظبّّط حلّاسي” (أي قبل أن أرتب نفسي بعد الاستيقاظ)، وفيما لم تكن الدبابات الإسرائيلية المنسحبة قد غادرت حدود القرية بعد، لتخلص إلى أنّها لا تعلم متى ستعود إلى عيتا الشعب “لكن حتمًا راجعين أأوّل ما يصير في مجال، عنّا رزق وأرض وبيت فوق”، وتجيب باستنكار “شو هي هيك الشغلة!” وكأننا أخطأنا بمجرد السؤال عن تخوّفها من أن يطول نزوحها، وهي التي حاولت قبل 3 أيام التوجّه مع زوجة ابنها إلى القرية الحدودية لتفقّد حال منزلها وجلب بعض الأغراض “لكن القصف الشديد دفعنا للعودة قبل أمتار قليلة من مدخل القرية، فمنزلنا في نقطة باتت ساخنة ولا يمكننا الوصول إليه”. 

أحمد ذو الأعوام الـ 13 مغادرًا تكميلية صور وعائدًا إلى المنصوري

القرى الخلفية: الحياة على وقع الاشتباكات

وخلف خطوط المعارك، في عيناثا، يتمسّك إسماعيل، وهو مهندس أربعيني، بقرار عدم المغادرة “طالما أنّ الحرب لا تزال ضمن قواعد الاشتباك”. تقع عيناثا على حدود بنت جبيل، وبينها وبين الشريط الحدودي بلدة عيترون فقط، رغم هذا، فإنّ الحياة فيها مستمرّة، وبعض ممّن غادروا بيوتهم مع اندلاع الاشتباكات مخافة توسّّعها عادوا إليها اليوم، ليبقى حوالي النصف، نازحين بحسب تقديرات الأهالي. تتنوّع الشرائح العمرية للفئتين، لكن المسنّين هم الأكثر تشبثًا بالبقاء، فيما الشباب يذهبون ويعودون. يستيقظ أهالي القرية وينامون على أصوات الاشتباكات والقصف والقصف المضاد، وهم يأخذون بعض التدابير الاحترازية التي علّمتهم إياها الحروب المتعاقبة، مثل عدم الجلوس على الشرفات المواجهة للحدود ليلًا، والنوم في الغرف الخلفية، لكن حواش الزيتون مستمرّ على قدم وساق بين الفجر والمغيب، وهناك من اختار أن يرمّم جدران الجلّ لديه “بنص الحشرة”، ويدعّمها بالاسمنت.

يرفع أبو رامي الحجارة مصرًّا على بناء جدار دعم جلّ بنفسه، يتمتم باللوم على العامل الذي لم يمكّن الجدار في المرة الأولى فانهار عند أوّل شتوة، فيما يمتزج صوت تكسيره للحجارة مع صوت القصف، تنظر إليه منى، زوجة إسماعيل، وهي مهندسة بدورها، بنظرات استلطاف، وتقول: “يعني يا أبو رامي بدنا نحمل إزعاجك مع صوت الضرب؟”، ويضحكان. يقول إسماعيل ممازحًا: “بفهم إنّه الزيتون بدّه يتحوّش، بس بناء حيط دعم، هيدي ما توقعتها”. 

ويشكّل حواش الزيتون في قرى، كما تسليم موسم التبغ في قرى أخرى، أسبابًا جوهرية ثبّتت الكثير من الجنوبيين في قراهم رغم الخطر، فيما يحاول مزارعون كثر إنهاء الموسم بأقصى سرعة خوفًا من تدحرج الأحداث: “لأنّ هيدا رزق السنة كلّها، مش يوم ويومين”، في المقابل، فإنّه في الكثير من الأسر التي التقيناها في منازل صور التي تستضيف النازحين، رغم نزوحها، يعود الأم أو الأب نهارًا إلى قراهم من أجل التسريع في قطاف الموسم وأخذ الزيتون إلى المعاصر التي تكدّست أمامها المحاصيل: “فطالما أنّنا مطمئنّون على الأولاد بأمان، تظلّ حركتنا أسهل”، تقول زينب النازحة من رامية. كان ذلك قبل اشتداد المعارك وتراجع القطاف إلى القرى الخلفية، ليبقى زيتون كروم مناطق النار على أمه. 

تحضّر زينب الحليب لرضيعتها في إحدى الصفوف الدراسية حيث نزحت مع أسرتها

ظروف النزوح: تقديمات الحدّ الأدنى

يواجه الجنوبيون ظروف النزوح محرومين من دعم الدولة لهم. جميع الفرق العاملة ضمن وحدة إدارة الكوارث في صور من المتطوّّعين، وهم يقدّمون للأسر في المدارس فرشة وغطاء رقيقًا وسوائل تنظيف، إضافة إلى الفوط الصحية والصابون وسوائل الاستحمام وحليب وحفاضات مصدرها منظمات غير حكومية. تؤمّن الوحدة الكهرباء للمدارس الثلاث من مولّدات خاصّة تحتاج لألف ليتر مازوت كل 3 أيام، يؤمّنها اتحاد بلديات القضاء والصليب الأحمر اللبناني حاليًا، فيما يحصل النازحون في المدارس على 3 وجبات طعام يوميا، تُطهى في مؤسّسات الإمام الصدر المجاورة على أيدي متطوّعين أيضًا، بعد أن تؤمّن الوحدة مكوّناتها. وبحسب ما يؤكد متطوّعو الوحدة، تحتاج هذه الأسر إلى كافة أشكال الدعم حاليًا “فهي تركت منازلها وأعمالها ولا مدخول لها حاليًا”.

ويقول رئيس وحدة إدارة الكوارث مرتضى مهنّا لـ “المفكرة” إنّ الوحدة تسعى إلى إدارة الموارد المتوافرة لديها، وقد قدّم مجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة حوالي 2000 فرشة للنوم و1000 غطاء فقط حتى الساعة “هو كلّ ما قدّمته الدولة لنا”. وينتقد متطوّع في إدارة أحد مراكز الإيواء بشدّة زيارة وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور الحجّار “التي كانت للصورة فقط، ولهذا فإننا أخذنا قرارًا بمنع تحويل النازحين إلى مادة يأتي المسؤولون لأخذ الصور بذريعتها، خصوصًا أنّهم لا يجلبون مساعدات حقيقية معهم”.

وتلفت دعاء التي تبيت في متوسطة صور للبنات إلى أنّ المطلوب ليس فقط طعام وإيواء، فبين النازحين الكثير من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، وهؤلاء انعدمت مصادر دخلهم فيما صحتهم مهددة بالتدهور في أية لحظة. 

ويوم الثلاثاء الماضي، قضت دعاء ليلة من التوتر إثر عارض صحي ألمّ بوالدتها بعد أن رفضت مستشفيات المنطقة تقديم العلاج قبل تأمين 80 دولارًا لا تتوفّر بحوزة الابنة، لتنخفض إلى 30 دولارًا بعد تدخّل  وحدة إدارة الكوارث. تأمّن المبلغ من إحدى الجهات المتبرّعة، فيما يبقى الدواء غير مؤمّن للنازحين. ويؤكد مهنّا أنّ الحق في الصحة واحتياجاته لا يزال غير مغطىً رسميًا للنازحين جميعهم، سواء في المدارس أو خارجها.

أما في الشقق والمنازل، حيث النسبة العظمى من النازحين، تقتصر التقديمات على “فرشة وغطاء رقيق لكلّ شخصين، بسبب شحّها بحوزتنا، وغالون كلوروكس” يقول رئيس وحدة إدارة الكوارث الذي يؤكد السعي إلى زيادة هذه التقديمات للنازحين في البيوت “وهو ما نعمل عليه مع المنظمات والأجهزة الرسمية”. ويثقل واقع شحّّ التقديمات كاهل الأسر المضيفة التي فتحت بيوتها، بسبب أوضاعها المادية لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد، فتكون الفرش هي بمثابة الحاجة الوحيدة التي ّيتمّ تأمينها، وهي حاجة أساسية باعتبار أنّ أغلب المنازل التي تأوي نازحين لا يوجد فيها أسرّة كافية بطبيعة الحال لهذا العدد من الضيوف.

متطوّعة تُدخل بيانات النازحين في مهنية صور

الجنوب بين إيواء النازحين والقلق المشروع والتحضّر للأسوأ 

في الأيام الأولى لبدء المعارك، ساد التوتّّر كل مناطق الجنوب، أقفلت بعض المدارس والأعمال، ونزح كثيرون من مناطق صور والمحيط، خوفًا من حرب واسعة النطاق، فيما ذكريات حرب تموز ومشاهد مجازر غزة شاخصة أمامهم. يوم الأربعاء، عادت إحدى الأسر إلى منطقة المساكن في صور إثر نفاذ ميزانيتها بعد رحلة نزوح أخذتها إلى بيروت ثم عاليه على مدى أسبوعين، لتُبقي على منزل استأجرته احتياطيًا “تحسّبًا لاندلاع الحرب فجأة”. والنزوح من المناطق المصنّفة “توتر منخفض” أقدم عليه من يملك من المال ما يكفي لأخذ خيار مماثل كـ “تدبير وقائي”، إضافة للعائلات التي انتقلت إلى منازل تملكها أصلًا في العاصمة، أو وجدت من يقدّّم لها منزلا شاغرًا خارج الجنوب، وعددها ليس قليلًا. رغم ذلك، فإنّ الشوارع في المنطقة تعجَّ بالحياة اليوم، ولا يبدو أنّ أعداد من نزحوا تركت آثارها على مجرى الحياة فيها.

يقول يوسف، الإابن الأكبر في هذه الأسرة، إنّّ “شبح حرب 2006 هو الذي دفع أهله لمغادرة منطقة صور، ففي ذلك العدوان اندلعتْ الحرب فجأة فقُصفت الجسور وقطعت الطرق خلال ساعات، واستشهد كثيرون وهم في سياراتهم يحاولون النزوح، فيما علق الآلاف ضمن مناطق القصف”. وقد واجهت الأسرة ارتفاع أسعار الإيجارات في مناطق الجبل وبيروت، والتي تراوحت بين 1000 و3000 دولار شهريًا، بحسب شهادات من التقتهم “المفكرة”، فيما “كان البعض يطلب سعرًا كبدل إيجار صباحًا فنتّفق معه، ليرفعه بعد ساعات”، بحسب يوسف. وقد وثقت شهادات الأهالي لجوء أصحاب شقق إلى محاولة التربّّح من الأزمة عبر استغلال حاجة النازحين إلى مكان آمن خارج مناطق الخطر، أو المناطق المصنّفة غير خطرة.

أسرة أخرى من سكان منطقة الحوش مثلًا استأجرت بيتًا في منطقة الزلقا من دون أن تنزح إليه، ليكون جاهزًا “في حال توسّع نطاق المعارك أو شنت إسرائيل حربًا شاملة”. بدورها أمال، المعلمة المتقاعدة، انتقلت من صور إلى منزل أصدقاء لها في محيط زغرتا مع أولادها وأحفادها، ولا تزال هناك. تقول آمال “أردت أن أحمي أحفادي من جو التوتر الذي نعيشه، ومن خطر اندلاع الحرب بين لحظة وأخرى”. تتذكر أمال كل الحروب التي عاشتها، بل تعود بذاكرتها إلى أيام الاحتلال، لتسرّ لنا هاجسها “لا أريد أن يعيش أحفادي ما عشته”. أخذت آمال قرارها وعادتْ عنه مرات عدة خلال الأسبوع الأوّل من الأحداث، لتحسمه ليلة استشهاد الصحافي عصام عبدالله “رأيت في استهداف الإعلاميين مؤشّرًا على أنّ العدو يخرج عن قواعد الاشتباك ويستهدف سيارات مدنية وصحافيين من دون سابق إنذار”.

ويعتبر أهالي المنطقة أنّ اندلاع الحرب هو رهن حدث مفاجئ يخرج عن “قواعد الاشتباك”. وصوت قصف الغارات الإسرائيلية في قرى الحدود يتردّد صداه في مدينة صور على مدار ساعات النهار والليل، إضافة إلى هدير طائرات الاحتلال التي تخرق جدار الصوت تارة، أو تحلّّق على ارتفاع منخفض تارة أخرى. ورغم أنّ الحياة شبه طبيعيّة في المدينة والقرى المحيطة، إلّا أنّّ الحرب هي حديث الجميع. منتصف ليل الأربعاء الخميس الماضي، دوّى صوت القصف في مدينة صور 5 مرات خلال 20 دقيقة، وفيما تأخرت الأخبار العاجلة عن إيضاح أسبابها، كانت تلك من المرات المتكررة يوميا التي يسأل فيها الجنوبيون أنفسهم “هل حدث تصعيد ما فتبدأ الحرب الآن؟”. بالمثل، دوّى فجر أمس الجمعة، صوت انفجار غير معتاد عند الأطراف الشمالية لقضاء صور، فهرعت نور، ابنة آمال، إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتستفسر عن سبب هذا الصوت، وتتصل بأمها تقول لها إنّها قد تلحق بها إذا ما لمست تصاعدًا للتوتر. ونور كانت قد تركت بيت النزوح في زغرتا وعادت إلى منزلها قبل أيام لكي يتسنّى لابنها الالتحاق بالعام الدراسي خصوصًا أنّ السنوات الدراسية الأولى لهادي ذي السنوات الستة كانت معلّقة بين إضرابات وكورونا.

في المقابل، يقول عدد كبير من الشبّان التقتهم “المفكرة” في صور، إنّهم لا يخططون للنزوح في حال الحرب، بل للتطوّع في مساعدة النازحين الذين قد يأتون إلى المدينة، لاسيّما أنّ صور كانت نقطة نزوح وتجمّع للصحافيين خلال عدوان تموز 2006، إضافة إلى مساعدة عائلات لا تضع النزوح بين خياراتها، معتبرة أنّ “الله بيحمي، لوين بدنا نتهجر”، بحسب كلمات أم أيمن التي تسكن عند الواجهة البحرية في صور، ولم تنزح سوى مرة واحدة في حياتها وذلك عام 1998، حينما قصف الاحتلال الإسرائيلي الطابق العاشر في المبنى الذي تسكنه.

ويقول كريم عواضة، وهو ناشط محلي في الـ27 من عمره، إنه وزملاؤه في جمعية شباب صور يعدّون خططًا للتطوّع في مساعدة النازحين حال اندلاع حرب، مستفيدين من خبرتهم في توزيع المساعدات وخدمة الأهالي خلال وباء كورونا. ويكشف كريم عن التواصل مع الكثير من المغتربين وبعض الميسورين للاتفاق معهم على تأمين مساعدات وحصص مما قد تحتاجه العائلات التي قد تأتي إلى صور، إضافة إلى أسر وعائلات المدينة، خصوصًا أنّه وفي حال الحرب، قد تغلق المحال التجارية ويصبح هناك شح في السلع الغذائية والحياتية. ويضيف “نحن كشباب مستقلون عن القوى السياسية المحلية، لنا دور محلي في هكذا أزمات، تمامًا كما ننشط في القضايا البيئية والاجتماعية والسياسية وصولا إلى التظاهر والاحتجاج طوال أيام السنة، ونحن، كما نتقن المعارضة السياسية، فإننا نتقن القيام بواجبنا تجاه مجتمعنا بما نعرفه ونقدر عليه”.

يعرف الجنوبيون جيدًا رائحة الحرب ومرارة النزوح، وهم إذ تختلف أساليب تعاملهم مع تصاعد التوتر عند الحدود، فإنّهم متروكون حتى اللحظة من قبل دولتهم التي تقول إنها تتحضر للسيناريوهات المحتملة، من دون أن يلمس الناس جدية هذا التعامل وواقع اشتعال الجبهة الحدودية التي الجنوب كله على وقعها، لتقوم على الأقل بمسؤولياتها تجاه الجنوبيين من تأمين استجابة طارئة لحاجاتهم المتزايدة، وهم الأقرب إلى الجبهة والأكثر تأثرًا بأحداثها. حتى ذلك الحين، فإنّ رياسة، أمال، نور، سمر، حسين، يوسف، أم علي، منال، كريم، نور وغيرهم ممن التقيناهم، ومعهم سائر الجنوبيين، سيبقون يفعلون ما يتقنونه جيدًا: عيش الحياة بطولها وعرضها، وبسلمها وحربها، في معادلة صعبة يوازنون فيها بين الاحتماء من خطر استهدافهم كمدنيين إذا ما اجتاحت طائرات العدوان الإسرائيلية سماءهم، وبين الصمود حتى آخر حبة زيتون جاء موعد قطافها، وآخر ورقة تبغ يبست على سيخها، تنتظر  تسليمها وقبض ثمنها الذي تعتاش منه عائلات وقرى بحالها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في السكن ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني