أصدر ديوان المحاسبة اليوم، قرارا بحجب الموافقة المسبقة عن توقيع صفقة تشغيل القطاع البريدي لمدة تسع سنوات. وكان وزير الاتصالات جوني القرم استأذن الديوان من قبل لتوقيع هذه الصفقة لصالح التحالف المكوّن من Merit Invest و Colis Prive France (وكلتاهما مملوكتان من الشركة الفرنسية CMA CGM) وهي الجهة الوحيدة التي تمكّنت من تقديم عرض في المزايدة التي أطلقتها وزارته في تاريخ 12/7/2023. وقد انبنى القرار الصادر عن الهيئة المكوّنة من الرئيس عبد الرضى ناصر والمستشارين محمد الحاج وجوزيف الكسرواني، على مجموعة من الاعتبارات سنفصلها أدناه في سياق عرضها، على أن نبدي ملاحظاتنا في أعقاب تفصيلها.
اعتبارات الديوان لحجب الموافقة عن صفقة البريد
بنى الديوان قراره على مجموعة من الاعتبارات، أبرزها الآـتية:
عدم إجراء دراسات تحليلية أو جدوى للمشروع
إن الإدارة أخلّت بموجبها بالإعداد للصفقة، حين أطلقت مزايدة لتلزيم تشغيل البريد لمدة 9 سنوات من دون اجراء دراسة تحليلية للمشروع أو دراسة للجدوى لغاية تحديد الإيرادات الفعلية المتوقعة أو السعر الأدنى للطرح. وقد أورد الديوان هذه الحجة بعدما عجز مدير عام البريد عن تزويده بأي دراسة من هذا النوع أو إعطاء أي تفسير للنسبة المئوية المتدنية العائدة للدولة (10%) من إيرادات البريد والتي وردت في دفتر الشروط.
تعديل المؤهلات على مقاس عارض محتمل وعلى نحو لا يتناسب مع الوظائف المتوخاة من الصفقة
إن الإدارة أخلّت في واجبها في تحديد مؤهلات مناسبة للمشاركة في المزايدة. وإثباتا لذلك، توقف الديوان مطولا أمام واقعتين: (1) أنه كان تم إبطال مزايدة البريد الحاصلة في تاريخ سابق (30/3/2023) بتوصية من هيئة الشراء العام على خلفية أن العارض الوحيد آنذاك (وهو نفسه العارض في المزايدة موضوع هذا القرار) لم يكن يتمتّع بالمؤهلات المشترط توفرها في دفتر الشروط المتصل بها، سيما فيما يتعلّق بنطاق الخدمة البريدية بعدما تبيّن أن الشركة العارضة ليس لها خبرة أو نشاط في إدارة مكاتب بريد بل فقط في نقل طرود لصالح الشركات التجارية أو الأفراد، (2) أن الإدارة أقدمتْ قبل إطلاق المزايدة اللاحقة المعروضة نتائجها على الديوان على تعديل دفتر الشروط وبخاصة لجهة المؤهلات المطلوبة ومعايير التقييم على نحو مكّن العارض المستبعد آنذاك من تقديم عرض جديد بعدما باتت مواصفاته تتوافق مع المزايدة الجديدة. وعليه رأى الديوان أن الإدارة إنما عمدت إلى “تعديل وتبسيط وتهوين المؤهلات ومعايير التقييم” على نحو جعلها “على مقاس” العارض الوحيد والذي تم استبعاده من قبل. وهنا تساءل الديوان: “كيف يمكن للإدارة أن تقوم بتعديل دفتر شروط يفترض أن يكون تمّ وضعه تماشيا مع حاجات تنوي تلبيتها وأهداف تتوخاها من ذلك (إدارة مكاتب البريد)؟ وكيف يمكن لشركة تحمل ترخيصا في نقل الطرود البريدية أن تقوم بتشغيل المرفق العام البريدي في لبنان وتحقيق الأهداف والمنافع الاستراتيجية المحددة في دفتر الشروط؟” وقد ذهب الديوان إلى حدّ التساؤل على نحو يعكس عبثيّّة التعديل الحاصل على دفتر الشروط: “هل يمكن لشركة متخصصة بنقل مواد البناء من ترابة وحديد وخلافه أن تقوم بتشييد المباني والعمارات؟ هل يمكن لشركة متخصصة بصناعة إطارات السيارات وإطارات المركبات من تصنيع السيارات والمركبات؟ هل لديها القدرة على ذلك؟” واللافت أن الديوان سارع إلى إعطاء الجواب بنفسه وهو النفي حتما ليخلص إلى أن هذا التعديل لا يصبّ في مصلحة الإدارة بأيّ شكل من الأشكال. وعليه أشار الديوان بأن هذا التعديل يفتقر الى الموضوعية والشفافية والنزاهة وأنه غير مبرّر ويتعارض مع المبادئ المنصوص عنها في قانون الشراء العام التي تفرض أن يتمّ تحديد المؤهلات بشكل يتناسب مع موضوع الشراء (مادة 7). لا بل بدا الديوان من خلال ذلك وكأنه يرجحّ ضمنا فرضيّة التواطؤ بين الإدارة المتعاقدة والعارض الوحيد. وقد عزّز هذه الفرضيّة حين تساءل من باب الاستفاضة: “كيف قامت لجنة التلزيم في المزايدة السابقة أي قبل تعديل المؤهلات بقبول العارض رغم عدم توفر شرط المؤهلات الذي كان مفروضا آنذاك؟”
وضع مهلة غير كافية لتقديم العروض
الإخلال الثالث الذي توقف عنده ديوان المحاسبة، هو قصر المهلة التي وضعتها الإدارة لتقديم العروض. وعليه، رأى الديوان أن مهلة الـ 5 أسابيع هي مهلة لا تكفي كي يتسنّى للراغبين من المقاولين التقدّم الى المزايدة وذلك على ضوء أهمية المهامّ المطلوبة من العارضين لإنجاز عرضهم وفق دفتر الشروط وتعقيداتها. وهنا تساءل الديوان بعد تفصيل هذه المهام ومنها وجوب زيارة الموقع أي مكاتب البريد في لبنان: “هل يمكن لأيّ عارض خصوصا العارض المتواجد خارج لبنان أن يقوم بكلّ هذه المهام ضمن المدّة المعطاة من قبل الإدارة أي خمسة أسابيع؟” وهنا ايضا سارع الديوان ليجيب بالنفي حتما “حيث لن يستطيع أي عارض أن يقوم بكل هذه الموجبات والزيارات والخطط والتحضيرات مهما أوتيَ من قدرات خلال 5 أسابيع”. وقد عزز الديوان موقفه من خلال الاستشهاد بالمبادئ التوجيهية للبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادية والتنمية والمفوضية الأوروبية. ولم يفتْ الديوان في آخر تحليله في هذا الخصوص أن يشير إلى أن قصر المدة إنما “شكل امتيازا للجهة العارضة طالما أنها بدت الوحيدة أو إحدى الجهات القليلة التي تسنّى لها وقت طويل للتعرّف على الواقع اللبناني بحكم تقدمها بعرض سابق في الصفقة نفسها”.
قبول العرض الواحد خلافا لمبادئ قانون الشراء العامّ
من جهة رابعة، رأى الدّيوان أنّ الإدارة خالفت عنوة قانون الشراء العام حين قبلت المضيّ في الصفقة برغم وجود عارض واحد. وهنا ذكّر الديوان بالمبادئ التي تضمّنها قانون الشراء العام وبخاصة الفقرة 4 من المادة 25 منه وتحديدا الآتية:
- أن المبدأ هو إلغاء الشراء وأيّ من إجراءاته في الحالات التي لا يقبل فيها إلا عرض وحيد،
- لا يمكن الشذوذ عن هذا المبدأ إلا في حال توفّر الشروط الثلاثة المحددة فيها. وقد شددت الفقرة على وجوب أن تتوفّر هذه الشروط مجتمعة، بمعنى أنه يكفي أن يكون أحدها غير متحقق لعدم السير بعملية الشراء،
- أنه يحق للجهة الشارية أن تشذّ عن هذا المبدأ في حال توفر شروط الفقرة 4 المذكورة أعلاه مجتمعة، من دون أن تكون ملزمة بذلك، بمعنى أنه حتى في حال توفر الاستثناء، يتعين على الجهة الشارية أن تتخذ قرارها بقبول العرض الوحيد أو رفضه على ضوء ما تراه ملائما لتحقيق أهداف قانون الشراء العام.
وعلى ضوء ما تقدم، خلص الديوان إلى عدم استقامة الأخذ بالعرض الواحد في هذه القضية لعدم توفر أي من شروط المادة 25 فقرة 4. ومن أهم الشروط غير المتوفرة، أن الإدارة لم تلتزم في المزايدة بمبادئ وأحكام قانون الشراء العام، بدليل عدم تناسب المدة المحددة لتقديم العروض مع تعقيدات الصفقة وما تحتاج إليه من وقت لتحضير عرض مدروس وفق ما سبق بيانه، علما أن مخالفة هذه المادة أدّت عمليا إلى إقصاء سائر المستثمرين المحتملين الذين عبروا عن عجزهم عن تقديم عروض خلال المدة القصيرة من خلال الاعتراضات المقدمة من قبلهم، كل ذلك مقابل تعديل المؤهلات المطلوبة على نحو مكّن العارض الوحيد من ادعاء توفّر شروط المشاركة في الصفقة. وعليه، رأى الديوان أنه ليس بوسع الإدارة قبول العرض الوحيد طالما أنها أخلّت في معرض الإعلان عن الصفقة بمبدأيْ “تطبيق الإجراءات التنافسية كقاعدة عامة” و”إتاحة فرص متكافئة دون تمييز للمشاركة في الشراء العام”.
ومن الشروط الأخرى لقبول العارض الواحد والتي ركّز الديوان على عدم توفّرها، أن تكون الحاجة “ملحّة”. وللوصول إلى هذه الخلاصة، عمد الديوان إلى تفسير هذا المفهوم على نحو يحدّ من سوء استخدامه، بحيث استبعد إمكانية التذرّع بوجود حاجة ملحّة في الحالات التي لا يتوفر فيها عامل طارئ emergency وغير متوقع unforeseeable، وبخاصة “أن الجهة الشارية كانت على علم منذ سنوات بانتهاء مدة التلزيم السابق من دون أن تتخذ الإجراءات اللازمة في حينه”. في الاتجاه نفسه، استبعد انطباق هذا المفهوم بغياب أيّ خطر داهم على الحق بالحياة أو الأموال العامة أو الخاصة. أو حين تطول مدّة الصفقة لتصل إلى تسع سنوات، مما ينفي “القول بأنها تهدف إلى معالجة أمور طارئة وملحة أو التصدي لخطر داهم”. وقد أنهى الديوان رأيه في هذا الخصوص بسؤال يعكس عبثية موقف الإدارة وادعاءها بوجود حاجة ملحة، وقد جاء فيه: “وهل يمكن التوسع في تطبيق الاستثناء عند تلزيم مرفق اقتصادي هام ولمدة 9 سنوات؟؟”
فضلا عن ذلك وتاكيدا لصحة موقفه، أشار الديوان بشكل مفصّل إلى ورود كمّ من الأخطاء والبيانات الغامضة والمطاطة والمتباينة في دفتر الشروط ما يجعلها مخلّة بمبادئ المنافسة العادلة ودون المستوى المطلوب لتلزيم إدارة وتشغيل قطاع حيوي لمدة 9 سنوات.
كما فصّل الدّيوان الأضرار الماليّة المُحتملة على إيرادات الخزينة مكتفيا في هذا الإطار بمقارنة المخطط المعتمد لتقاسم الإيرادات في المزايدة موضوع القرار بالمخطط المعتمد لتقاسم الإيرادات في المزايدة السابقة بما يفهم منه أنّه تقدير للخسائر بالحد الأدنى.
ماذا يعلّمنا قرار ديوان المحاسبة؟
يثير القرار المذكور أعلاه في توجهه ومضمونه ملاحظات عدة أهمها الآتية:
- قرار يسهم في تعزيز مبادئ الشفافية والمنافسة العادلة في صفقات الشراء العام
عمد الديوان في قراره إلى توضيح العديد من المبادئ والمفاهيم والعبارات الواردة في قانون الشراء العام، على نحو يتماشى مع المبادئ التوجيهية الدولية، سواء في ما يتصل بكيفية إعداد دفتر الشروط أو تحديد مهلة العرض (مادة 12) أو شروط قبول العارض الواحد (مادة 25). وعليه، أسهم الديوان في هذا الخصوص في تعزيز مبادئ قانون الشراء العام من خلال توضيحها وتفسيرها والأهم تطبيقها في السياق اللبناني، مع ما يستتبع ذلك من جبه ممارسات غالبا ما استخدمت لنسف مبادئ الشفافية والمنافسة ووثقتها المفكرة القانونية، مثل وضع مهل قصيرة لتقديم عروض أو التوسع في تعريف الضرورة لتبرير الصفقات الرضائية من دون أي منافسة.
وقد بدا دور الديوان بالغ الأهمية في هذا الخصوص. فلئن تمّ تضمين قانون الشراء العامّ قواعد بالغة الأهمية لضمان المنافسة العادلة والشفافية في صفقات الشراء العام، فإنّ تحقيق هذه الغاية لا يتمّ فقط بوضع نصوص وتشريعات جيدة، إنّما أيضا بحسن تفسيرها وتطبيقها على ضوء المبادئ التي انبنتْ عليها وعلى نحو يجعلها قادرة على تحقيق الغايات المرجوة منها. وبالطبع، تكون الفطنة المطلوبة مضاعفةً في الفترات الأولى لتطبيق القانون، والتي ينتظر أن يتمّ فيها تحديد معاني القانون ومسار تطبيقه ومدى التزام واستيعاب الإدارات العامة لها، بما يتماشى مع غاياته وأهدافه.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن الديوان كان سبق واتخذ قرارا آخر بالغ الأهمية لجهة إخضاع صفقة المطار لقانون الشراء العام، في مواجهة القراءة المغلوطة له من قبل وزير الأشغال العامة آنذاك.
- تكامل بين هيئات الرقابة في التصدّي للممارسات المخلّة بقانون الشراء العام
الأمر الثاني الذي تجدر الإشارة إليه هو التكامل الحاصل بين هيئات الرقابة في التصدي للممارسات المخلة بقانون الشراء العامّ. ولتبيان ذلك، يجدر التذكير أن هيئة الشراء العام كانت أوصتْ من قبل بعدم السير بصفقة تشغيل البريد في المزايدتين الحاصلتين قبل المزايدة الأخيرة، وبخاصّة لعدم توفر مؤهلات العارض الوحيد وهو التحالف نفسه الذي عاد وفاز في المزايدة الأخيرة موضوع هذا القرار. ومن البيّن أن توصيات هيئة الشراء العام في المزايدات المتصلة في هذه الصفقة شكّلت منطلقا لأعمال الديوان، وبخاصة لجهة مقاربة المؤهلات المطلوبة أو معايير التقييم.
وفي حين اكتفت هيئة الشراء العام في إبداء تحفظاتها على المزايدة الأخيرة لصفقة البريد محملة وزير الاتصالات مسؤولية المخالفات التي تضمنتها، جاء ديوان المحاسبة ليؤدي دوره في تصويب مسار المزايدة وإشهار الضوابط والخطوط الحمراء في وجه هذا الوزير.
ورغم أهميّة تكامل هاتيْن الهيئتين (هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة)، فإن انزلاق وزارة الاتصالات المتكرر وعجزها عن إنجاز صفقة تكون على مستوى المسؤولية المناطة بها، إنما يشكل عامل قلق ويطرح سؤالا كبيرا حول مدى صوابية نقل مسؤولية إجراء الصفقات العامة من إدارة المناقصات إلى الإدارات العامة رغم كثرة العيوب التي تشوب أعمالها، وهو الأمر الذي تمّ بموجب قانون الشراء العام. ألم يكن من الأفضل أن تبقى إدارة المناقصات مركزية بانتظار أن تصل الإدارات العامة إلى مستوى أفضل من الكفاءة والنزاهة والثقة العامة؟
- هل ترضخ السلطة التنفيذية لقرار ديوان المحاسبة؟
أخيرا، يجدر التذكير أن وزير الاتصالات يجد نفسه تبعا لهذا القرار أمام حلّ من حلين: إما الرضوخ له والالتزام بتوصياته بإجراء مزايدة جديدة وإما إحالته إلى مجلس الوزراء بهدف اتخاذ قرار يتيح له مخالفته على نحو يمكّنه من توقيع الصفقة بمباركة السلطة التنفيذية ككلّ. يصعب تخيّل ما سيقدم عليه الوزير قرم ومن بعده مجلس الوزراء في هذا الخصوص، إنما يؤمل أن تشكّل مبررات القرار بفعل قوته حائلا دون القيام بأي مسعى للتنصّل منه. إذ أن من شأن أي مسعى مشابه من قبل وزير الاتصالات أو الحكومة أن يشكل ما يشبه إقرارا فاقعا بانتهاج سوء الإدارة والفساد. فلنراقب.
للاطّلاع على قرار ديوان المحاسبة، إضغطوا هنا
نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان