الشراء العام في لبنان: انحراف القانون في سبيل نسف المنافسة

الشراء العام في لبنان: انحراف القانون في سبيل نسف المنافسة
رسم رائد شرف

صفقات الشّراء العام هي مجمل الصفقات التي تعقدها الدولة وسائر أشخاص القانون العام بطريقة أو بأخرى لتأمين حاجاتهم من لوازم وأشغال وخدمات، ويقدّر حجمها في لبنان بـ 20% من النفقات في الموازنة العامّة.

وفيما يهدف الشراء العام إلى تقديم لوازم وأشغال بأفضل جودة وبأقلّ كلفة للدولة، بطريقة تحمي مصالحها الماليّة كما مصالحها الفنّية أو التقنيّة، غالباً ما تنتهي الصفقات في لبنان بمعدّات أو بنية تحتيّة غير ملائمة، ما يشير إلى وجود شبهات فساد. هذا ما تؤكّد عليه الدراسات التي تصف منظومة الشراء العام في لبنان بالمنظومة ذات الجودة المتدنيّة مقارنة بالبلدان المجاورة[1]، كما وإصرار الجهات المانحة لا سيّما في سياق مؤتمر سيدر -وقد ذكّر به الرئيس الفرنسي خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان عقب مجزرة 4 آب- على إقرار قانون جديد وعصري للشراء العام، يتلاءم مع توجّهات القانون المقارن الحريصة على تأمين المنافسة العادلة في نطاق الصفقات العموميّة.

في إطار الإعداد لعددها الخاص حول الاحتكارات، التقت “المفكّرة القانونية” مدير إدارة المناقصات جان عليّة للوقوف على رأيه في ما يتعلّق بالممارسات المعتمدة في مجال صفقات الشراء العام، لا سيّما لجهة فشلها في حماية المنافسة وإسهامها في تعزيز الاحتكارات. وقد شدّد عليّة على أنّه بغية تأمين منظومة شراء عام سليمة يقتضي تفعيل ثالوث تتكامل عناصره المؤلّفة من: نصّ قانوني وإدارة فعّالة تطبّق النص بحسن نيّة (موظّفين عامين) وفقاً لأهداف الشراء العام وأخيراً توفّر الرقابة مع فصل هذه العناصر عن بعضها البعض بما يمنع تركزّها بيد سلطة معيّنة.

تهدف هذه المقالة إلى شرح أهم قواعد الشراء العام التي يتم مخالفتها لدى إقامة الصفقات مستندين إلى شرح عليّة لكيفية مخالفتها.

في ما خصّ النصوص، ينظّم حالياً الشراء العام في لبنان أكثر من نص قانوني. فيشمل قانون المحاسبة العموميّة طرق التعاقد لغايات الشراء العام (مناقصات، استدراج عروض، اتفاقات بالتراضي…)، بينما يتناول المرسوم الاشتراعي 82/83 إدارة المناقصات التابعة للتفتيش المركزي وأصول عملها، بدون أن ننسى بعض النصوص المتعلّقة بإجراء المناقصات لصالح المؤسسات التابعة للدفاع الوطني أو الأحكام الخاصة بالبلديّات غير الخاضعة لقانون المحاسبة العموميّة. وتشكّل منظومة الشراء العام في لبنان منظومة عابرة للمؤسّسات والإدارات العامّة، تنظّم عمل الإدارة في أكثر من مرحلة في عمليّات الشراء، من تحديد حاجاتها إلى التعاقد بنفسها في بعض الحالات، إلى دور إدارة المناقصات في تنظيم الشراء أو دور ديوان المحاسبة في إجراء الرقابة المسبقة على بعض الصفقات التي تتعدّى قيمتها مبالغ معيّنة، بالإضافة إلى مراسيم خاصّة تتعلّق ببعض نواحي إجراء الصفقات، كتنظيم الإقصاء من الاشتراك في تنفيذ الصفقات العامّة أو تحديد شروط تسلّم الصفقات أو دفاتر الشروط العامّة. ومن شأن هذا التعدّد للجهات المعنيّة التسبّب بتداخل صلاحيّات المؤسّسات المعنيّة وتعزيز مخاطر الفساد.

فكيف يحصل التفلّت من قواعد الشراء العام في لبنان؟

1-التفلّت من مبدأ إجراء صفقات اللوازم والأشغال بصيغة المناقصة العمومية

تضع المادة 121 من قانون المحاسبة العموميّة مبدأ عقد صفقات اللوازم والأشغال والخدمات بصيغة المناقصة العمومية متى أمكن ذلك. وتعتمد هذه الصيغة في جميع الأنظمة النموذجيّة على صعيد الشراء العام، لما توفّره من أقصى درجات المنافسة والشفافيّة.

وعليه، وإذ سمحت المادة ذاتها بإجراء صفقات اللوازم والأشغال بصيغ أخرى عن المناقصة العموميّة مثل المناقصة المحصورة، أو استدراج العروض، أو الاتفاق بالتراضي، أو بموجب بيان أو فاتورة، (وهي بطبيعتها تقدّم ضمانات أقلّ على صعيد الشفافيّة والمنافسة)، فإنّها تفترض عدم اللجوء إلى ذلك إلّا في حالات الضرورة.

ففي المناقصة المحصورة، يعود للإدارة صاحبة العلاقة أن تضع دفتر شروط خاصّاً يمكن تضمينه مؤهّلات إضافيّة في حال اعتبار أنّ طبيعة اللوازم أو الأشغال لا تسمح بفتح باب المنافسة أمام الجميع، فتقرّر الإدارة أن تحصر المناقصة بفئة محدودة من المناقصين تتوفّر فيهم المؤهّلات المالية والمهنية المطلوبة. أمّا في استدراج العروض مثلاً، لا يكون واجب إعلان إجراء المناقصة ملزماً، إذ يمكن للإدارة أن تكتفي بتبليغ المعلومات المطلوبة إلى من تعتبر أنّه يعنيهم الأمر فلا يجري استدراج العروض بشكل علني.

أمّا الاتفاق بالتراضي، فيشكّل اتفاقاً بين الإدارة ومؤدّي لوازم أو أشغال معيّن. وهو لا يشترط قيمة أقصى عندما يعقد الوزير النفقة. فتحدّد المادة 147 من قانون المحاسبة العموميّة الحالات التي تسمح بعقد اتفاقات بالتراضي، ومنها الحالة التي تقوم بها بذلك لأنّ “اللوازم والأشغال والخدمات لا يمكن وضعھا في المناقصة، إمّا لضرورة بقائھا سرية، وإما لأن مقتضيات السلامة العامة تحول دون ذلك، شرط أن يقرر ذلك الوزير المختص”.

تكمن المشكلة اليوم، وفق عليّة، في أنّ اللجوء إلى هذه الصيغ، يتمّ كما لو أنّها صيغ بديلة موازية لصيغة المناقصة المفتوحة من دون التثبّت من توفّر شرط الضرورة، حتّى باتت قاعدة إجراء الصفقات بالمناقصة العمومية هي الاستثناء اليوم. ويمكن الاستدلال إلى ذلك من مؤشّرات معيّنة مثل كون نسبة المناقصات المفتوحة من صفقات الشراء لا تتجاوز 10% من مجمل الصفقات.

وتفضلّ بعض الإدارات إجراءات استدراج العروض خصوصاً أنّها بهذه الصيغة تتوجّه إلى أشخاص معيّنين حسب استنسابيّتها فتُقصي من تشاء بدون علم آخرين عاملين في المجال نفسه ممن لم يعلموا باستدراج العروض ما يؤثر مباشرة على الشفافية والمنافسة. كما تتكاثر الاتفاقات بالتراضي، بخاصة أنّ القانون يفتح المجال أمام تكاثر هذا النوع من التعاقد، فلا يشترط قيمة أقصى بالنسبة للصفقات التي يعقدها الوزير ولا يوجب عليه تعليل قرار فرض السريّة. وبالإضافة إلى ذلك، تلحظ المادة 150 من القانون أنّ الخدمات التقنية (دروس ووضع دفاتر شروط ومراقبة تنفيذ أشغال ومشاريع إلخ…) تعقد بالتراضي أيضاً مهما بلغت قيمتها.

إحدى الحيل الأخرى التي تستخدم لتغيير صيغة الصفقة، بحسب عليّة، تتمثل في تجزئة النفقات. فقد منع القانون تجزئة النفقات إلّا إذا رأى المرجع الصالح لعقد النفقة أنّ ماهية الأشغال أو اللوازم أو الخدمات المراد تلزيمها تبرّر ذلك. أمّا سبب المنع فهو أنّ لكلّ منصب سقوفاً محدّدة لعقد النفقات وأنّ التجزئة قد تُتيح التحايل على هذه السقوف. لكنّ النصّ في صياغته يُبيّن تضارب مصالح، حيث أنّ من يعقد النفقة هو من يقدّر إذا ما كان يجب تجزئة النفقة أم لا وبالتالي تتوفّر المصلحة لديه للتجزئة لإبقاء صلاحيّة عقد الصفقات بيده. كما أنّ عدم تجزئة النفقات هي من الأمور التي تدقق فيها إدارة المناقصات بشكل خاص في ملفّ المناقصة وفي حال اشتبهت بوجود تجزئة نفقات، تعيد الملف مع الملاحظات إلى الإدارة خلال 5 أيام من استلامه وتبلّغ الملاحظات للتفتيش المركزي على أن تبلّغ الإدارة جوابها خلال 5 أيام. نلحظ هنا أنّ رأي الإدارة غير ملزم.

على صعيد الواقع، تلجأ العديد من الإدارات إلى تجزئة النفقات لإتمام عقودها وقد أشار عليّة في المقابلة، إلى خطورة ذلك حيث أنّ إحدى الوزارات أجرت أربع وأربعين صفقة استدراج عروض بقيمة 3 مليارات و300 مليون ليرة، كلّ ذلك وفقاً لتقدير الوزير. يقع على أيّ قانون شراء جديد إجراء رقابة مسبقة على التجزئة عبر مراقبة وحدة الصفقة أو تكرارها ووضع روادع تحول دون استمرار الصفقة وعدم الاكتفاء بإدانتها.

2- محاولة تهميش إدارة المناقصات

أنشئت إدارة المناقصات بالمرسوم رقم 2866 الصادر بتاريخ 16/12/1959 الذي ينظّم عملها. كلّفت بموجب هذا النصّ بمهام إدارية ومهام رقابية. على صعيد الدور الإداري، يكلّف النصّ إدارة المناقصات بتنظيمها وبإجرائها في الإدارة. يتحقّق ذلك عبر وضع برنامج المناقصات السنوي قبل إقرار الموازنة العامّة، حيث يتعيّن على كلّ إدارة أن تضع برنامج مناقصات سنوياً مع تحديد المواعيد وأن ترسله إلى إدارة المناقصات التي عليها أن توحّدها كما عليها إعادة النظر في البرنامج السنوي بعد إقرار الموازنة حسب ما تمّ إقراره على صعيد الاعتمادات المخصّص لكلّ إدارة. ومن شأن هذا الدور أن يسمح باعتماد حسابات سليمة وأن يقلّل من سوء إدارة المال العام عبر تحديد الحاجات بشكل مسبق وتأمين اعتمادات لها حسب قدرات الدولة الماليّة كما جمع كلّ نفقات الشراء العام في مكان واحد. ينشر البرنامج السنوي المعدّل بعد إقرار الموازنة، ويعمل به بدون توفّر إمكانية تعديل التواريخ المحدّدة فيه.

كما تتولّى إدارة المناقصات من حيث المبدأ مهامَ رقابية، حيث تكلّفها المواد من 16 إلى 18 من نظام إدارة المناقصات بالتدقيق في المناقصات ودفاتر الشروط الخاصّة. فتُحيل الإدارات إلى إدارة المناقصات ملفّ كل مناقصة قبل الإعلان عنها بأسبوعين على الأقلّ. تدقّق إدارة المناقصات في محتويات الملف وتتثبّت من خلوّه من المخالفات والنواقص. وتتأكّد من بين عناصر أخرى، من خلوّ دفتر الشروط الخاصّة والمستندات من كلّ ما من شأنه تقييد المنافسة أو ترجيح كفّة أحد المنافسين وعدم تجزئة الأشغال أو اللوازم بغية التهرّب من تطبيق الأحكام القانونية وبدون أيّ مبرّر فنّي أو مالي. وإذا تبيّن لإدارة المناقصات أنّ في الملف نقصاً أو مخالفة، تعيده إلى الإدارة المختصّة مع الملاحظات، في مهلة خمسة أيام من تاريخ استلامه وتبلّغ نسخة عن هذه الملاحظات إلى رئاسة التفتيش المركزي. وعلى الإدارة المختصّة أن تُعلم إدارة المناقصات خلال خمسة أيام بالنتيجة التي اقترنت بها ملاحظاتها. فلدى إدارة المناقصات إذاً دور رقابي مهمّ على صعيد ضمان شروط منافسة حقيقيّة وعدم تنظيم مناقصات هادفة إلى فوز منافس معيّن تبغي الإدارة التعاقد معه لسبب أو آخر، مع أنّ قرارتها تفتقر إلى القوّة الإلزاميّة التي تضمن فعاليّة تدخّلها، إذ أنّ النصّ القانوني يلزم فقط باللجوء إلى إدارة المناقصات لتقديم ملاحظاتها ولا يلزم الإدارة بالأخذ بهذه الملاحظات.

بحسب عليّة، تتمثّل أبرز المشاكل في الأمور الآتية:

  • تمنّع الوزارات عن وضع البرنامج السنويّ لكونه يقيّد صلاحياتها ويفرض رقابة مسبقة عليها. وقد برّرت ذلك عموماً بعدم إقرار قانون موازنة، وهو مبرّر غير مقنع طالما أنّ ثمة حاجة أكبر في هذه الحالة لضبط النفقات،
  • حصول معظم المناقصات خارج إدارة المناقصات بل إنّ نسبة المناقصات الحاصلة داخلها لا تتعدّى 5% من كامل عدد المناقصات العمومية. ويسمح هذا الأمر للعديد من الإدارات العامّة التفلّت من رقابة إدارة المناقصات وشروطها وإجراء المناقصات داخلها وبعدّتها، مما يزيد من إمكانيات الفساد.
  • من أهم أسباب ضعف منظومة الشراء العامّ أنّ الوزارات تسيطر على الصفقات من أوّلها إلى آخرها. فالفساد المستشري في الشراء العام هو نتيجة حتميّة لتركّز مراحل إجراء الصفقات في الوزارات، بدءاً من تقدير الحاجة إلى تحديد صيغة الصفقة واتخاذ قرار تجزئتها أو عدمها، وصولاً إلى طريقة تعيين اللّجان وإعلان النتيجة بالوزارات، ثم التلزيم والتسليم. فإذا كانت إدارة المناقصات تشارك في تأليف لجان التلزيم[2] والاستلام[3] فهي تضمّ أيضاً أسماء يعيّنها الوزير وتعيّن بمراسيم في مجلس الوزراء ما يخفّف من استقلاليتها. كذلك الأمر بالنسبة لدفاتر الشروط العامّة التي تقرّ أو تمتنع الإدارة عن إقرارها إمّا للدفع بشركة معيّنة أو لمنع وضع شروط موضوعية تلزم السلطة بالالتزام بالقوانين كما حصل في ملف الفيول-أويل.
  • محاولة السلطة الحالية تعزيز هذا النهج وتنصيب الوزير ومجلس الوزراء ملكاً مطلقاً على صفقات الشراء عبر منح مجلس الوزراء سلطة تعيين صلاحيات مدير هيئة الشراء بمرسوم في اقتراح القانون الجديد ما يضرب قانون الشراء الجديد بكامله عرض الحائط.

3– ممارسات ملتوية لتفخيخ المناقصات بقصد إبعاد منافسين

فضلاً عن تجاوز مبدأ إجراء مناقصات عمومية في عمليات الشراء العام وتهميش دور إدارة المناقصات، يشير جان عليّة إلى ممارسات عدّة من شأنها الحدّ من المنافسة. ومن أبرزها الآتية:

أ-تخفيض مدّة الإعلان

يفرض قانون المحاسبة العمومية الإعلان عن المناقصات العموميّة والمحصورة قبل 15 يوماً من إجرائها في الجريدة الرسميّة وفي ثلاث جرائد محليّة[4] وهي مدّة قصيرة أصلاً حيث تبلغ في بلدان أخرى شهراً على الأقلّ وذلك لضمان أكبر قدر من الشفافية. كما يعلن عن أيّ تعديل على دفتر الشروط وفق المهل ذاتها. كذلك يسمح القانون بإجرائها في حالة الطوارئ خلال 5 أيام.

إلّا أنّ الإدارة باتت تطبّق تخفيض المهل بدون وجود ظروف تبرّر ذلك لدرجة أنّه، بحسب عليّة، باتت إحدى الوزارات تقوم اليوم بكامل صفقاتها مع تخفيض المهلة إلى خمسة أيام. يشكّل تخفيض مدة الإعلان على هذا الوجه إحدى أهم الممارسات المخلّة بالمنافسة والمشرّعة للفساد حيث يحدّ من فرص الأفراد للتهيؤ للتقدّم للمناقصات. وغالباً ما تكون الشركة التي تفوز بالعقد على علم مسبق بالمناقصة ممّا يؤشّر إلى وجود فساد وتواطؤ بينها وبين الإدارة.

ب-التلاعب بدفاتر شروط

توضع للمناقصات العامّة دفاتر شروط عامّة مصدّقة بمراسيم[5] تحتوي من بين أمور أخرى على المؤهّلات والشروط التي يجب أن تتوفّر للاشتراك فيها[6]. ويوضع لكلّ صفقة منها دفتر شروط خاصّاً تنظّمه الإدارة صاحبة العلاقة ويوقّعه المرجع الصالح للبتّ في الصفقة. ترسو مبدئياً المناقصة على من تقدّم بأدنى سعر، إلّا إذا كان دفتر الشروط يعلّق النتيجة على عناصر مفاضلة غير السعر، فيرسو في هذه الحالة الالتزام على من قدّم أفضل العروض.

بحسب عليّة، تهدف هذه الدفاتر إلى تحويل حاجات الإدارة الكمّية والنوعية إلى مقاييس ومواصفات بهدف إيجاد متعاقد يلتزم بها لتلبيتها. تؤدّي Libnor دوراً مهمّاً في وضع هذه المقاييس والمواصفات في دفاتر الشروط بطريقة تضمن منافسة حقيقيّة.[7]

يتمّ في العديد من الأحيان وضع دفاتر شروط على قياس شركة لضمان فوزها، كوضع كفالة معيّنة لفترة معيّنة لا تلبّيها إلّا شركة واحدة أو توضع بعض الشروط لاستبعاد بعض المنافسين. فتمّ في إحدى الحالات استبعاد الشركات الوطنيّة من بعض مناقصات المواد النفطيّة بحجّة محاولة الابتعاد عن منظومة الفساد الداخلية والحاجة إلى شركة عالميّة ذات خبرة.

ت-غياب السعر التقديري

تهدف صفقات اللوازم والأشغال إلى تأمين حاجات الإدارة بأقلّ كلفة ممكنة. إلّا أنّ النهج المعتمد اليوم من قبل هذه الأخيرة يقوم، حسب عليّة، على رؤية الاعتمادات المرصودة لإجراء الصفقات أوّلاً ثمّ عقد الصفقات بما يؤدّي إلى استنفاذها تالياً. النتيجة الحتمية لهذه الممارسات هي إجراء صفقات لا تسدّ الحاجات الفعليّة للإدارة ما يضغط على الموارد المالية للدولة فيحرم أخيراً الإدارة من تأمين حاجات حقيقية أخرى لها ويساهم في هدر موارد الدولة. وفي حين أنّ القانون يلزم بوضع مؤهّلات وشروط، فإنّه لا يلزم بوضع سعر تقديري بل يعطي خياراً للإدارة للقيام بذلك[8]. وغالباً ما تتذرّع الإدارة لعدم وضع سعر تقديري بالحرص على عدم انكشافه من أجل عدم الإضرار بالمنافسة. إلّا أنّ هذه الذريعة مردودة، بحسب عليّة، لإمكانية وضع سعر تقديري والقيام بتنزيل مئوي حيث يعتبر السعر الموضوع من قبل الادارة الحدّ الأعلى للصفقة التي تجري على أساس التنزيل المئوي وتعلن الإدارة عن الحد الأقصى للتنزيل الذي يمكن أن يُقبل به ويعتبر هذا التنزيل الحد الأدنى للصفقة. فمخاطر انكشاف السعر أقلّ من مخاطر الهدر والفساد.

4- غياب الرقابة

أما العنصر الأخير الذي يساهم غيابه في تعطيل الشفافية والمنافسة وحسن سير منظومة الشراء العام فهو النقص في ممارسة رقابة فعلية، سواء كانت هذه الرقابة إدارية أو قضائية.

أ – غياب اللوائح السوداء

بحسب عليّة، يتمتّع الوزير بصلاحيّة استثنائيّة تسمح له بالضغط على المتعهّد لتنفيذ الصفقة بشكل صحيح وقوامها إمكانية إقصائه عن المناقصات في حال خالف التزاماً سابقاً بما يشبه وضعه على لائحة السوداء. إلّا أنّه حتى الآن لم يُقصَ أحد، وهو أمر يبيّن غياب الرقابة القضائية التي تشمل المحاسبة رغم سوء تنفيذ العديد من الصفقات. أمّا نتيجة عدم الإقصاء فهي السماح للمتعّهد في الاستمرار في سوء أدائه وتحفيز المتقدّمين الآخرين على ذلك.

ب – النقص في رقابة الهيئات الإدارية

تعتبر رقابة ديوان المحاسبة المسبقة من المعاملات الجوهرية وتعتبر كلّ معاملة لا تجري عليها هذه الرقابة غير نافذة ويحظّر على الموظّف المختصّ وضعها قيد التنفيذ تحت طائلة العقوبة. وتخضع لها صفقات اللوازم والأشغال التي تفوق قيمتها 75 مليون ليرة وصفقات الخدمات التي تفوق قيمتها 25 مليون ليرة ومعاملات شراء العقارات التي تفوق قيمتها مئة مليون ليرة ومعاملات المنح والمساعدات والمساهمات التي تفوق 15 مليون ليرة[9]. ويقتضي البتّ بها خلال 10 أيام من إيداعها وفي حال طلب مستندات، يمنح الديوان خمسة أيام إضافية من تاريخ تسلّم المستندات. أما مخالفتها فتعرّض الموظّف لغرامة بالإضافة إلى الملاحقة الجزائية والإدارية[10]. ويعتبر رأي الديوان ملزماً إلّا في حال قرّرت الإدارة عرض الأمر على مجلس الوزراء[11].

تكمن المشكلة في هذه الرقابة، بحسب عليّة، في أنّه في حال لم يعط ديوان المحاسبة رأياً خلال هذه المهل، يحقّ للإدارة أن تستردّ المعاملة ويصرف النظر عن رأي الديوان[12]. باختصار يحرّر تقاعس الديوان في أداء عمله الإدارة من الرقابة المسبقة الإلزامية بخاصّة أنّ رقابة إدارة المناقصات لا تلزم الإدارة برأي.

أمّا رقابة الإدارة المؤخّرة فغايتها تقدير المعاملات المالية ونتائجها العامّة من حين عقدها إلى حين الانتهاء من تنفيذها على قيدها في الحسابات. وتوضع نتائجها في تقرير سنوي وتقارير خاصّة. إلّا أنّه حتى الآن لا تتّسم رقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة بالفعالية حيث أنّ الديوان لم يصل بعد إلى تدقيق حسابات سنة 2000.

فضلاً عن ذلك، يجدر التذكير بأنّ إدارة المناقصات تتولّى التدقيق في ملفّات المناقصات[13] وإبداء ملاحظاتها في حال تبيّن لها أنّ في الملف نقصاً أو مخالفة. إلّا أنّ دورها في هذا الخصوص يبقى غير ملزم للإدارة.

ت – الرقابة القضائية

بخصوص الرقابة القضائية، أمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

  • بحسب عليّة، ثمّة نقص حادّ في النصوص الخاصّة المتعلّقة بمخالفة قواعد صفقات اللوازم والأشغال حيث يمنع القانون كلّ ما يمسّ بالمنافسة والشفافية من دون أن يقترن ذلك بعقوبات زجريّة. فقانون العقوبات لا يعاقب إلّا الجرائم المتعلّقة بالموظفين من رشوة وصرف نفوذ واستغلال الوظيفة كذلك الجرائم المتعلّقة بالغش أو النكول بصفقات الشراء العام (عدم الالتزام بها) ولا يعاقب على استخدام صيغة تضرّ بالمنافسة لتلزيم صفقات اللوازم والأشغال.
  • يتبيّن عملياً في العديد من الصفقات التي تدور حولها شبهات فساد واقتراف أخطاء من قبل الوزراء أنّه ليس هناك اتجاه في لبنان لمحاسبة الوزراء شخصيّاً وذلك تحت لواء الخطأ المرفقي. إلّا أنّ عليّة يشير إلى أنّه يقتضي التفريق بين الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي ويقتضي توسيع مفهوم الأخير. فإذا لزّم الوزير صفقة بصيغة خاطئة أو ساهم بصفقة فساد يترتّب على ذلك مسؤولية شخصيّة عن خطئه ومن ماله الخاصّ.
  • أخيراً، وضع نظام مجلس شورى الدولة أصولاً مستعجلة للطعن في إجراءات المناقصة السابقة للتعاقد. ويتأتّى الإشكال من عدم إنشاء المحاكم الإدارية الابتدائية والتي يفترض أن يتولّى رؤساؤها النظر في هذه الطعون، وأيضاً من كون هذه الطعون لا تعلّق سريان المناقصات أو توقيع العقود، علماً أنّ صلاحية القضاء المستعجل تسقط فور توقيع العقود. يضاف إلى ذلك كلّ الانتقادات التي رصدتها “المفكرة القانونية” لأداء مجلس شورى الدولة.

 

نشر هذا المقال في العدد 68 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان. احتكارات المحاصصة الشاملة

 

  1. “The deliberate depression”, p36, World bank, 2020
  2. المادتان 8 و10 من نظام المناقصات.
  3. المادة 139 من قانون المحاسبة العموميّة.
  4. المادة 128 من قانون المحاسبة العمومية.
  5. المادة 125 من قانون المحاسبة العمومية
  6. المادة 126 من قانون المحاسبة العمومية
  7. المادة 23 و24 من قانون مؤسسة المواصفات والمقاييس الصادر في 23/7/1962
  8. المادة 126 من قانون المحاسبة العموميّة: يضم إلى دفتر الشروط الخاصة، كلما كان ذلك ممكناً كشف تخميني بالكميات والأسعار، جداول أسعار يتضمن وصفاً لكل نوع من أنواع اللوازم أو الأشغال أو الخدمات المراد تلزيمها، ويحدد لكل نوع سعراً مفقطاً.

    يعتبر السعر الموضوع من قبل الإدارة الحد الأعلى للصفقة التي تجري على أساس التنزيل المئوي وتعلن الإدارة عن الحد الأقصى للتنزيل الذي يمكن أن يقبل به ويعتبر هذا التنزيل الحد الأدنى للصفقة. وغالبا ما لا تضع سعرا تقديريا لأن النهج الحالي المعتمد لعقد النفقات في الإدارة في الإدارة هو رؤية الإعتماد المفتوح لتحديد

  9. المادة 35 من تنظيم ديوان المحاسبة.
  10. المادة 60 من تنظيم ديوان المحاسبة.
  11. المادة 40 من تنظيم ديوان المحاسبة.
  12. المادة 39 من تنظيم ديوان المحاسبة.
  13. المادة 17 من نظام المناقصات.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة ، سياسات عامة ، محاكم إدارية ، مؤسسات عامة ، قرارات قضائية ، تشريعات وقوانين ، مجلة لبنان ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني