أيام قليلة ويسدل الستار على النزاع القضائي بين القوى الوطنية المصرية المدافعة عن مصرية جزيرتي تيران وصنافير من جانب والنظام المصري من جانب آخر. فمن المتوقع أن تكتب نهاية هذا السجال القانوني والقضائي بين هؤلاء بهذا الشأن في 16 يناير 2017، بقرار من المحكمة الإدارية العليا. بهذه المناسبة، تنشر المفكرة القانونية، كما تعيد نشر، عددا من المقالات لتمكين القارئ من الإحاطة بهذه القضية، منها المقال الحاضر عن دعوى رد القاضي الإداري المقدمة في سياق هذه القضية (المحرر).
صدر حكم محكمة القضاء الإداري والذي قضى ببطلان تنازل الحكومة المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية يوم الثلاثاء 21/6/2016. وفي اليوم التالي لصدور الحكم، عقد وزير الدولة للشئون القانونية المستشار مجدي العجاتي، مؤتمراً صحفياً صرح خلاله: "نتمنى أن يقبل الطعن الذي قدمته هيئة قضايا الدولة إلى المحكمة الإدارية العليا، على أن يتم سرعة الفصل فيه خلال أسبوع …"[1]. وهو الأمر الذي يعد تدخلًا من السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية وتعريضاً باستقلالها، فحملت تصريحات الوزير توجيها للمحكمة الإدارية العليا بضرورة تحديد جلسة سريعة لنظر الطعن، ثم القضاء بقبول الطعن ووقف تنفيذ حكم القضاء الإداري.
قامت الإدارة بالطعن على الحكم يوم الخميس 23/6/2016، وحدد لنظره الدائرة الأولى فحص بالمحكمة الإدارية العليا. لكن ما زاد الامر سوءاً هو استجابة المحكمة لتصريحات الوزير وقيامها بتحديد جلسة لنظر الطعن بعد ثلاثة أيام من تقديمه. فتم تحديد جلسة خاصة يوم الأحد 26 /6/ 2016، وتم إعلان الخصوم مساء نفس اليوم، وكلها إجراءات تمهّد للفصل في الشق العاجل خلال أسبوع.
لم يتوقف الأمر على تدخل الإدارة في سير الخصومة على النحو السابق الإشارة اليه، فضم تشكيل الدائرة التي تنظر الطعن، عضوين منتدبين، أحدهم منتدب كمستشار قانوني بجامعة القاهرة، والتي منحت الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود الدكتوراه الفخرية في تاريخ متزامن مع توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الحكومة المصرية، وهو الأمر الذي تم اعتباره آنذاك جزءاً من حملة الترحيب بالملك لإتمام الاتفاقية، والثاني منتدب كمستشار قانوني لدى وزارة الخارجية المصرية، والتي هي أحد الطاعنين في هذه الدعوى.
وهذه الأمور مجتمعة دفعت فريق الدفاع عن مصرية جزيرتي تيران وصنافير إلى إقامة دعوى لرد الدائرة المذكورة. وحددت الدائرة السابعة فحص بالمحكمة الإدارية العليا لنظر دعوى الرد، وأسست دعوى الرد على دفعين رئيسين الأول هو مؤشرات توافق المحكمة مع الإدارة، والثاني هو وجود عضوين منتدبين من الهيئة لدى جهات إدارية. وبتاريخ 27/8/2016 صدر الحكم برد تشكيل الدائرة الأولى فحص عن نظر الدعوى. ويعدّ هذا الحكم سابقة قضائية، بحيث جاء مخالفا لما استقرت عليه أحكام مجلس الدولة، بعدم وجود تعارض بين استقلال أعضاء مجلس الدولة وندبهم في غير أوقات العمل الرسمية. وقد قدم الحكم قراءة مغايرة لقواعد رد القضاة المنصوص عليها في القانون المدني مستندا على نصوص الدستور وأحكام المحكمة الدستورية العليا، واعتبر أن ندب القضاة للجهات الإدارية، يؤثر على الاستقلال الوظيفي للقضاة، ويصلح أن يكون أحد أسباب الرد. وجدير بالذكر ان محكمة القضاء الإداري قد سبقت المحكمة الإدارية العليا في هذا الامر وقضت في وقت سابق بإحالة مواد قانون مجلي الدولة التي تتيح ندب القضاء للعمل في الجهات الإدارية للمحكمة الدستورية. وسنعرض تباعا للمراحل الثلاث التي مر بها مجلس الدولة في مسألة العلاقة بين ندب القضاة في غير أوقات العمل ومدى تأثيرها على استقلال القضاء، وقبل ذلك يجب ان نعرج قليلا لتوضيح الإطار القانوني الحاكم لندب قضاة مجلس الدولة.
الإطار القانوني لندب القضاة
يستند ندب القضاة بمجلس الدولة إلى نص المادة 88 من قانون المجلس والتي تنص على أنه "يجوز ندب أعضاء مجلس الدولة كل الوقت أو في غير أوقات العمل الرسمية أو إعارتهم للقيام بأعمال قضائية أو قانونية لوزارات الحكومة ومصالحها أو الهيئات العامة أو المؤسسات العامة وذلك بقرار من رئيس مجلس الدولة بعد موافقة المجلس الخاص للشؤون الإدارية على أن يتولى المجلس المذكور وحده تحديد المكافأة التي يستحقها العضو المنتدب أو المعار عن هذه الأعمال".
فرق نص المادة بين امرين:
- الأول: هو ندب أعضاء المجلس لكل الوقت او الإعارة للقيام بأعمال قضائية او قانونية، وفي هذه الحالة يؤدي عضو المجلس عمله بالجهة الإدارية فقط
- الثاني: هو الندب في غير أوقات العمل الرسمية، وهو ما يعني ان يجمع عضو المجلس بين عمله القضائي وعمله في الجهة الادرية
المرحلة الأولى: ندب القضاة لا يعتبر سببا للرد
في عام 1987 أقام أحد المواطنين دعوى[2] امام المحكمة الإدارية العليا، لرد أحد القضاة في دعوي كان أقامها في وقت سابق ضد مصلحة الضرائب، مستندا على أن القاضي يعمل مستشارا قانونيا لوزارة المالية ومصلحة الضرائب إلى جانب عمله كقاض، مما لا يجوز معه أن يفصل في الدعوى لتعلقها بوزارة المالية والمصالح المتعلقة بها، والتي يتقاضى منها مكافآت مالية. واستنكر صاحب الطعن اتجاه قضاء مجلس الدولة لعدم اعتباره الندب سببا من أسباب الرد، وأضاف أنه لا يجوز لمجلس الدولة أن يتبني هذا الاتجاه في حين أن هناك عدداً كبيراً من مستشاريه منتدبون لدى جهات إدارية مختلفة، وبذلك فانهم يعقبون على قرارات قد سبق وشاركوا في إعدادها أثناء انتدابهم. واستطرد قائلا أن من شأن ذلك أن يؤثر على حيدة القضاة وينال من استقلال القاضي الذي يأمل دائما تجديد ندبه لدى الجهة الإدارية المعنية كما يحرص على مصالحها طوال فترة ندبه لديها مما يؤثر على موقفه عند النظر في القضايا المتعلقة بها أو بغيرها من جهات الإدارة. وفي ضوء ذلك، دفع هذا الطاعن بعدم دستورية المادة 88 والتي سمحت بجواز ندب القضاة ندبا جزئيا مستندا على مخالفتها لنص المادة 172 من الدستور والتي نصت على أن مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة، ويختص بالفصل في المنازعات الإدارية وفي الدعاوى التأديبية، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى.
وصدر الحكم برفض دعوى الرد وتغريم الطاعن الرسوم ومصادرة الكفالة، واستند الحكم إلى أن نص المادة 148 من قانون المرافعات[3] والتي رأي الحكم انها ذكرت اربعه أسباب على سبيل الحصر لرد القضاة لم يكن من بينهم ندب القضاة للعمل في الجهات الإدارية
وفي معرض ردّ الحكم على الدفع المبدئي بعدم دستورية المادة 88 من قانون مجلس الدولة والتي أجازت ندب القضاة للجهات الإدارية، قالت المحكمة أنه لا يوجد تعارض بين استقلال مجلس الدولة ونظام الندب وأن المقصود بالندب هو تدعيم هذا الاستقلال وإبراز دور مجلس الدولة بواسطة أعضائه الذين تستعين بخبراتهم مؤسسات الدولة وأجهزتها كافة. وهي بصدد مباشرة الإختصاصات والمهام المنوط بها بحيث تنهض بها في إطار المشروعية وسيادة القانون، وبحيث تكون المبادئ التي يرسيها مجلس الدولة في هذا الاطار موضع تطبيق عملي مستمر ومستقر من جانب مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة ولا شك أن كل ذلك يركز أهمية دور مجلس الدولة، مما يتعين معه طرح الدفع بعدم دستورية نظام ندب القضاة لعدم جديته.
يؤخذ على هذا الحكم وما قرره من عدم اعتبار الندب أحد موجبات الرد ومن تقريره دستورية المادة 88 من قانون مجلس الدولة، أمران: الأول هو تصدي المحكمة لتقرير دستورية نص المادة 88 وامتناعها عن إحالة النص للمحكمة الدستورية لتقرير مدى دستوريته من عدمه، وكأن أعضاء المحكمة يدافعون عن مواقفهم القانونية من كون أغلبهم منتدبين لدى جهات إدارية مختلفة. والثاني: تفسير المحكمة الإدارية العليا لنص المادة 148 من قانون المرافعات والتقيد بحرفية النص وعدم إعمال روحه. فمن الظاهر أن ندب العضو يفقده أحد شروط الاستقلال. ومن المرجّح كذلك أن الأعضاء المنتدبين قد تعرض عليهم في نزاعات قضائية قرارات قد سبق وأبدوا آراءهم فيها بسب قيامهم بأعمالهم التي انتدبوا إليها. وسيترتب على ذلك تصديهم لفحص مدى مشروعية قرارات سبق وأبدوا آراءهم القانونية فيها، الأمر الذي يخالف نص المادة 146 من قانون المرافعات التي اعتبرت أحد حالات عدم الصلاحية اذا كان القاضي قد سبق له نظر الخصومة "قاضياً أو خبيراً أو محكماً، أو كان قد أدى شهادة فيها". ولا نجد من جانبنا فرقا بين إبداء الرأي في إحدى هذه الحالات وبين ابدائه أثناء الندب، وهو ما كان يوجب على محاكم مجلس الدولة الإلتفات اليه في حينه، وإحالة النص للمحكمة الدستورية لترفع عن نفسها الحرج.
المرحلة الثانية: ندب القضاة مخالف للدستور
استمرت محاكم مجلس الدولة في الاخذ بالقاعدة التي ارستها المحكمة الادرية العليا ومفادها ان الندب لا يعتبر أحد موجبات الرد لبضع عقود، الي ان صدر حكم[4] من الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري في 1/1/2013، بإحالة نص المادة 88 من قانون مجلس الدولة الي المحكمة الدستورية العليا، لما يحيط بها من شبهات مخالفة الدستور وتأثيرها على استقلال القضاء، وهي المادة التي تجيز ندب القضاة ندباً جزئيا إلى جهات إدارية، وجدير بالذكر ان هذا الحكم تنحي عن إصداره رئيس الدائرة ونائبه الأول لان كلا العضويين منتدبين لدي جهات إدارية مختلفة، وصدر هذا الحكم برئاسة العضو الثالث في الدائرة وهو المستشار الجليل سامي درويش والذي لم يكن منتدبا لدي أيا من الجهات الإدارية بالدولة.
صدر الحكم مستندا على التنظيم الدستوري للقضاء في مصر، والذي استقر على أن القضاء سلطة مطلقة وولاية مصدرها الشعب صاحب السيادة، وان القضاء هو عماد دولة القانون ولا يثور أي خلاف حول ضرورة استقلاله ووجوب احترام هذا الاستقلال وفقا لما قررته النصوص الدستورية، وانما يثور الخلاف دائما حول مدى هذا الاستقلال. فقد يتسع حينا وقد يضيق أحيانا في الواقع العملي بعيداً عن مفهومه المحدد دستوريا، وأول مظاهر استقلال القضاء استقلاله كسلطة في مواجهة الحاكم والمشرع. وقد ذهب الحكم إلى أن أحد أبرز أوجه استقلال القاضي أن يتفرغ دائما لأداء عمله الجليل ورسالته المقدسة فالقاضي من وقت أن يولي القضاء وحتى تزول عنه ولايته وقف على أعمال القضاء، حبيس عليها، شغله وفراغه في خدمة القضاء. وفي ضوء هذه المبادئ، اعتبر الحكم أن إجازة المادة 88 ندب القضاة في غير أوقات العمل الرسمية عدوانا على استقلال القضاء، وساق للتدليل على ذلك خمسة أوجه:
خمسة أوجه لاعتداء الندب على استقلال القضاء
أولاً: أن الندب يخرج عن دائرة ولاية القضاء، وعن حدود الاختصاصات المسندة لأقسام مجلس الدولة المختلفة، والسماح لعضو مجلس الدولة بمباشرة أعمال خارج حدود ولايته لحساب السلطة التنفيذية أو التشريعية يمس جوهر واستقلال القضاء.
ثانياً: أن الندب يظهر عضو مجلس الدولة المنتدب – أمام المتقاضين والمواطنين- بمظهر التابع للجهة الإدارية المنتدب اليها، وبأن لها عليه سلطانا، حيث يملك رئيس المصلحة أو الجهة الإدارية أن يكلف القاضي أو العضو المنتدب أعمالاً معينة، ويستدعيه لأدائها، كما يملك إنهاء الندب رغما عن إرادة القاضي المنتدب، ونزول القضاة من على منصاتهم العالية وتخليهم عن وشاح القضاء لمباشرة أعمال لدى جهة الإدارة ينال من كمال استقلال القضاء.
ثالثاً: أن استقلال عضو مجلس الدولة ليس حقا شخصيا له حتى ينزل عنه، ولكنه شرع كضمانة للمتقاضين. فقضاء مجلس الدولة لا يفصل في منازعات بين خصوم متماثلين في المراكز القانونية، وانما أحد طرفي الخصومة الإدارية دائما خصم طاغ في سلطته وهو الدولة بفروعها المختلفة، وهو الأمر الذي يستوجب ان يكون استقلال قاضي مجلس الدولة غير منقوص.
رابعاً: أن طبيعة العمل في القضاء تتأبى على تحديد أوقات للعمل الرسمي، ولا يوجد تنظيم قانوني أو لائحي يحدد لعضو مجلس الدولة موعدا لبدء العمل وآخر لانتهائه، ومتى يبدأ التفكير والبحث في قضاياه ومتى ينهيه، ولا يمكن انتزاع عمل القاضي وتجريده وتحديده بوقت محدد.
خامساً: أن الوقت الذي يؤدي فيه القاضي المنتدب عملا في الجهة المنتدب اليها هو وقت منتزع من وقت عمله الأصلي في مجلس الدولة.
وردا على ما ذهبت اليه المحكمة الإدارية العليا في وقت سابق من كون الندب يحقق مصلحة الإدارة بتوفير الخبرات القانونية لها، فقد ذهب الحكم بان المشرع أنشأ قسم الفتوي والذي يعتبر جهة الإفتاء الرسمية للدولة في المسائل القانونية والدستورية.
وفي النهاية استند الحكم إلى نص المادة 170 من دستور 2012 والتي قررت عدم جواز ندب القضاة الا ندبا كاملا وأحال نص المادة 88 إلى المحكمة الدستورية العليا لمخالفتها للدستور، والتي تنظر هذا الطعن الان ولم يتم صدور أي حكما فيه.
رغما من أهمية هذا الحكم والذي عكس تغيرا كبيرا في اتجاه المجلس نحو القضايا المتعلقة باستقلاله، إلا أنه لم يتعدّ كونه حجرا في المياه الراكدة. فهو حكم صادر عن القضاء الإداري بينما الإدارية العليا كما أوضحنا سلفا استقرت على عدم جواز اعتبار الندب سببا لرد القضاة.
المرحلة الثالثة: اعتبار الندب أحد أسباب الرد
المحطة الأخيرة والقول الفصل فيما يتعلق بندب القضاة بالجهات الإدارية وضعته أخيرا المحكمة الإدارية العليا حيث قضت الدائرة السابعة عليا فحص، برد الهيئة التي تنظر طعن الحكومة على مصرية جزيرتين تيران وصنافير مستندة في حيثيات حكمها علي عدم جواز نظر القضاة المنتدبين لدي جهات إدارية مختصمة في الدعوي لذات الدعوي، وجاءت حيثيات الحكم لتسطر اتجاها أكثر استقلالية لمجلس الدولة، وتأتي أهمية الحكم في عدة نقاط:
أولاً: استناد الحكم على المواثيق الدولية كمرجعية
في سابقة للمحكمة الإدارية العليا في قضايا رد القضاة، استندت إلى المواثيق الدولية فجاء في حيثياته أن حياد القضاء من المبادئ الأساسية لحقوق الانسان التي اكدت عليها المواثيق الدولية كأحد عناصر المحاكمة المنصفة، فنص عليه الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر سنة 1948 في المادة العاشرة منه والتي نصت على أن "لكل إنسان على قدم المساواة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه والتزاماته"، وكذلك المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تضمنت أن الناس جميعا سواء أمام القضاء ومن حق كل فرد لدى الفصل في أي تهمة جنائية توجه إليه، أو في حقوقه والتزاماته في أي دعوى مدنية أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة وحيادية … كما استند الحكم على الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الموقعة في 4/11/1950 وكذلك البيان الإفريقي لحقوق الشعوب الصادر عام 1981، في تأكيدهما على المبادئ ذاتها.
كما استند الحكم في إقامة قضائه على ما قرره إعلان المبادئ الأساسية في شأن استقلال القضاء التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراريها الصادرين في 29/11/1985 و13/12/ 1985، وهما يؤكدان على أن القضاة يفصلون –في إطار من الحيدة- فيما يعرض عليهم من منازعات على ضوء وقائعها ووفقا للقانون غير مدفوعين بتحريض أو معرضين لتدخل بلا حق أو محملين بقيود أو تهديد أو ضغوط بطريقة مباشرة كانت أم غير مباشرة أيا كان مصدرها أو سببها.
ثانياً: التأكيد على ضرورة الاستقلال الوظيفي للقضاة
أكد الحكم على ضرورة استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة من الناحية المؤسسية والوظيفية، إبعادا لأي مؤثرات قد تؤثر في الفصل في الخصومات وأن نص الدستور "على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون" لا يحمي فقط استقلال القاضي بل يحول دون أن يكون العمل القضائي وليد نزعة شخصية غير متجردة، ومن ثم يكون حياد القاضي شرطا دستوريا لازما لضمان ألا يخضع القاضي لغير القانون.
ثالثاً: قدم الحكم قراءة جديدة للمادة 148 ووسع في حالات رد القضاة
مخالفا لكافة الأحكام السابقة والتي قيدت نفسها بحرفية نص المادة 148 من قانون المرافعات كما سبق وأشرنا، واعتبرت أن هذه المادة حصرت أسباب الرد في أربع حالات فقط، وسع هذا الحكم من أسباب الرد استنادا للمادة نفسها وأعمل روح القانون ولم يتقيد بحدود النص، واعتبر أن البند رابعا من المادة المذكورة وما نصت عليه من اعتبار وجود خصومة أو عداوة بين القاضي وأحد الخصوم في الدعوى سبب من أسباب الرد.
واستمدت المحكمة هذا التفسير من حكم للمحكمة الدستورية[5] العليا ذهب إلى أن المشرع قصد من هذا النص أن يوفر لرد القضاة سببا يقوم على معيار عام يتسع لعديد من الصور التي يتعذر حصرها، وأن جامعها قيام مشاعر شخصية بين قاض وأحد الخصوم يرجح معها ألا يكون قضاؤه بغير ميل مستطاع،- سواء كان هذا الميل إيجابيا أو سلبيا- فلا يستقيم ميزان الحق مع وجوده، وأضاف حكم المحكمة الدستورية في معرض تفسير هذا البند، أن المودة والعداوة وإن كانت من العناصر النفسية الغائرة في الأعماق إلا أن الدليل علها لا يقام إلا من خلال مظاهر خارجية تشي بها أو تفصح عنها ليكون إثباتها دائرا مع هذه المظاهر وجودا وعدما، وليس لازما بالتالي أن يكون الدليل مباشرا حازما لا يقبل تأويلا، بل يكفي أن ترشح قرائن الحال بوجودها وأن يكون تضافرها مؤديا لها، وأن نص الفقرة الرابعة من المادة 148 يعتبر منشئا لسبب عام للرد ينصرف إلى كل الأحوال التي تثور فيها شبهة لها أساسها حول نوع المشاعر الشخصية تقوم بالقاضي ولا يرجح معها الحكم في الدعوى التي يراد رده عنها بغير ميل يكون عاصفا بالحق أو مؤثرا في مجراه ومن ثم لا يقيد هذا النص صور الرد بل يتعقبها في أغلب مظنها ويكاد يحيط بها ويستغرقها.
رابعها: جواز اعتبار الندب أحد اسباب الرد
اعتبر الحكم أن ندب القضاة قد يكون أحد أسباب ردهم، إذا قدرت المحكمة التي تنظر طلب الرد أن هذا الندب يدعو إلى المساس بحيدة القاضي الذي ينظر الدعوى. ولا يغير من ذلك بأن قضاء مجلس الدولة قد استقر على أن الندب للجهات الإدارية ليس مؤديا وبصفة تلقائية إلى التنحي عن نظر الدعاوى التي تكون الجهة المنتدب اليها القاضي طرفا فيها أمامه، ذلك أن هذا القضاء لم يقرر قاعدة عامة في هذا الخصوص وانما كان يتقصى كل قضية على حدة، ليقرر مدى تأثير ندب القاضي على قيامه بالحكم فيها. واعتبر الحكم أن عدم قيام القضاة عن دفع ما نسب اليهم من انتدابهم لدى الجهات الإدارية المذكورة وهي جامعه القاهرة ووزارة الخارجية بالنفي أو بالإيجاب، وكأن الدائرة لم ترد على طلب الرد أصلا مع صلاحية ما جاء به ليكون سببا لردهم.
وهكذا كانت لدعوى تيران وصنافير على الرغم من عدم حسمها بحكم نهائي بات حتى اللحظة القدرة على إرساء مبادئ قضائية جديدة، في ضوء أحكام دساتير ثورة يناير وموجتها في 30 يونية.
إقرأ/ي أيضاً: المبادئ القضائية الجديدة في دعوى تيران وصنافير (1): تطور نظرية أعمال السيادة
[1] جدير بالذكر أن هذا الوزير هو مستشار سابق بالمحكمة الإدارية العليا، وعمل بالدائرة ذاتها التي ستنظر الطعن، وتصدي اثناء عمله على منصة القضاة لتدخلات السلطة التنفيذية في عمل القضاء بشكل واضح، فهو المستشار صاحب الحكم الشهير بعدم الاعتداد بإشكالات وقف التنفيذ التي تقام امام القضاء المدني، واعتبارها والعدم سواء
[2] المحكمة الإدارية العليا – الطعن رقم 1638 – لسنة 33 قضائية – تاريخ الجلسة 30-6-1987 – مكتب فني 32 – رقم الجزء 2 – رقم الصفحة 1487
[3] (1) إذا كان له أو لزوجته دعوى مماثلة للدعوى التي ينظرها (2) إذا كان لمطلقته التي له منها ولد أو لأحد أقاربه أو أصهاره على عمود النسب خصومة قائمة أمام القضاء مع أحد الخصوم في الدعوى3) ) إذا كان أحد الخصوم خادماً له، أو كان هو قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته (4) إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل
[4] محكمة القضاء الإداري – الدائرة الاولي افراد – الدعوي رقم 33223 لسنة 63 ق – بتاريخ 1/1/2013
[5] راجع في ذلك حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 38 سنة 16 قضائية جلية 16/11/1996