تبعاً لتكليف القاضي جمال الحجّار بمهام النائب العام التمييزي خلفًا للقاضي غسّان عويدات الذي تقاعد في 22 شباط 2024، ننشر تعليقاً على إحدى آخر ممارسات النيابة العامّة التمييزيّة التعسفيّة والتي تمثلت في سعيها إلى تمديد صلاحياتها من المجال الجزائي إلى المجال المدني، خدمة لمصالح الأكثر نفوذا (المحرر).
في تاريخ 22/1/2024، أصدرت محكمة الاستئناف المدنيّة في جبل لبنان، قراراً يفصل في أحد النزاعات القائمة بين كبريال المرّ وعدد من أبنائه من جهة وابنيه ميشال وكارل المرّ من جهة أخرى، بخصوص عدد من الشركات التي يديرها الفريق الأول ويشترك هؤلاء جميعا في ملكية أسهمها. وقد قضت المحكمة المؤلفة من القاضيات سانيا نصر وحياة عاكوم ورنا حبقا، بفسخ قرار الحراسة القضائية المفروضة على عدد من هذه الشركات من قبل النيابة العامّة التمييزية، بعدما اعتبرت أن هذا القرار يخرج عن صلاحية هذه الأخيرة ويشكل تدخلا من قبلها في العمل القضائي.
وفي التفاصيل، نشب نزاع بين الشركاء بشأن كيفية كبريال ورفاقه للشركات المملوكة من العائلة، وصل إلى حدّ تقدّم ميشال وكارل بشكوى أمام النيابة العامّة التمييزيّة ضدهم بجرائم الاحتيال وإساءة الأمانة ومخالفة قوانين الشركات وغيرها من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات وقانون التجارة. وعليه، باشرت النيابة العامّة التمييزيّة إجراءات التحقيق بواسطة المحامي العام التمييزي غسان الخوري، فعيّنت أكثر من خبير للكشف على حسابات الشركات المعنية، بعدما اتخذت قرارا بعدم إجراء أية أعمال بناء أو ترميم أو أشغال في العقارات التابعة لها. وقد انتهت من ثمّ إلى فرض الحراسة القضائية على الشركات المذكورة. ولمواجهة هذه الإجراءات، سلك الفريق الأول طريقين قضائيين:
الأول، التقدّم بدعوى مداعاة الدولة أمام محكمة التمييز نظراً لجسامة المُخالفات القانونية المرتكبة من المحامي العامّ خوري بخاصّة أن أحد الخبيريْن المعينيْن يعمل كمفوّض مراقبة لشركة مملوكة من الخصم ميشال المرّ. إلا أنه رغم ذلك، استمرّ خوري في عمله خلافا لما تفرضه المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
الثاني، اللجوء إلى القضاء المستعجل من أجل إلغاء تدابير النيابة العامة وتحديدا رفع الحراسة القضائية عن الشركات التي يُديرها، على اعتبار أنها تشكل تعدّيا غير مبرر على مصالح مشروعة من قبل مرجع غير مختص. وإذ ردّ قاضي الأمور المستعجلة طلبه المذكور في المرحلة الابتدائية بحجة أنه ليس صالحا للنظر في قرارات النيابة العامة التمييزية، لجأ هذا الفريق إلى محكمة الاستئناف التي هي انتهت إلى قبول الدعوى، بالاستناد إلى اعتبارات عدّة، أهمّها عدم اختصاص النيابة العامّة بفرض الحراسة القضائية. فعدا أن لدعوى الحراسة القضائيّة إجراءات لا بدّ من توسّلها أصولاً ولزوماً، وشروط لا بدّ للمحكمة المدنيّة (وليس الجزائية) المختصّة من تدقيقها وذلك بموجب دعوى نزاعيّة، فإن ماهية وطبيعة وظيفة النيابة العامّة، بموجب المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وبصفتها خصماً للمدعى عليه، لا تسمح لها وبأبعد مدى، تمهيداً لتحريك الدعوى العامّة أو حتى حفظها، إلّا توسّل التحريات والاجراءات الأوليّة المحض تحقيقيّة في بعض الحالات، من دون أن تتعدّاه إلى اتخاذ القرارات التي تخرج بطبيعتها عن الإطار التحقيقي، ولا يجوز لها التدخل في عمل القضاء ووظيفته جزائيًّا كان أم مدنيّاً.
فضلا عن ذلك، أعلنت محكمة الاستئناف صلاحيتها باتخاذ التدابير المستعجلة لمنع الضرر وحفظ الحقوق وإزالة التعدي الواضح على الحقوق والأوضاع المشروعة في المواد المدنيّة والتجاريّة ولو اتصلت بمسألة ذات شقّ جزائي، وذلك متى كان من البيّن جليّاً أن لها جانب مدني.
يستدعي هذا القرار الملاحظات الآتية:
- محاولة نحو توسيع صلاحيات النيابة العامّة التمييزية إلى المجال المدني والتجاري
شكّل تعديل قانون الإجراءات الجزائية في 2001 منعطفا هاما لجهة فرض هيمنة النيابة العامّة التمييزيّة على النيابات العامّة ومن خلالها على المجال الجزائي. وقد تمثل هذا الاتجاه بشكل خاص في منح النيابة العامة التمييزية صلاحية شاملة لإجراء التحقيقات في المجال الجزائي، فضلا عن منح النائب العام التمييزي صلاحيّة توجيه تعليمات لأي من المدعين العامين في ما يتصل بممارسة الجزء الأكبر من صلاحياتهم (م.14) . وقد خلُص قرار المجلس الدستوري في الطعن المقدم في القانون التعديلي، رقم 4/2001 والصادر بتاريخ 29/9/2001، إلى القول “بأن ممارسة النائب العام التمييزي صلاحياته هذه، وخصوصاً إجراء التحقيق عند الاقتضاء، كما ممارسة قضاة النيابات العامة صلاحياتهم بإشراف النائب العام التمييزي، إنما تتمّ كلها في ظلّ الضوابط والضمانات التي وضعها المشترع حماية لحقوق الأفراد”.
وقد عبّرت المفكرة القانونيّة مراراً عن خشيتها من تحـوّل الصلاحية الشـاملة المعطاة للنيابة العامة التمييزية بالتحقيق في الملفات الجزائية، من دون وضع أية معايير محددة لممارسة هذا الاختصاص، إلـى أداة لمنح امتيازات لأصحاب النفوذ المعنيّين بالقضيّة (مما يحوّلها بالواقع من نيابة عامة تمييزية إلى نيابة عامة امتيازية). وهذا ما نستشفّه تماما في هذه القضية، مع فارق هام جدّا وهو أنه يُمارس هذه المرة ليس في إطار التحقيق الجزائيّ إنما في إطار نزاع مدنيّ بين شركاء في شركة تجاريّة، وكأن النيابة العامّة تمدّد بقرار ذاتيّ صلاحياتها إلى درجة تؤدي عمليا إلى السيطرة على المجال القضائي برمته. ولإدراك خطورة ذلك، يشار إلى أن المحامي العام التمييزي اتّخذ بصورة تصاعدية كمّا لافتا من الإجراءات على وجهٍ من السرعة بناء على طلب ميشال المرّ ومن دون أن يبذل أي جهد للسماع إلى الطرف الثاني: فبعدما عيّن خبيراً للكشف على حسابات شركة “زعرور كونتري كلوب”، اتخذ قرارا ثانيا بمنع إجراء أية أعمال بناء أو ترميم أو أشغال في العقارات التابعة للشركة، ليوسّع من ثمّ التحقيق ليشمل شركتيْ “ذي ساميت لاونج” و”كريستال ماونتن”، وليعيّن خبيراً ثانيّاً للكشف على أعمالهما الحسابية. وقد بلغ تدخّله في هذا المجال أقصاه حين عاد وجعل الخبيرين حارسين قضائيين على الشركات الثلاثة. ويذكر أن أحد الخبيرين المعينين من المحامي العام، يشغل منصب مفوض مراقبة لدى شركة يملكها ويديرها ميشال المرّ.
وهذا هو بالضبط ما اعترض عليه كابريال المرّ ورفاقه في الدعاوى والمراجعات المضادة التي أقاموها، على خلفية أن تعيين حارس قضائي يخرج عن مفهوم إجراءات التحقيق المناطة بالنيابة العامّة التمييزيّة، والتي تعرّف على أنها “إجراء قانوني يهدف إلى جمع المعلومات والقرائن والأدلة اللازمة لتحديد ما إذا كان هناك جريمة قد وقعت ومن هم المشتبه بهم في ارتكابها، ويشمل استجواب الشهود، وتحليل الأدلة الجنائية، وجمع الوثائق القانونية ذات الصلة”[1]. وهذا ما عاد وأكّد عليه القرار الاستئنافي لجهة أنّ “فرض الحراسة القضائية لا يشكل تدبيرا أو إجراء تحقيقيّاً، لكونه انطلاقا من طبيعته وماهيته” وأنه يهدف إلى فرض تدبير احتياطي مؤقت حفظاً للحقوق ومنعاً للضرر، وهو أمر يدخل في صلاحية قاضي الأمور المستعجلة والقضاء المدني عموما وليس النيابة العامة.
- القضاء المدني يضع حدّا لتمدّد صلاحيات النيابة العامّة التمييزية بهدف حماية الحقوق
فضلا عما تكشفه هذه القضية من توسع خطير لصلاحيات النيابة العامة التمييزية، فإن القرار الصادر عن محكمة الاستئناف عكس بالمقابل ممانعة قضائية حيال هذا التوسع، وذلك خلافا لما ذهب إليه المرجع الابتدائي من تسليم به. واللافت أنّ محكمة الاستئناف لم تلطّف أبدا الأوصاف التي أطلقتها على النيابة العامة في هذا الخصوص، حيث وصلتْ إلى حدّ اتهامها بالتدخل في العمل القضاء ووظيفته وتحولها إلى خصم وحكم في آن بما ينعكس سلبا على حقوق المواطنين، داعية ضمنا جميع القضاة للدفاع عن صلاحياتهم في مواجهة هذا التدخّل من منطلق حماية هذه الحقوق بالذات. وهذا ما نستشفّه بوضوح من حيثيّات القرار التي أعادت رسم الحدود الواضحة لصلاحيّات النيابة العامة؛ وقد جاء حرفيا فيها أن “سلطة النيابة هي سلطة تقديريّة تقتصر قانوناً على إقامة الدّعوى العامّة أو عدم إقامتها وفي بعض الحالات على تولي التحقيق في القضيّة المعروضة عليها، ولا يجوز لها التدخّل في عمل القضاء ووظيفته جزائيًّا كان أم مدنيّاً”، وأنها (أي النيابة العامّة التمييزية) “ليست قاضيا يتخذ قرارات تفصل المنازعات أو حتى تمسّ بأساسها وتؤثر على مجرياته وعلى مراكز الخصوم فيها وحقوقهم ومصالحهم، أيّ أنه لا يمكن لها أن تكون خصماً وحكماً في آن وصولاً إلى إصدارها القرار بفرض الحراسة القضائيّة على الشركات المساهمة موضوع المنازعة” وأنه “وانطلاقا من ماهية وطبيعة وظيفة النيابة العامّة، بمختلف قضائها، وبصفتها خصماً للمدعى عليه، لا يسعها وبأبعد مدى، تمهيداً لتحريك الدعوى العامّة أو حتى حفظها، إلّا توسّل التحريات والاجراءات الأوليّة المحضّ تحقيقيّّة، دون أن تتعداه إلى اتخاذ القرارات التي تخرج بطبيعتها عن الإطار التحقيقي والتي يختص باصدارها قضاء الحكم بعد استجلاء الوقائع والحقائق وانجاز المحاكمات الوجاهية اصولاً لا سيما تلك التي يختص بها القضاء المدني”.
فإذا وضعت المحكمة هذه الحدود عادت لتؤكد في حيثيات أخرى واجب القضاء (وتحديدا القضاء المستعجل) في التصدّي لتعدّيات النيابة العامة. وهذا ما نستشفه من حيثيات أخرى جاء فيها حرفيا أنه “لا يجوز القول بعدم المساس به (أي قرار النيابة العامّة) على وجه يمنحه الانبرام دون أيّ إمكانيّة للمناقشة” وأن قرار فرض الحراسة كونه صادرا عن مرجع غير صالح يشكلّ ضرراً على الأفراد والأموال المعنيّة به، “وينطوي بحدّ ذاته على إضرار بمصالح الشركات وأعمال الإدارة فيها بخاصّة أنه صدر بصورة مباغتة لم تتح للجهة المعنيّة به مناقشته أو تقديم حججها وأدلتها حياله”.
ختاماً، يؤمل أن يشكّل هذا القرار دافعاً للقضاء للتصدّي لممارسات النيابة العامّة التمييزيّة لما قد تشكّله من خطورة على حقوق الأفراد، ريثما يتمّ حصر الهرمية التي تمّ تكريسها في 2001 بنصوص قانونية واضحة.
للاطّلاع على قرار محكمة الاستئناف المدنيّة في جبل لبنان، إضغطوا هنا
[1] “تعريف التحقيق الابتدائي والفرق بين التحقيق الابتدائي والتحقيق القضائي”