يعالج مقال أيمن هلسا موضوع “الجلوة”، وهو أحد أشكال العقوبات الجماعية المفروضة على عشيرة متهمٍ بالقتل، طالت جريمته أحد أبناء عشيرة أخرى. ويفضح المقال تماهيا عاما في إدارات الدولة وفي المجتمع، لا بل تعاونا بين فئات الوسطين الشعبي والرسمي، للاستمرار في تطبيق هذا القانون العرفي رغم إلغاء القوانين العشائرية كافة. وبالطبع، يتعارض توجه الدولة الأردنية في هذا المجال مع حماستها الدائمة للتصديق على المعاهدات الدولية ومنها المعاهدات المعنية بحقوق الإنسان. وبينما تطرح القضية برمتها إشكالية إنزال تشريعات تم طبخها في مؤسسات ذات عقيدة “ليبرالية” على مجتمعٍ ذي معتقدات وضوابط مختلفة تاريخيا، يشكك الكاتب في التناقض الذي تحمله هذه السردية عبر التنبيه إلى اختفاء المجتمع البدوي المنشود في إجراءات كهذه، حيث إن أبناء البدو أصبحوا بمعظمهم سكانا للمدن. فتصبح الإشكالية محصورة بكيفية إنزال عقاب جماعي تعسفي في مجموعة من الناس، لا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا في منطقة جغرافية معينة. ومن اللافت أيضا أن النقاش في هذا الموضوع يبقى جد محدود رغم خطورته والمظالم التي تنشأ عنه (المحرر).
أصدر مركز الحياة لتنمية المجتمع المدني، إعلانا حول الجلوة العشائرية مبينا خطورة هذه الظاهرة وأثرها على المجتمع الأردني. وتحصل الجلوة عندما يكون هناك عشيرتان تقطنان في المحافظة أو المنطقة نفسها، فيرتكب أحد أفراد إحداهما جريمة قتل أو هتك عرض بحق فرد من أفراد الأخرى، فيجبر إذ ذاك أقارب الجاني، حتى الجد الخامس في بعض الأحيان، على مغادرة المحافظة أو المنطقة الجغرافية التي يقطنون فيها حتى يتم الصلح بين الطرفين، وذلك تجنبا للثأر ولأفعال انتقامية توصف في الأردن “بفورة الدم”، وقد تمتد الجلوة إلى سنوات إذا لم يقم الصلح بين الطرفين. وفي العادة يتوسط وجهاء العشائر للصلح بين العشريتين، إلا أن جهودهم قد تصل إلى طريق مسدود بسبب ضخامة المبلغ المالي المطلوب من أهل الجاني كديّة والتي قد تصل إلى مئة ألف دولار أميركي في جريمة القتل العمد. وقد جرت العادة أن يؤجل القضاء البت في الجريمة لأن الصلح بين الفريقين يعني إسقاط الحق الشخصي، الأمر الذي يترك أثره على العقوبة، ويوضح أحد شيوخ العشائر أن بطء إجراءات التقاضي يولّد شعورا لدى أهل الضحية بأن الجاني ما زال حرا وأن القانون لم يأخذ لهم حقهم منه، لذلك يتمسكون بالجلوة. أول بيان من نوعه ضد الجلوة
ويعد الإعلان الصادر عن مركز الحياة لتنمية المجتمع المدني الأول من نوعه، وهو يتكون من مقدمة وأحد عشر بندا أكد المركز من خلالها التزام السلطة التنفيذية بموجب القانون باحترام حقوق المواطن وحمايتها والوفاء بها. ونادى برفض جميع الأفعال الانتقامية القائمة على الثأر وتدمير الممتلكات العامة والخاصة. ودعا إلى تعزيز منظومة القيم المجتمعية الحميدة لنبذ العنف بجميع أشكاله من خلال إحلال السلم المجتمعي والعمل على تبني البرامج والخطط لهذه الغاية.وأبدى المركز قلقه من فرض الجلوة في بعض الأحيان، من قبل الحكام الإداريين بالاستناد إلى قانون منع الجرائم رقم (7) لسنة 1954. وطلب من وزير الداخلية الإيعاز إلى الحكام الإداريين بوقف فرض الجلوة العشائرية بشكلها الحالي على أهالي الجاني تفعيلا لمبدأ سيادة حكم القانون واحتراما لنص المادة (7/2) من الدستور التي تنص على أن “كل اعتداء على الحقوق والحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة للأردنيين جريمة يعاقب عليهاالقانون”. وأكد أن الدولة تتحمل مسؤولية قراراتها وأعمالها الإدارية المخالفة للقانون والتعويض عن جميع أشكال الضرر الناتجة منها في حالة الخطأ والانتهاك الجسيم لحقوق المواطنين. وأخيرا دعا المركز المؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى الإسهام في تعزيز وترسيخ مبدأ سيادة القانون من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين على صعيدي الفكر والممارسة ومناهضة جميع أشكال الانتقام الفردي أو الجماعي باعتباره تعدياً على هيبة الدولة ومؤسساتها قبل أن يُشكل تعدياً على حقوق المواطنين وحرياتهم.
وقد تنبه المركز لخطورة هذه الممارسة أثناء رصده لعملية الانتخابات البرلمانية عندما تبين له عدم قدرة بعض المواطنين على ممارسة حقهم الانتخابي بسبب مغادرتهم أو إجبارهم على مغادرة المحافظة التي يسكنون فيها لأن أحد أقاربهم ارتكب جريمة القتل. ومن خلال عملية تقص قام بها المركز، تبين أن تطبيق الجلوة يجبر الأفراد على ترك أماكن سكنهم وعملهم ومدارسهم والانتقال إلى محافظة أخرى وتحمل أعباء استئجار منزل جديد. ومن الطبيعي أن يكون هناك انقطاع لمورد رزقهم بسبب التغيب المستمر عن مكان العمل أو زراعة الأراضي التي يملكونها. وفي ما يتعلق بطلبة الجامعات، فإنه يتعذر عليهم الاستمرار في دارستهم إذا كانوا يدرسون في الجامعة القريبة من المنطقة التي يسكنونها. إضافة إلى صعوبات أخرى ترافق انتهاك حرية التنقل واختيار مكان الإقامة، فضلاً عن تشتيت الأسرة وانتهاك وحدتها.
الجلوة العشائرية تُشكل إذاً عقوبة جماعية تُفرض على مجموعة من المواطنين، لا ذنب لهم سوى أنهم أقارب الجاني الذي يكون موقوفا على ذمة التحقيق، أي أننا أمام انتهاك لمبدأ شخصية العقوبة التي لا يجوز إيقاعها إلا على الجاني، ناهيك عن أن هذه العقوبة لا تقررها السلطة القضائية. ويسجل أنه بحسب أرقام وزارة الداخلية، فقد شهد الأردن 16 جلوة عشائرية في العام 2011، كان بينها حالة شملت إجلاء أكثر من مئة أسرة عن لواء الهاشمية في الزرقاء إثر جريمة قتل. بالمقابل هناك حالات عديدة يقوم فيها أهل المجني عليه بالصفح عن أهل الجاني ولا يطالبون بتطبيق الجلوة.
تطبيق الجلوة يعود إلى مجموعة من القوانين المتعلقة بالعشائر والبدو صدر أغلبها في العام 1936، إلا أنه في العام 1976 صدر القانون الرقم (34) الذي ألغى كل القوانين العشائرية، ومع ذلك هناك استمرار بتطبيق الجلوة لغاية الآن، ولم يسبق لأحد أن شكك بشرعيتها، باستثناء بعض الأحكام النادرة لمحكمة العدل العليا، المحكمة الإدارية، التي قضت بعدم شرعية أية إجراءات تستند إلى القوانين العشائرية كما هي الحال في القرار الرقم (144) لسنة 1984 الذي جاء فيه "لا يستند الى أساس قانوني القول إن للمحافظ صلاحية اتخاذ إجراءات عشائرية؛ إذ إن القانون الرقم (34) لسنة 1976 قد ألغى محاكم العشائر والإشراف على البدو". وفي القرار الرقم (45) لسنة 1985 الذي جاء فيه "إن القانون الرقم 34 لسنة 1976 قد ألغى قانون العشائر ومحكمة استئناف العشائر وقانون الإشراف على البدو، وهي القوانين التي كانت تجيز اتباع العادات العشائرية بشأن النزاع الناشئ عن بعض الجرائم، وعليه فلا يجوز الاستناد الى العرف الإداري لتبرير التوقيف الإداري لأن في ذلك مخالفة صريحة للمادة الثامنة من الدستور التي نصت على أنه "لا يجوز أن يقبض على أحد أو يوقف أو يحبس أو تقيد حريته إلا وفق أحكام القانون".
وسندا للقوانين الناظمة للعادات العشائرية التي يفترض أنها ملغاة، الجلوة العشائرية تطبق فقط على عشائر بدوية محددة على سبيل الحصر دون غيرهم من الأردنيين، إلا أن هذه الممارسة امتدت لتشمل جميع العشائر والعائلات الأردنية المقيمين في المدن والأرياف والمخيمات بحسب ما رصده مركز الحياة. كما أن تطبيق الجلوة بحق العشائر البدوية أصبح أمراً غير منطقي لأنهم استقروا في المدن وأنشأوا المباني الدائمة، وبالتالي صفة الترحال لم تعد تلازمهم.
السند الحديث للجلوة: قراءة للقانون بلغة التقليد
في الوقت الحالي، يفرض الجلوة العشائرية الحاكمُ الإداري سنداً لأحكام قانون منع الجرائم الرقم (7) لسنة 1954، الذي تشوبه شبهة عدم دستورية بحسب العديد من التقارير الوطنية المعنية بحقوق الإنسان لأنه يسمح بالاعتقال بشكل لا يستقيم مع إجراءات التقاضي السليمة في القانون الأردني والمعايير الدولية المتعلقة بهذا الخصوص. كما أن شهرته امتدت إلى الصعيد الدولي؛ إذ تردد اسم هذا القانون وما يترتب عليه من نتائج في أروقة الأمم المتحدة وتقارير اللجان الاتفاقية، فعلى سبيل المثال سبق للجنة المعنية بحقوق الإنسان في ملاحظاتها الختامية على التقرير الدوري المقدم من قبل الأردن في العام 2010 أن عبّرت عن قلقها العميق لأن هذا القانون يخوّل الحكام الإداريين صلاحيات تمكنهم من توقيف أي شخص يعتبر أنه يمثل خطراً على المجتمع، وذلك دون قرار اتهام ودون توفير الضمانات القانونية ودون صدور أي أمر قضائي في الموضوع.
ومن أجل تطبيق الجلوة، يتوجه الحاكم الإداري المعني إلى أهل الجاني لأخذ ما يسمى بالعطوة الأمنية، وهي فترة مدتها ثلاثة أيام وثلث، يسمح لأهل الجاني وأقاربه بمغادرة مكان إقامتهم دون أن يتعرض إليهم أهل المجني عليه، ويوقع على صك العطوة ممثلون عن أهل المجني عليه وممثلون عن الأمن العام ووزارة الداخلية. عملية الإجلاء تتم بمعرفة الحاكم الإداري وإشرافه.
تندرج الصلاحيات الممنوحة للحاكم الإداري بموجب قانون منع الجرائم تحت مفهوم الضبط الإداري، بحسب ما استقر اجتهاد محكمة العدل العليا، المتمثلة بقيود وضوابط ترد على نشاط الأفراد وحرياتهم بهدف حماية النظام العام، لكن تقتضي متطلبات الضبط الإداري الموازنة والمواءمة بين حقوق الأفراد وحرياتهم، وبين تقييد هذه الحريات.
والمقلق بهذا الموضوع أن قانون منع الجرائم لم ينص على استخدامه في حالة الجلوة؛ إذ حصر الفئات التي يطبق بحقها على سبيل الحصر وليس من ضمنها عائلة الجاني وأقاربه، وذلك سندا لأحكام المادة (3) من هذا القانون، وهي: كل من وجد في مكان عام أو خاص في ظروف تقنع المتصرف بأنه كان على وشك ارتكاب أي جرم أو المساعدة على ارتكابه، كل من اعتاد اللصوصية أو السرقة أو حيازة الأموال المسروقة أو اعتاد حماية اللصوص أو إيواءهم أو المساعدة على إخفاء الأموال المسروقة أو التصرف فيها وكل من كان في حالة تجعل وجوده طليقاً بلا كفالة خطرا على الناس.
وفي ما يتعلق بالصلاحيات الممنوحة للحاكم الإداري بموجب أحكام هذا القانون فهي: مطالبة الأشخاص المعنيين بتعهد حسن السيرة والسلوك خلال المدة التي يستصوب المتصرف تحديدها على أن لا تتجاوز سنة واحدة والإقامة الجبرية بوضعه تحت رقابة الشرطة أو الدرك مدة لا تزيد على سنة واحدة… وبحسب اجتهاد محكمة العدل العليا فإن صلاحية الحاكم الإداري تقديرية بهذا الخصوص[1]. وفي هذه الحالة، للشخص الذي تُفرض عليه الإقامة الجبرية أن يقيم ضمن حدود أي قضاء أو مدينة أو قرية معمورة في المملكة وأن لا ينقل مكان إقامته الى أي قضاء أو مدينة أو قرية أو معمورة أخرى بدون تفويض خطي من قائد المنطقة، وأن يمتنع عن مغادرة القضاء أو المدينة أو القرية التي يقيم فيها بدون تفويض خطي من قائد المنطقة، وأن يعلم قائد المنطقة التي يقيم فيها عن تغيير منزله أو مسكنه وأن يحضر الى أقرب مركز للشرطة كلما كلفه بذلك مأمور الشرطة المسؤول عن القضاء أو المدينة التي يقيم فيها، وأن يبقى داخل مسكنه من بعد غروب الشمس بساعة واحدة لغاية شروقها، ويجوز للشرطة أو الدرك أن تزوره في أي وقت للتأكد من ذلك.
كما يكون للحاكم الإداري اللجوء إلى التوقيف الإداري إذا تخلف الشخص الذي صدر قرار بتكليفه أن يعطي تعهداً عن تقديم التعهد.
وفي ضوء هذه الصلاحيات، يمكن الجزم بعدم مشروعية قرارات الحاكم الإداري القاضية بفرض الجلوة العشائرية لافتقارها لأي سند قانوني؛ إذ ان الأشخاص الذين يطبق بحقهم هذا القانون أو الحالات التي تستدعي تطبيقها ليس لها علاقة بالجلوة العشائرية. وبالتالي نميل إلى الاعتقاد بأنها قابلة للإلغاء أمام محكمة العدل العليا بسبب عدم شرعيتها. كما يمكن لأهل الجاني المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي تعرضوا لها من جراء هذه القرارات، فبحسب نص المادة 9/ب من قانون محكمة العدل العليا فإنها تختص في طلبات التعويض عن القرارات والإجراءات المنصوص عليها في الفقرة، سواء رفعت اليها بصفة أصلية أو تبعية[2]. أي أن القانون أفرد لدعوى التعويض نصا خاصا تمييزا لها عن دعوى الإلغاء؛ حيث إن الهدف من دعوى الإلغاء طلب إلغاء قرار إداري لعدم شرعيته، فيما تنصبّ دعوى التعويض على الطلب من الإدارة العامة بأن تؤدي تعويضا بسبب الأضرار المادية والمعنوية التي تعرض لها الشخص جرّاء القرار غير المشروع.
واللافت للنظر أن التوجه العام عند غالبية الأردنيين هو عدم التشكيك بشرعية الجلوة العشائرية بل إنهم يؤمنون بأهميتها، هناك من ينادي بالحد من آثارها مثل أن يقتصر تطبيقها على الأقارب من الدرجة الأولى أو الثانية لكن دون إلغائها.
محام وأستاذ القانون المشارك بجامعة الإسراء، الأردن
[2]تجدر الإشارة ام أوائل تطبيقات محكمة العدل العليا بالتعويض كانت متعلقة بقرارات الحاكم الإداري صادرة بالاستناد إلى قانون منع الجرائم، عدل عليا قرار رقم 155/1992 و بنفس المعنى أنظر عدل عليا قرار رقم 91/1995
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.