موقوفات، مهدّدات، سجينات: نساء ضدّ المسار


2024-06-10    |   

موقوفات، مهدّدات، سجينات: نساء ضدّ المسار

في الوقت الّذي لم تجد النّساء حيّزًا لممارسة العمل السياسي وتقلّصت تمثيليّتهنّ في المجالس المُنتخَبة، تتوافر حظوظهنّ في الملاحقات القضائية أكثر من مشاركتهنّ في الفضاء العامّ. إذ لم يكن التنظّم في جمعيات أو منظّمات غير حكوميّة أو الدّفاع عن الحقوق والحريّات الفردية والجماعيّة والسياسيّة باعثًا على الرّعب كما هو الحال في الوضع السياسي الحالي، حيث تسعى السلطة إلى الضغط على الحقوقيات والسياسيات والتضييق على نشاط الجمعيّات واعتبارها ذراعًا لتطبيق أجندات أجنبيّة، مع قضم هامش التعبير تدريجيًّا وتسليط المرسوم 54 وغيره من الأسلحة القانونية على كلّ من ينقد المنظومة الحاكمة والسياسات العموميّة.

خلال الأسبوعين الأوّلَين من شهر ماي، كان نسق التحقيقات والإيقافات ضدّ الناشطات في مجال حقوق الإنسان سريعًا ومُربِكًا. فقد أطلق خطاب الرئيس قيس سعيّد أمام مجلس الأمن القومي في 06 ماي الفارط شرارة الحملة ضدّ الجمعيات ومُسيّريها، التي طالت عددا من الإعلاميين. إذ تمّ تنفيذ بطاقة إيداع بالسجن في حق المحامية والإعلامية سنيّة الدهماني على معنى المرسوم 54 ليلة 11 ماي، بعدما احتمتْ إلى دار المحامي، بطريقة استعراضية، في حين ما ما زالت الصحافية شذى الحاج مبارك تقضي عقوبة سجنيّة في قضية أنستالينغو، وهي شركة مختصّة في صناعة المحتوى الإعلامي عبر الإنترنت، لشبهة الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة وارتكاب فعل موحش ضد رئيس الدولة وجرائم أخرى، بعد نقض دائرة الاتهام قرار قاضي التحقيق حفظ التهم في حقّ الصحفية. ولا يزال الملفّ أمام أنظار محكمة التعقيب.

محاصرة أنشطة الهجرة ومناهضة التمييز العنصري

كانت البداية بالاحتفاظ برئيسة جمعية “مَنامتي” لمناهضة التمييز العنصري سعديّة مصباح وشريفة الرياحي الرئيسة السابقة لمنظمة تونس أرض اللجوء لشبهة تبييض الأموال في 08 ماي الماضي. ثمّ أصدر قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس بطاقة إيداع بالسجن ضدّ سعدية مصباح يوم 16 ماي، فيما صدرت بطاقة ثانية ضدّ شريفة الرياحي، بينما كانت تقضي عطلة أمومة بعد الولادة. أثارت هذه الإيقافات انتقادات واسعة في الأوساط الحقوقية، التي دعَت إلى التحقيق مع سعدية وشريفة في حالة سراح، إذ لم ترتكبَا ما يدعو إلى سلب حريّتهما، فيما تمّ استدعاء عدد من الناشطات للتحقيق في تهم تدور في فلك الاشتغال على ملفّ الهجرة ومصادر تمويل الأنشطة اللاتي يقمن بها.

كما استُدعيت الناشطة الحقوقية في جمعية “منامتي” لمكافحة التمييز العنصري غفران بينوس أمام فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني يوم 14 ماي الفارط. وإذ حاولت المفكرة القانونية الاتّصال بها للحصول على تصريح إعلاميّ إلا أنّها اعتذرت عن ذلك لكون القضيّة ما زالت منشورة. وفي اليوم ذاته، استُدعيت رئيسة جمعية دمج للعدالة والمساواة فاطمة الزهراء لطيفي للبحث أمام فرقة الحرس بالعوينة وتمّ الإبقاء عليها في حالة سراح، إلا أنّها اعتذرت بدورها للمفكّرة عن الإدلاء بأيّ تصريح إعلامي.

لا مركزية المضايقات

في الوقت الّذي يعيش فيه مهاجرو أفريقيا جنوب الصحراء وضعًا إنسانيّا دقيقًا، منذ فيفري 2023، خاصّة في جهة صفاقس الواقعة بالجنوب الشرقي للبلاد، كانت الجمعيات والناشطات الحقوقيات موجودات على عين المكان لتقديم يد المساعدة وفق الإمكانيات المتوفرة. “كنّا نقدّم للمهاجرين غير النظاميين وصولات شراء ونؤمّن لهم المأكل والملبس كأفراد أو كناشطات حقوقيات، وكنّا نعقد اجتماعات في مقرّنا مع الجمعيات المهتمة بقضايا الهجرة”، تقول ميرا بن صالح، الناشطة الكويرية النسوية ومنسّقة جمعية دمج فرع صفاقس، في تصريح للمفكرة. يعود سبب المضايقات التي تعرّض إليها فرع جمعيّة دمج حسب تصريح ميرا بن صالح إلى اجتماعات عقدتْها منظّمات المجتمع المدنيّ للتباحث حول الوضع الإنساني بالتنسيق مع كاتب عامّ بلدية العين بصفاقس.

“استُدعيت كلّ المنظّمات التي كانت موجودة، مثل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وتونس أرض اللجوء، وجمعية أفريقيّة ودمج وغيرها، للتحقيق. أنا لم أذهب لأنّني كنت بصدد البحث حول شكايات تقدّمت بها ضدّ أمنيّين”، توضّح ميرا للمفكرة، لتضيف: “داهمت قوات الشرطة مقرّ جمعيّتنا الواقعة في نفس البناية مع منظمة أطباء بلا حدود. وقالوا للحارس إنّ هؤلاء يشتغلون على ملفّ المهاجرين. عندما استُدعينا في المرة الأولى للبحث تطرّقت الفرقة إلى موضوع الهجرة ومصادر تمويل نشاطاتنا. قدّمت إليهم وثائق الجمعية وتقاريرها المالية وتاريخ تأسيسها في الرائد الرسمي. في الفترة الأخيرة كنت في تونس واستُدعيت للتحقيق فذهبت المحامية لتُعلمني بأنّ هناك من اشتكى بنا لتهمة “الشذوذ” و “توطين المهاجرين”، وهي شكايات مقدّمة ضدّي وضدّ الجمعيّة، وبأنّ التحقيق سيجري يوم 04 جوان الماضي. ونعمة النصيري (رئيسة فرع جمعية النساء الديمقراطيات بصفاقس) توفيت في نفس اليوم الّذي كان من المفترض أن يتمّ التحقيق معها حول ملفّ المهاجرين.” 

لم تستوعب ميرا بعدُ ما حصل لها في خضمّ هذه الأحداث المُتتابعة. تواصل موضحة للمفكّرة أنّ مكتب الجمعية مغلق وهي بذلك لا تشتغل. بالإضافة إلى تهديدها والضغط عليها عبر تداول صورها وحسابها على فايسبوك وهي تحمل لافتة في إحدى المظاهرات تحمل عبارات “كلّنا مهاجرات”، في صفحات محسوبة على وزارة الداخلية وفق قولها، خاصّة وأنّها تقدّمت بثلاث شكايات ضدّ أعوان أمن. “كلّ الأحداث مرتبطة ببعضها البعض. تقدّمت بشكاية ضدّ التفقّدية وضدّ إحدى النقابات الأمنية، فاستغلّوا الوضع”، هذا ما أفادت به ميرا.

كما استُدعيت الناشطة وفاق ميري للتحقيق أمام فرقة الأبحاث بالعوينة، يوم 24 ماي الماضي. تقول وفاق للمفكرة القانونية إنّها في البداية أوقفت في الشارع بمدينة صفاقس مع صديقها الصحافي الأجنبي ومهاجرة غير نظامية: “كنا بصدد إجراء حوار مع المرأة المهاجرة التي تعكّرت صحّتها بعد الولادة، وكان الهدف إنتاج عمل صحفي يتحدّث عن المهاجرات وصعوبة نفاذهنّ إلى الخدمات الصحّية. ولكن فوجئنا بعونَي أمن بزيّ مدنيّ يقتاداننا إلى منطقة الأمن بباب بحر، صفاقس. تمّ التحقيق معنا لمدّة ساعتين على سبيل البحث والاسترشاد دون حضور محامٍ. في البداية امتنعت ولكنّهم أجبروني على الإجابة”.

سُئلت وفاق عن طبيعة علاقتها بالصحافي الأجنبي الّذي كانت معه، وعن احتمال أن يكون صهيونيّا، وعن المرأة المهاجرة وسبب إجراء الحوار معها ومحتواه، كما سُئلت عن عنوانها ومقرّ عملها. ثُمّ تمّ استدعاؤها في حالة تقديم لوكيل الجمهورية يوم الأربعاء، الّذي ارتأى مواصلة البحث لدى وحدة مختصّة. حُجز هاتفها وهاتف صديقها الصحافي، وتمّ اصطحابهما إلى ثكنة الحرس الوطني بالعوينة بتونس العاصمة. “تمّ التحقيق معي يوم الجمعة 24 ماي من الفرقة المركزية للبحث بالعوينة، وكان القرار الإبقاء علينا في حالة سراح. أرادوا للبحث أن يذهب باتّجاه التخابر مع صحافي أجنبي، وسُئلت عمّا إذا كنت أتقاضى مقابلاً مادّيا لقاء عملي، فقلت لهم إنّني فقط أترجم الأسئلة من الإنجليزية للفرنسية، وإنّ الصحافي مجرّد صديق عرفته من سنة 2021. كان هناك إصرار على معرفة البلدان التي زارها من قبل وعن احتمال أن تكون له ارتباطات بالكيان الصهيوني”.

تحوّل الصفات في البحث: من شاهدة إلى متّهمة

تلقّت فريال شرف الدين رئيسة جمعية كلام الناشطة في مجال حقوق الإنسان  استدعاءً للمثول أمام فرقة الجرائم الإلكترونية بثكنة الحرس بالعوينة يوم الاثنين 20 ماي، على خلفيّة رفعها شعارات مناهضة للسلطة ليلة اقتحام دار المحامي للمرة الثانية واعتقال مهدي زقروبة، في 13 ماي الماضي. “تلقّيت استدعاءً يوم الجمعة 17 ماي كشاهدة في قضيّة. عند تمكيني من الاستدعاء لم أجد فيه إشارة عمّا إذا كنت شاهدة أو متّهمة، ولم أعرف هل أصطحب معي محاميًا أو لا، ولكنّني اتصلت بثلاثة محامين لمرافقتي”، تقول فريال شرف الدّين رئيسة جمعية “كلام” في تصريح للمفكرة القانونية، وتضيف: “عندما دخلت طلبوا إعلام النيابة العمومية، وحينها فهمت أنّني متّهمة ولست شاهدة. قيل لي إنّ النيابة العمومية أرسلت تعليمات بفتح تحقيق ضدّي على خلفيّة الاقتحام الثاني لدار المحامي، لأنّني رفعت شعارات يبدو أنّها أزعجت النيابة العمومية أو وزيرة العدل”.

فريال كانت حاضرة رفقة عدد من الناشطين والناشطات في دار المحامي إثر اقتحامها يوم 13 ماي الفارط واعتقال المحامي مهدي زقروبة، ورفعت شعارات ضدّ البوليس والسلطة الحاكمة مع بقيّة الحضور، وثّقتها بعض المواقع وتمّ تداولها على صفحات التواصل الاجتماعي، وهو ما استدعى استقدامها للتحقيق. تقول فريال إنّ الفرقة مدّدت في الاستماع إليها عقب اتّصال هاتفي، ليُضاف سؤالٌ حول تمويلات الجمعية التي تنتمي إليها: “عند غلق البحث، تمّ تمديد الاستماع إليّ شفاهيّا وليس كتابيّا، وسُئلت عن عملي وعن الجمعية التي أنتمي إليها وعن تمويلاتها، في حين أنّ البحث الأول لم يتطرّق إلى هذه الأسئلة. أنا رفضت الإجابة لأنّ التحقيق تمّ في فرقة الجرائم الإلكترونية وليس في فرقة الجرائم المتشعّبة، فلا داعٍ إذن للسؤال عن التمويلات”.

تقول فريال إنّ تحوّلها من شاهدة إلى متّهمة أشعرها بعدم الارتياح، وهو أمر طبيعي: “القضية ما زالت منشورة وأنا أشعر بالغبن. أفنيت شبابي في الاعتصامات والإضرابات حتّى تكون بلادي حرّة بحقّ. لا أقول إنّ حريّة التعبير مهدّدة، بل وُضعت في قفص وأُغلق عليها بإحكام”.  وفي نفس السياق عبرت شرف الدين عن استيائها من تداول مقطع الفيديو الّذي كانت تعبّر فيه عن غضبها ولمّحت إلى أنّ بعض الصحافيين لا يتعاملون بمهنيّة.

بين التآمر والمرسوم 54

كانت شيماء عيسى تناضل ضمن جبهة الخلاص المعارضة لتدابير قيس سعيّد. معارضتها وانتقادها لنتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي نُظّمت في 17 ديسمبر 2022 كلّفتها ثلاث تُهم في رصيدها، وهي تباعًا نشر أخبار زائفة على معنى المرسوم 54، وتحريض العسكريين على عدم إطاعة الأوامر بمقتضى مجلّة المرافعات والعقوبات العسكرية، إلى جانب تهمة ارتكاب أمر موحش ضدّ رئيس الدّولة وفق المجلّة الجزائية. مردّ هذه التّهم هو تصريح إذاعي (بداية من 10:49-11:14) قالت فيه “لديّ ثقة في الجيش التونسي […] الّذي لا يمكن أن يكون متفرّجًا. […] لا بدّ للجيش التونسي أن يكفّ عن دعم مسار هذه الانتخابات ونحن كقوى ديمقراطية معارضة سنمنع الدّور الثاني وعلى الجيش الثاني أن يتوقّف عن مساندة هذا […] بالنسبة إليّ، لديّ ثقة بأنّ الجيش لن يدخل في هذه الفوضى […]”.

بالتوازي مع ذلك، واجهت شيماء عيسى تهمة التآمر على أمن الدّولة ضمن عدد من المعارضين، بسبب لقائها عددا من القوى المعارضة لمناقشة الوضع السياسي، وتمّ اعتقالها يوم 22 فيفري 2023 ليُطلق سراحُها بعد أربعة أشهر من الإيقاف التحفّظي يوم 13 جويلية من نفس السنة، في ملفّ “التآمر”، لتظلّ التّهم الأخرى المُحالة على أنظار الدائرة الجنائية بالمحكمة العسكرية سارية. إذ استُدعيت شيماء أمام المحكمة العسكرية في 14 نوفمبر 2023 وهي في حالة سراح، لتُصدر المحكمة قرارًا بسجنها لمدّة سنة مع تأجيل التنفيذ في 13 ديسمبر 2023 على خلفيّة التصريح الإذاعي من أجل التهم المذكورة آنفًا. فيما أصدرت محكمة الاستئناف العسكرية حكمًا بالسجن لمدّة سنة مع النفاذ العاجل يوم 08 ماي الجاري، فيما وُجّه لها استدعاء للمثول أمام محكمة الاستئناف العسكرية في 06 جوان المقبل، بالتزامن مع موعد تعيين الجلسة للنظر في الحكم الصادر في حقّها. وقد تمّ تأجيل هذه الجلسة ليوم 04 جويلية القادم. 

رغم غيابها عن الساحة السياسية منذ انقضاء العهدة النيابية 2014-2019، وجدَت المحامية والرئيسة السابقة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، بشرى بالحاج حميدة، نفسها ضمن ملفّ التآمر على أمن الدّولة، بعد صدور قرار ختم البحث في 12 أفريل المنقضي، بتهم تتعلّق بالإرهاب والتآمر وارتكاب فعل موحش ضد رئيس الدولة. وقد أثارت هذه التّهم استنكار جمعية النساء الديمقراطيات التي نشرت بيانًا انتصارًا للحقوق والحريات والمكتسبات، قالت فيه إنّ “السلطة السياسية التي أطلقت يديها على القضاء، لم تكلّف نفسها حتى مشقة تقديم أي أسانيد فعلية أو قانونية قد تفضي إلى اتهام بشرى بالحاج حميدة أو غيرها ممن زج بهم في هذا الملف، ما يثبت أي مآخذ قانونية ضدها. بل اكتفت أعمال البحث بعناصر من قبيل حصولها على وسام استحقاق فرنسي، وهو استحقاق حصلت عليه قبلها مئات التونسيين والتونسيات، وقد بنت عليه السلطة تهما واهية هي براء منها”. كما استنكرت الجمعيّة إدراج اسم بشرى ضمن قائمة المتهمين في حالة فرار، في حين أنّها لم تتلقّ أي استدعاء قانوني.

محاميات هيئة الدّفاع أمام التحقيق

اتّخذ ملفّ التآمر على أمن الدّولة أبعادًا سياسيّة وقانونية متشعّبة، لأنّ الأمر لم يعد يتعلّق فقط بالسياسيين الموقوفين على ذمّة التحقيق فيه، بل تجاوزه ليشمل أيضا المحامين. ففي 15 جوان 2023، أعلنتْ المحامية إسلام حمزة أنّها محلّ شكاية توجّهت بها إدارة السجون والإصلاح ضدّها على معنى المرسوم 54، على خلفيّة تصريح إعلامي ذكرت فيه “سيارة التعذيب” الّتي تنقل الموقوفين من مركز الشرطة إلى السجن. وبعد التحقيق معها في 21 جوان 2023، تمّ الإبقاء عليها في حالة سراح. أيّامًا بعد هذه الحادثة، أصدر قاضي التحقيق بالقطب القضائيّ لمكافحة الإرهاب، في 18 جوان 2023 قرارًا يقضي بمنع التداول الإعلامي في ملفّ التآمر على أمن الدّولة، وهو ما مهّد لسلسلة من المضايقات ضدّ أعضاء وعضوات هيئة الدّفاع عن الموقوفين على ذمّة هذه القضيّة، لتجد إسلام حمزة نفسها مرّة أخرى محلّ تتبّع، مع زميلتها دليلة بن مبارك مصدّق. حيث ذكرت إسلام حمزة لدى حضورها في إحدى الإذاعات الخاصّة يوم 28 سبتمبر 2023 أنّ الملفّات مُفبركة وسياسيّة والغاية منها تأبيد الحكم، فيما تحدّثت دليلة بن مبارك مصدّق يوم 29 سبتمبر في إذاعة أخرى عن إيداع مطلب رسمي لدى قاضي التحقيق لسماع ستّة ديبلوماسيين ممّن يُتّهم المحتجزون بالتواصل معهم. وهو ما عجّل بإحالة المحاميتَين أمام قاضي التحقيق بإذن من وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس” من أجل تداول كل منهما إعلاميا في وقائع القضية التحقيقية المعروفة لدى الرأي العام بقضية “التآمر على أمن الدولة” ونسبة أمور غير صحيحة لموظف عمومي” وفق بيان الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

فيما أثارت النيابة العمومية قضيّة أخرى لاحقًا ضدّ دليلة بن مبارك مصدّق وفق المرسوم 54، حيث تمّ استنطاقُها من قبل قاضي التحقيق بالمكتب عدد 21 بالمحكمة الابتدائية بتونس على خلفيّة تصريح إعلامي في قناة تلفزية خاصّة بُثّ يوم 21 نوفمبر 2023، تحدّثت فيه عن ملفّ التآمر وعن جلسة مرتقبة للنظر في مطالب الإفراج عن المعتقلين، لتجد نفسها محلّ شكوى رفعتها ضدّها النيابة العمومية، يوم 28 نوفمبر. وفي 29 نوفمبر، أحالت الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف المحامية على التحقيق في قضية أخرى على معنى المرسوم عدد 54 والفصول 13 و87 من قانون حماية المعطيات الشخصيّة و315 من المجلّة الجزائيّة على خلفيّة ذلك التصريح الإعلامي، لتبقى في حالة سراح إثر سماعها من قبل قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم 05 ديسمبر 2023.

لم تقتصر المضايقات على المحاميَتَيْن إسلام حمزة ودليلة بن مبارك مصدّق، بل كانت مسبوقةً بتتبّعات ضدّ 14 محاميَا ومحاميةَ من بينهم إيناس الحرّاث، الّتي نشرت تدوينة على حسابها بفايسبوك بتاريخ 16 فيفري 2023، قالت فيها إنّه “من البديهي أنها إحالة سياسية لمحامين يزعجون الانقلاب ولا أهمية لنوعية القضية أو التهم أو الوقائع أو الإجراءات”، مؤكّدة أنّه “يُفترض أن الجميع يدرك أن الهدف الواضح والمعلن من كل ما يحصل هو تصفية المقاومة وإخراس الجميع نهائيا”، ليصدر في شأنها قرار تحجير سفر، أكّدته في تدوينة أخرى، يوم 21 مارس 2023. 

تهم متنوعة للحزب الدستوري الحر 

لا تختلف قضايا النساء الملاحقات عن بعضها من حيث السياق، إذ ترد كلّها في ظلّ مناخ سياسيّ ماضٍ في إفراغ الساحة السياسية والتضييق على النشاط الجمعياتي وحريّة التعبير، وهي ممارسات شملت مختلف العائلات السياسيّة، من الإسلاميين والتقدميّين و”الدساترة” (نسبة إلى الحزب الدستوري)، حيث أودعت رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي السجن في 05 أكتوبر 2023، فيما يُعرف بقضيّة “مكتب الضبط بقرطاج”، حيث تمّ إيقافها يوم 03 أكتوبر بعد أن رفض مكتب الضبط برئاسة الجمهورية تسلّم مطالب مسبقة للطعن في ثلاثة أوامر رئاسية أودعتها عبير موسي بحضور محام وعدل منفّذ تمهيدًا للطعن فيها أمام المحكمة الإدارية، وهي على التوالي “دعوة الناخبين لانتخابات أعضاء المجالس المحلية وتحديد تراب أقاليم الجمهورية التونسيّة والولايات الرّاجعة بالنّظر لكل إقليم”، و”تقسيم الدوائر الانتخابية وضبط عدد المقاعد المخصصة لها لانتخابات أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم”.

وأصدر عميد قضاة التحقيق بمحكمة تونس في شأنها بطاقة إيداع بالسجن على معنى الفصلَين 72 و136 من المجلة الجزائية، لشبهة الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي، وكذلك تعطيل حرية العمل، وتهمة معالجة معطيات شخصية من دون موافقة صاحبها  على معنى قانون 2004 المتعلّق بحماية المعطيات الشخصية، على اعتبار أنّها بادرت بتصوير مقطع فيديو في مكان يقع على مقربة من قصر قرطاج، تحدّثت فيه عن الطّعون التي قدّمتها وعن رفض مكتب الضبط قبول تلك المطالب دون أي عذر.

 وقد حفظت دائرة الاتهام الجناية المُجرّمة بالمجلة الجزائية لتسقط عنها الصبغة الجنائية واقتصرت الإحالة على جنحة معالجة المعطيات الشخصية وتعطيل حرية العمل، وفق ما ذكرته هيئة الدفاع عن عبير موسي في نقطة إعلامية يوم 28 فيفري المنقضي. إلا أنّ النيابة العمومية طعنت في قرار دائرة الاتهام، وهو ما اعتبره أعضاء هيئة الدفاع خرقًا للفصل 259 من مجلة الإجراءات الجزائية، الّذي ينصّ على أنّ “القرار الصادر عن دائرة الاتهام والقاضي بإحالة المتهم على المحكمة الجناحية أو على حاكم الناحية لا يمكن الطعن فيه لدى محكمة التعقيب إلا إذا بتت الدائرة المذكورة من تلقاء نفسها أو بطلب من الخصوم في مسألة تتعلق بمرجع النظر أو كان قرارها يتضمن مقتضيات نهائية ليس للمحكمة المحالة عليها القضية حق تعديلها”، وهو ما لم يحصل في قضيّة الحال.

كما تُواجه عبير موسي أربع شكايات من هيئة الانتخابات، فُتح التّحقيق في ثلاثٍ منها، وتمّ استنطاقها في واحدة، على خلفية تصريحات إعلامية أدلتْ بها يوم 09 ديسمبر 2022 وتداولته وسائل الإعلام بخصوص الانتخابات التشريعية. وقد أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا يدعو السلطات إلى إطلاق سراح رئيسة الحزب الدستوري وإسقاط التهم عنها، على خلفية تعبيرها عن رأيها من خلال انتقادها العلني للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وبسبب ممارسة حقها في حرية التجمع، وفق نصّ البيان.

فيما تواجه عبير موسي شكاية من منظمة الدفاع عن المعتقدات والمقدّسات ومناهضة التطرّف والإرهاب، رفعتها المنظّمة منذ فيفري الفارط بسبب فيديو نشرته عبير موسي على صفحتها في فايسبوك، تتّهم فيه الجمعية بأنّها امتداد لاخطبوط للحركات الإسلامية والإخوانية، وفق ما ذكره الناطق الرسمي باسم الجمعية، وتمثل بمقتضى هذه الشكاية أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم 10 جوان الجاري، بالتوازي مع شكاية أخرى ضدّها لمخالفة أحكام الفصل 115 من المجلة الجزائية، الّذي يعاقب من لا يمتثل لما أمرت به القوانين، ومن يمتنعون عن بيان أسمائهم ومقراتهم وغير ذلك من الأفعال المُجرّمة بهذا الفصل. ومن المُنتظَر أن تُستدعى عبير موسي يوم 12 جوان أمام محكمة الاستئناف في قضية تعود إلى سنة 2019، تتعلّق بخرق الصمت الانتخابي.  

وكانت عضوة الديوان السياسي للحزب، مريم ساسي قد واجهت التّهم ذاتها في قضيّة “مكتب الضبط”، لتقرّر النيابة العموميّة يوم 04 مارس الماضي الاحتفاظ بها على خلفيّة “تتبّعات جديدة جاءت من رحم القضيّة الأصلية” وفق ما أكّده المحامي نافع العريبي في تصريح لإذاعة خاصّة، ومردّ هذا الاحتفاظ هو ما ذكره قاضي التحقيق حول حذف مريم ساسي محادثات “خطيرة” على حسابها على فايسبوك ومجموعات تواصل، فيما يتّهم المحامي الخبيرَ المتعهّدَ بالبحث في المحجوزات بقرصنة حسابها على فايسبوك والتجسس على مجموعة واتساب اسمها هيئة الدفاع، تتكوّن من المحامين ومريم ساسي المعنيّة التي تمّ الاحتفاظ بها. فيما قضت المحكمة الابتدائية بتونس يوم 30 ماي بسجنها ثمانية أشهر سجنا على معنى الفصل 20 للمرسوم 54 بتهمة التعمد بدون وجه حق إعاقة عمل نظام معلومات بإدخال بيانات معلوماتية أو إرسالها أو إلحاق ضرر بها أو تغييرها، أو فسخها، أو إلغائها، أو تدميرها، أو باستعمال أي وسيلة إلكترونية أخرى.

كما سُلّط المرسوم 54 على النائبة فاطمة المسدّي الّتي طالما دافعت عنه وساندت بشدّة كلّ سياسات قيس سعيّد منذ اتخاذ تدابير 25 جويلية، حيث تقدّمت هيئة الانتخابات بشكوى ضدّها على خلفيّة تصريح إعلامي يعود إلى أوت 2023، ليتمّ إعلامها بورود مطلب رفع الحصانة عنها، في 29 ماي الماضي. وهو ما يعني أنّ آلة القمع لا تميّز بين مساندة ومعارضة، بل هي سيف مسلّط على رقاب الجميع، ولعلّها تكون مناسبة لمن مازال يستميت في الدّفاع عن الاستبداد الناشئ الّذي ثبّته قيس سعيد منذ 25 جويلية 2021. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني