أظهر مسح جرى أخيراً أنّ 68 بالمائة من عاملات المنازل المهاجرات في لبنان تعرّضن على الأقلّ مرة واحدة للتحرّش أو العنف الجنسي خلال عملهنّ أو إقامتهنّ في لبنان. وقالت 25 بالمائة فقط منهنّ إنّهنّ تمكنّ من الإفصاح لأحد عمّا عانينه. ومعظم حالات الإفصاح انتهت من دون التوصّل إلى حل يمكّنهنّ من تأمين الحماية.
والمسح هو جزء من دراسة أعدّتها مجموعة Egna Legna، التي تقدّم الدعم لعاملات المنازل المهاجرات، بالشراكة مع معهد دراسات الهجرة في الجامعة اللبنانية الأميركية بإدارة د. جاسمين ليليان دياب في الجامعة اللبنانية الأميركية.
وتتعرّض العاملات للتحرّش والعنف الجنسي بين جدران المنازل وفي وسائل النقل العام، وفي الأزقة وفي مداخل الأبنية كما في المحال التجارية. ويوحي ارتفاع نسبة اللواتي تعرّضن للتحرّش والعنف الجنسي من العاملات المهاجرات، أنّ هناك استسهال من قبل المرتكبين. كيف لا وثمة منظومة اجتماعيّة وقانونية تكرّس غياب الحماية القانونية للعاملة تبدأ بنظام الكفالة العرفي الذي يرعى تقييد حريّات العاملة وحقوقها عبر ربط إقامتها برضوخها لشروط صاحب العمل، وتمرّ باستثنائها من حماية قانون العمل وصولاً إلى القضاء الذي يعدّ أداة إضافية لتعزيز نظام الكفالة ومعه امتياز أصحاب العمل.
وهذه المنظومة تؤدي إلى تغييب مشاكل العاملات التي ترقى أحياناً إلى مصاف الاضطهاد والاتجار بالبشر، وحتّى التطبيع معها بحسب الدراسة التي هي عصارة عمل استغرق أكثر من عام تضمّن جمع بيانات حول تعرّض عاملات المنازل المهاجرات للتحرّش والتعنيف الجنسي، وخرجت بنتائج صادمة.
في كانون الأول 2020 أقرّ البرلمان اللبناني القانون رقم 205 لتجريم التحرّش الجنسي وتأهيل ضحاياه، وهو قانون رأت الدراسة أنّه كان من المفترض أن يخصّص حيّزاً لعاملات المنازل نظراً إلى كونهنّ مغيّبات عن قانون العمل ومقيّدات بنظام الكفالة ومظلومات أمام المحاكم. واعتبرت الدراسة أنّ عدم تخصيص هذه الفئة في نصّ القانون يعتبر بمثابة استثناء لها منه.
68 بالمائة أبلغن عن تعرّضهن لأحد أنواع التعنيف الجنسي
حملت الدراسة عنوان “لمحة عن الأبعاد الجندرية للعنف الجنسي ضدّ عاملات المنازل المهاجرات في لبنان ما بعد الأزمة” (a snapshot of the gender dimensions of sexual violence against migrant domestic workers in post crisis lebanon).
وشملت مسحاً لعيّنة من 913 عاملة، أظهر أنّ 68 بالمائة تعرّضن على الأقلّ مرة واحدة للتحرّش والعنف الجنسي وفقط 25 بالمائة منهنّ تمكّن من الإفصاح لأحد عمّا عانينه. ومعظم حالات الإفصاح انتهت من دون التوصّل إلى حلّ يمكّنهنّ من تأمين الحماية، فواجهت العديد من السيدات بحسب الدراسة عدم تجاوب مع شكواهنّ، لا بل حتى ووجهنَ بالتكذيب، وإهمال الشكوى أو تلقّين نصائح غير فعّالة كالتزام الحذر أو الهرب وأحياناً تلقين النصائح في المراكز الأمنيّة الموجبة حمايتهنّ.
ومن حيث هوية المرتكبين، يتّضح بحسب الدراسة أنّ 70 بالمائة هم أصحاب العمل الرجال، و40 بالمائة أصدقاء أصحاب العمل، و25 إلى 30 بالمائة صاحبات العمل النساء، و65 بالمائة سائقي تاكسي، و15 بالمائة عناصر أمنية.
والنسبة الكبيرة من ضحايا هذه الاعتداءات، أدلين بتعرّضهن لأنواع أخرى من التعنيف، مثل الحرمان من الأجر، والمنع من التنقّل، ومنع إجراء الاتصالات الهاتفية، وإجبارهنّ على القيام بمهام خارج ما ينصّ عليه عقد العمل.
المقابلات مع العاملات تولّتها مجموعة من المتطوّعات من Egna Legna. وسمعت المتطوعات شهادات العاملات عن تجاربهنّ مع التحرّش والعنف الجنسي. وتولّت Egna Legna بالشراكة د. جاسمين تحليل البيانات وكتابة الدراسة التي بدأ تنفيذها في كانون الثاني 2021 وانتهت في حزيران 2022. وجرى الإعلان عن نتائجها خلال ورشتي عمل حصلتا يومي الجمعة والسبت في 14 و15 تشرين الأول 2022 في مبنى عدنان القصّار في الجامعة اللبنانيّة الأميركية.
شهادة: أهانوني لأنني صرخت على المتحرّش “أشعر أحياناً بالحزن والعجز.ذات يوم ذهبت إلى محل تجاري لأشتري شيئاً، الرجل هناك توجّه لي بالقول: “سأعطيك مالاً إن مارست الجنس معي”. بدأ بملامستي، فصرخت عليه لكنه لم يتوقف. وبدأ الأشخاص المتواجدين في المكان بإهانتي. كانوا يدافعون عن المعتدي”.
شهادة: دخل عليّ الحمام وخلع بنطاله “لا أعرف لماذا أراد أن يفعل ذلك. كنت قد أنهيت الاستحمام وأريد أن أرتدي ملابسي. فتح الباب ودخل، ثم خلع بنطاله، صرخت عليه وطلبت منه الخروج. أقدم على فعلته مرّة أخرى، أيضاً كنت أستحم ودخل الحمام. دفعته إلى الخارج، وبعدها تركت العمل نهائياً”.
قلّة تمكنّ من إطلاع أحد على معاناتهنّ
الصادم في الأرقام هي النسبة التي لم تتخطَ 25 بالمئة من مجمل المتعرّضات للتحرّش أو العنف الجنسي في العيّنة اللواتي تكلّمن مع أحد عن الحادث، وهذا نتيجة ضيق سبل اللجوء للحماية لدى عاملات المنازل. وتلفت الدراسة إلى أنّ هذه النسبة بحن بمعاناتهنّ سواء في المخفر أو القنصلية أو السفارة أو لتجمّعات أو مؤسسات متخصّصة بمساعدة العاملات المهاجرات، أو مرجعيّات دينية، أو لأحد أفراد عائلة المعتدي أو جيرانه أو أصدقائه. وفي بعض الحالات، لجأت العاملات المنزليّات إلى الهروب من منزل المعتدي الذي تعمل لديه.
وخلصت الدراسة إلى أنّ 65 بالمائة من الشكاوى لدى الأجهزة الأمنية بهدف الحصول على الحماية القانونية والدعم فشلت إذ اصطدمت المشتكيات بنصائح مثل “توخّي الحذر”، أو إعلامهنّ أنّه تمّ حفظ الشكوى (من دون إجراء أي تحقيق)، أو ببساطة نُصحنَ بـ “الهرب”.
وتشير الدراسة إلى أنّ أسباب عدم لجوء عاملات المنازل لقانون تجريم التحرّش ينبع من عدّة عوامل، أبرزها عدم معرفتهنّ بوجود القانون، وتجاربهنّ السيئة مع المراكز الأمنيّة، والخوف من توقيفهنّ في حال خسارة أوراق الإقامة والمستندات الرسمية في حال توجههنّ إلى مركز أمني، إضافة إلى الخشية من عدم تصديقهنّ والانحياز لصاحب العمل اللبناني. ويُضاف إلى ذلك، عدم قدرة العاملات على التنقل بخاصّة العاملات في المنازل اللواتي لا يتمكنّ من الخروج من المنزل بحرية كما واحتجاز جوازات سفرهنّ وأوراق الإقامة.
شهادة: تعرّضت للاغتصاب والمخفر رفض مساعدتي “ذهبت إلى المخفر بعد تعرّضي للاغتصاب والضرب على يد رجل في برج حمّود، كنت بحاجة لدخول المستشفى، واحتجت لاحقاً إلى 12 قطبة. كان لديّ براهين أنني تعرّضت للاعتداء، لكنّ العناصر الأمنية أعلموني أنّهم لا يمكنهم فعل شيء”. وتضيف: “البارحة تعرّضت لاعتداء بالضرب أيضاً، لكنني لم أذهب لتقديم شكوى لدى الأمن، لأنهم إمّا سيضحكون عليّ، أو لن يفعلوا شيئاً”.
اختلال توازن السلطة يمنح المعتدي السلطة
تشرح إحدى عضوات المجموعة لـ “المفكرة القانونيّة” أنّ Egna Legna منذ انطلاقتها وعبر اللقاءات التي تجريها مع العاملات المهاجرات لطالما تسمع شكاوى النساء المهاجرات من سهولة تعرّضهن للعنف الجنسي. وتلمس المجموعة صعوبة تعامل المرأة المهاجرة في لبنان مع حادثة التعنيف، ومرورها بمستويات معقدّة للتعامل مع هذه الحوادث. تقول “وجدنا ضرورة أن نُخرج هذه القضية إلى العلن، ومنع هذه القضايا من التغييب”. وتُضيف: “نريد أن نقول إنّ التعنيف الجنسي بحق عاملات المنازل المهاجرات ليس عادياً، وأن ننشر الوعي تجاه هذا الأمر لحث المجتمع على عدم الصمت تجاه ما تتعرّض له عاملات المنازل”.
تشرح الناشطة التي تحدثت باسم المنظمة أنّ “اختلال توازن السلطة” Imbalance of power هو أمر أساسي لفهم ردود أفعال ضحايا التعنيف الجنسي. وتقول: “غالباً تكون حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي في مكان العمل، وبشكل أساسي المنازل”. وتلفت إلى أنّ العاملات، ومنهنّ عاملات يلزمن منزل صاحب/ة العمل، وأخريات يعملن على الساعة ويقمن في منزلهنّ الخاص. تُضيف، “العلاقة بين الضحية والمعتدي هي علاقة بين عاملة وشخص ذي السلطة. ولذا، فإنّ المعتدي يستسهل الاعتداء على العاملة التي تقيم في المنزل بسبب سيطرته على حريتها في التنقل والتواصل مع العالم الخارجي، وأمّا العاملات في الساعة غالباً يتم تخويفهنّ بالإبلاغ عنهنّ بسبب خسارة معظمهنّ لأوراقهنّ الثبوتية”.
من جهتها، تلفت د. جاسمين النظر إلى مسألة هامّة، هي أنّه “وجدنا أنّه في حالات إبلاغ الضحايا لأحد ما عن تعرّضهن للتعنيف الجنسي من دون اتخاذ أي إجراء، فإنّ ذلك يعني أنّ الصامت عن الجريمة هو مشارك فيها”. وتعطي مثالاً: “توجّهت عاملة إلى زوجة المعتدي للشكوى من تعرّضها للتحرش أو الاعتداء، فطلبت منها الصمت وألّا تُهدد الاستقرار العائلي، ما يعني أنّ الزوجة شاركت أو سهّلت الاعتداء”.
الضحايا يبقين في بيت المعتدي
تشرح الدراسة أنّ 75 بالمائة من الضحايا أشرن إلى أنهنّ عملن في “بيئة مرهقة” خصوصاً في مكان حصول حادثة التحرش أو العنف الجنسي، وهؤلاء أبلغن متطوعات Egna Legna. وأبرز الآثار الجسدية التي أبلغن عنها كانت الإرهاق الشديد (75%) تليه الجروح (55%).
وتشرح الدراسة أنّ 65 بالمائة من الضحايا اعتبرنّ أنّ محاسبة المعتدي هي أولوية. وفقط 15 إلى 20 بالمائة قِلن إنّهن يحاولن تخطّي الحادثة لوحدهنّ وبطرقهنّ الخاصة، مثل عدم فتح الرسائل التي يتلقونها من المعتدي، إشغال أنفسهنّ بالعمل، ممارسة رياضة التأمل والصلاة.
أمّا النسبة الصادمة فهي أنّ 85٪ من الضحايا لا يردن أن تتمّ إحالتهنّ إلى أي متخصص بالصحة النفسية لمساعدتهنّ على تخطي الصدمة. وشرحت الدراسة أنّ السيدات تخشين من الإفصاح عن شهاداتهنّ خوفاً من النتائج. وأبلغت أخريات المتطوعات أنّ “المتخصصين اللبنانيين ينحازون للمعتدين اللبنانيين”. وأمّا السيدات اللواتي خسرن أوراق إقامتهنّ ويعشن بصورة غير نظامية، ففضلن عدم “جذب الانتباه” كونهنّ يتنقلنّ بشكل يومي وكأنهنّ مراقبات.
شهادة: ثلاث سنوات من الحياة مع المعتدي “أنا أعيش في لبنان منذ 11 عاماً، عندما أتيت إلى هنا كانت مدة عقد العمل الخاص بي ثلاث سنوات. كان عمره (صاحب العمل) نحو 40 عاماً، كان يحاول يومياً بعد وصوله من العمل أن يتحرش بي. يحاول تقبيلي وممارسة الجنس معي. كانت مواجهة الأمر شديدة الصعوبة، لأنّ ثلاث سنوات هي زمن طويل. أصبحت لا أشعر بشيء تجاه الرجال، خاصة الرجال اللبنانيين. لا أريد أي علاقة تجمعني مع رجل لبناني. حين قررت الكلام مع “المدام” عن الأمر، طلبت منّي أن “لا أهدد استقرار عائلتها”. نحتاج للحماية كنساء في لبنان. نحتاج للكثير من الحماية”.
ماذا تعني هذه المعلومات؟
تعتبر د. جاسمين أنّ وجود دراسة من هذا النوع يهدف إلى “ملء الفراغ بمعلومات نفتقرها في لبنان عندما نتكلم عن قضايا العاملات المهاجرات وقضايا النساء بشكل عام”. وتُضيف، “أردنا تسليط الضوء على عاملات المنازل المهاجرات، وخصوصاً بعد العام 2019 ومرور لبنان بأزمة اقتصاديّة وتغيرات متعددة”. وتتابع: “ولأنّ قضية عاملات المنازل قد يتم تغييبها في هذه المرحلة، أردنا إعادة الضوء إليها من زاوية جديدة، وهي مسألة التحرش الجنسي التي نحتاج لمعرفة حولها، كما يهمنا نشر الوعي حول حصولها”.
وقد لمست د. جاسمين مع مجموعة Egna Legna أنّ “عاملات المنازل المهاجرات يشعرن أنّ قانون تجريم التحرش لم يُقر لأجلهنّ، وذلك لأنّه لم يأخذ بعين الاعتبار وضعيتهنّ الخاصّة”.
متطلبات لتعديلات قانونيّة ضروريّة
توصي الدراسة بسلّة إصلاحات تسعى إلى أن ترفعها في المستقبل القريب إلى البرلمان اللبناني وخلق شبكة ضغط هدفها إجراء بعض التعديلات القانونية والإصلاحات الأخرى. ومن هذه التوصيات سن مشروع قانون عاجل ليحل محل نظام الكفالة، كما تعديل المادة 7 من قانون العمل اللبناني ليشمل عاملات المنازل، بالإضافة إلى استكمال هذه الإصلاحات بما يتماشى مع اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن العمال المنزليين (2013) وأهداف التنمية المستدامة.
وتوصي أيضاً بضمان ملاءمة القوانين اللبنانية مع المعايير الدولية من خلال تعديل القانون رقم 293/2014 المتعلّق بالعنف الأسري من أجل تجريم جميع أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي لا سيما من خلال تشديد العقوبة لجميع هذه الجرائم كما تجريم جميع أشكال العنف الجنسي.
أمّا لجهة مكاتب الاستقدام، توصي الدراسة بوضع مدونة سلوك خاصّة بها ونقابتها، وذلك عبر تفعيل مرسوم عام 2009 بشأن مراقبة وتنظيم مكاتب الاستقدام الخاصة. ويُضاف إلى ذلك، توصية بـ تنظيم المتطلبات اللازمة لإصدار تراخيص هذه المكاتب وإنشاء آلية تفتيش ومساءلة صارمة.
وتوصي الدراسة بإنشاء ملاجئ تقدم خدمات أولية ومجانية، بما في ذلك المساعدة القانونية والمشورة وخدمات الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي للضحايا. وأيضاً، ضمان أن تكون الأطر القانونية اللبنانية فعّالة ومتّسقة لضمان إمكانية تقديم قضايا العنف القائم على نوع الجنس إلى المحاكمة بفعالية واتساق.
وتجد الدراسة ضرورة في تعزيز قدرة الجهات الفاعلة في مجال العدالة، لضمان قدرة المرأة على ممارسة حقها الكامل في الوصول إلى العدالة في قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي. وأبرز هذه التعزيزات التي وردت هي إنشاء محاكم متخصصة وتعيين قضاة متخصصين كسلطات مختصة في قضايا العنف القائم على نوع الجنس.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.